عناصر الخطبة
1/ نعمة الاستقامة وفضائلها 2/ خطر إتباع الهوى والتحذير من ذلك 3/ وسائل مقاومة إتباع الهوى 4/ رسالة إلى أهل الاستقامةاهداف الخطبة
اقتباس
هذا أعظم داء، وأفظع بلاء، أن تحبّ المعصية، وتقبل عليها، وأن تهواها وتميل إليها، وتتّخذ أسبابها وتطرق بابها، وتنصُرَها وتستدلّ لها، فشتّان شتّان بين من تأتيه المعصية فيضعف أمامها، وبين من يخطّط لها ويأخذ زمامها. فرق شاسع وبون واسع بين الخطأ والخطيئة، فالخطأ لا...
الخطبة الأولى:
بعد الحمد والثّناء.
فإنّ الله -تعالى- قد أنعم علينا بنعمٍ لا تعدّ ولا تحصى، ولا يحاط لها ولا تستقصَى، وأعظم نعمة على الإطلاق هي نعمة الاستقامة: أن يهديك الله إلى الصّراط المستقيم، قال الله -عزّ وجلّ-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) [النساء: 69]، وقال عزّ وجلّ يُنبّهنا إلى الخير الّذي عليه أهل الاستقامة: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأعراف: 15 - 16].
وفرض علينا اتّباع هذا الصّراط، ونهانا عن الالتفات والانحراف عنه، فقال الّذي وسعت رحمته كلّ شيء: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
وأرشدنا إلى أن نتوسّل ونتضرّع إليه، ليوفّقنا إلى الثّبات عليه فنقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 6 - 7].
الاستقامة شجرة ينبتها الله في النّفس، جذورها الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه، والعمل الصّالح ماؤها وغذاؤها وهواؤها وضياؤها، وثمرتها: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَـئَابٍ) [الرعد: 28 - 29].
الاستقامة طعم يفوق كلّ الطّعوم، ومذاق يعلو على كلّ مذاق، ونشوة دونها كلّ نشوة، لا ضيق ولا أرقَ، ولا حزن ولا قلق، بل سعة ورحمة، ورضًا ونعمة: (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى باِللَّهِ عَلِيماً) [النساء: 70]، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 12].
الاستقامة من ذاقها خاف أن يفقدها، شيء لا يمكن أن تجد له العبارات، فلا تملك إلاّ أن تنزّل من أجله العبرات، فلن ترى زيّاً ومنظراً أحسن وأجمل من سَمْت الصّالحين، ولن تجِد تعباً ولا نصباً ألذّ من نعاس المتهجّدين، ولن ترى ماء أرقّ وأصفى من دموع النّادمين التّائبين، ولن تجد تواضعاً وخضوعاً أحسن من انحناء الرّاكعين وجباه السّاجدين، ولن ترى جنّة في الدّنيا أمتع وأطيب من جنّة المؤمن وهو في محراب المتعبّدين، إنّه ظمأ الهواجر ومجافاة المضاجع، فيا لذّة عيش المستأنسين.
الاستقامة الّتي جعلت النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول عن الصّلاة: "أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلاَلُ"، وجعلت حرام بن ملحان -رَضي الله عنه- يوم طُعن بالرّمح حتّى نفذ يهتف قائلا: "فزت وربِّ الكعْبةِ!"، وجعلت إبراهيم بن أدهم وهو ينام في طرف السّكك في بغداد، لا يجد كسرة الخبز يقول: "والّذي لا إله إلاّ هو، إنّا في عيش، لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسّيوف".
فطوبى لمن هداه الله في هذه الأزمنة والأيّام، إلى الاعتصام بشرائع الإسلام، حتّى يلقى الله على أحسن ختام.
ولكن ما الّذي يجعل كثيرا من النّاس ينحرفون عن هذا الصّراط فلا يسيرون عليه؟ ما هو السرّ في أن لا يتوب كثير من النّاس مع وضوح الطّريق المستقيم، وظهور علامة هذا المنهج القويم؟ لماذا ينحرف أكثر النّاس عن طريق الرّشاد إلى طريق الغواية؟ من طريق الجنّة إلى طريق النّار؟
فإنّ من أسباب الانحراف: اتّباع الهوى، هذا أعظم داء، وأفظع بلاء، أن تحبّ المعصية، وتقبل عليها، وأن تهواها وتميل إليها، وتتّخذ أسبابها وتطرق بابها، وتنصُرَها وتستدلّ لها، فشتّان شتّان بين من تأتيه المعصية فيضعف أمامها، وبين من يخطّط لها ويأخذ زمامها. فرق شاسع وبون واسع بين الخطأ والخطيئة، فالخطأ لا يسلم منه أحد، والخطيئة هي الإصرار على معصية الواحد الأحد، قال الله -تعالى-: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان: 43] أرأيته؟ إنّه كائن عجيب، يستحقّ الفرجة والتّعجيب!
إنّه يحبّ ما لا يحبّه الله، حتّى كأنّه رفعه إلى مرتبة الإله، قال ابن رجب -رحمه الله-: "من أحبّ شيئاً وأطاعه، وأحبَّ عليه وأبغض عليه، فهو إلههُ، فمن كان لا يحبُّ ولا يبغضُ إلاّ لله، ولا يُوالي ولا يُعادي إلاّ له، فالله إلههُ حقاً، ومن أحبَّ لهواه، وأبغض له، ووالى عليه وعادى عليه، فإلهه هواه؛ كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية: 23]، قال الحسن: "هوَ اّلذي لا يهوى شيئاً إلاّ ركبه"، وقال قتادة: "هوَ الّذي كلّما هَوِيَ شيئاً ركبه، وكلّما اشتهى شيئاً أتاه، لا يَحجزُه عن ذلك ورعٌ ولا تقوى"، فالّذي ملأ قلبه بحبّ المعصية، يفعلها وهو مرتاح لذلك، ينصرها وينصر من ينصرها، فهذا ما ترك في قلبه مكانا للهدى، قال تعالى وهو يبيّن لنا هذه الحقيقة أنّ اتّباع الهوى سبب الانحراف: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26]، وروى الطّبراني بسند حسن عن أَنَسٍ -رضي َالله عنه- عنِ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قالَ: "ثَلاَثٌ مُهْلِكَاتٌ: هَوىً مُتَّبَعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ المَرْءِ بِنَفْسِهِ"، وقال أحد الصّالحين: "ما تحتَ ظلِّ السّماء إلهٌ يُعبد أعظم عندَ الله من هوى متَّبع"، فما أشرك مشرك إلاّ من هوى، وما عصى العُصاةُ ربّهم إلاّ من هوىً، مثلهم كمثل من يرى النّار محرقةً فيدنو منها! ويرى الهول الكبير فيركبه! كذلك حالهم يرون الذّنب الكبير فيفعلونه، ويبصرون الخير الكثير ويتركونه!
يعلم ضرر المخدّرات ومع ذلك لا يتركها! ويعلم عقوبة تارك الصّلاة ويتركها! وتعلم المرأة عقاب المتبرّجة في الدّنيا والآخرة ولا تستر نفسها! يحبّ النّوم ولو كان على حساب الصّلاة! يطلب المال ولو كان من الحرام! وغير ذلك من مظاهر الانحراف.
فهذا الحبّ للمعصية ثمنُه واضح في كلام الله: الزّيغ والانحراف عن سبيل الله: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26].
انظروا إلى أبي جهل الّذي عرف الحقّ وأنكره، وأعرض عن النّور بعد أن أبصره، تراه يقول: والله إنّي لأعلم أنّ محمّدا لا يكذب ولكن تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشّرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتّى إذا تجاثينا على الرّكب، وكنّا كفرسَيْ رِهان قالوا منّا نبيّ يأتيه الوحي من السّماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدّقه"، مات وهو يقول لعبد الله بن مسعود -رضي َالله عنه-: أنبئ محمّدا أنّي لم أندم قط على عداوته؟!
قد يستغرب أحدنا أن يكون هناك من النّاس من هو على هذه الشّاكلة! فلا تستغرب فإنّ الله حرمه الهدى لأنّه اتّبع الهوى، ومن عاش على شيء مات عليه، والله -تعالى- هو القائل في مواطن كثيرة من كتابه: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة: 258]، وقال: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 108].
وهذا أحد الشّعراء الماجنين المجانين، ومثله في زماننا من سمّوه بالفنّانين، نصحه العلماء فلم يستمع إليهم، ودعوه فلم يُقبل عليهم، فمات يوم مات وهو يقول:
أتـوب إليك يا رحمـن ممّا *** جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأمّـا من هوى ليلى ومن *** وزيـارتـها، فإنّـي لا أتوب
لذلك تستمع إلى كثير ممّن تناصحهم وترشدهم كلمة عجيبة: لا أستطيع! أريد أن أتوب ولكن! وأنت تستمع إليه متعجّبا، وتنظر إليه مستغربا، وتتساءل عن حاله وسرّ مقاله؟ والجواب: (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26].
الخطبة الثّانية:
الحمد لله، الحمد على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة حقّ تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلِّ عليه وسلّم وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع طريقه وسار على منواله.
أمّا بعد:
فاعلم -أيّها المصرّ على الذّنب- أنّ الدّعاء وحده لن ينفع؛ لأنّ الله له سنن يجب أن تُحترم، فلا بدّ من الصّبر والمجاهدة، والمواظبة والمجالدة، يقول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، فإنّ الصّالحات لا تُنال بالرّاحة، ولا تُعطى الغنيمة إلاّ لمن كان بالسّاحة.
صابر ولا تضجر من مطلب *** فآفة الطّـالب أن يضجرا
أما ترى الحبل في طول المدى *** على أصلب الصّخر قد أثّرا
فلعلّ الله حين يراك تجاهد نفسك، وتتعرّض لنفحاته، أكرمك بتوبة صادقة تموت عليها لا تشقى بعدها أبدا، روى التّرمذي عَنْ أَنَسٍ -رضي َالله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ" فَقِيلَ: كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ"، فاصبر وصابر، وداوم على التّوبة وثابر، وينبغي ألاّ تكون طفلا في حجر العادة، محصورا بقماط الهوى، قيل لأحد الصّالحين: "فلان يمشي على الماء؟! فقال: إنّ من مكّنه الله -تعالى- من مخالفة هواه، لهو أعظم من المشي على الماء"، وقال أبو بكر بن الضّرير: "دافعت الشّهوات حتّى صارت شهوتي المدافعة".
ورسالة إلى أهل الاستقامة: فعليكم أيضا أن تجاهدوا أنفسكم وتصابروا عدوّكم، فإنّ الحرب قد حمي وطيسها، واشتدّ لهيبها، وهذه هي أيّام الصّبر القابض فيهنّ على دينه مثل القابض على الجمر، وتذكّروا صبر أهل المعاصي على معصيتهم، فأنتم أولى بأن تصبروا على الطّاعة والاستقامة، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "سجنوني وأنا صائم، ووضعوا بيدي ورجليّ السّلاسل، وأركبوني على بغل فخشِيت أن أسقط من كثرة الحديد وثِقله، وأخذوني وجلدوني"، قال الجلاّد: "والله لقد جلدته خمسين جلدةً لو ضربتُ بها بعيرا لمات! قال: ثمّ رموني في بيت مظلم، ثمّ أدخلوا عليّ خمّارا وقيّدوه معي بالسّلاسل -وذلك ليهِينوا الإمام أحمد-، ثمّ التمست ماء لأتوضّأ واستقبلت القبلة أصلّي"، كان الإمام أحمد يصلّي وهو يبكي، والرّجل ينظر إليه وقد غمرته الدّهشة، فهو يرى مشهدا لم يره من قبل! كيف وهو في مثل هذه الحالة يحرص على طول القنوت والدّعاء؟! فسأله فعرف ما حدث له، فقال: يا إمام اصبِر على الحقّ ولا تجِبهم، فوالله لقد جلدوني خمسين مرّة في الخمر وها أنا ذا أعود في كلّ مرّة"، قال الإمام أحمد: "فقـوّانـي بذلك"، وكان الإمام أحمد يدعو له في كلّ صلاة فتاب توبة نصوحا.
فبصبرك -أخي المسلم، أختي المسلمة- وبمجاهدتك للهوى فإنّ الله يُحيِي قلوبا غافلة، وصدروا قاحلة، وهذا عبد الغنيّ المقدسيّ قال عنه أحد التّائبين -وكان من كبار الفسّاق-: "رأيناه يصلّي ويبكي فذكَّرَنا يوم القيامة".
وسبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
التعليقات