عناصر الخطبة
1/فتنة المال وأقسام الناس في ذلك 2/تورع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أكل الحرام 3/من ورع الصحابة والتابعين في الأموال 4/الفرق بين حال السلف وحال الناس اليوم في الورع في التعاملات المالية 5/بعض الصور المنافية للورع في هذه الأياماقتباس
شرع الله لعباده طرقًا لتحصيل المال مبنية على العدل والقصد؛ فلا ظلم، ولا هضم، ولا إفراط ولا تفريط، وشرع -أيضًا- سبلاً لتصريفها على الوجه النافع للعبد في دينه ودنياه؛ فانقسم الناس في ذلك أشتاتا، وأسعد الناس بها من...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: إن الله -تعالى- قد أنعم على عباده بنعم لا تُحصى، وجعل تلك النعم فتنة وابتلاءً؛ ليميز الخبيث من الطيب، وجعل من تلك النعم: نعمة الأموال، التيهي فتنة في تحصيلها، وفي تصريفها.
ثم إنه -سبحانه- شرع لعباده طرقًا لتحصيلها مبنية على العدل والقصد؛ فلا ظلم، ولا هضم، ولا إفراط ولا تفريط، وشرع أيضًا سبلاً؛ لتصريفها على الوجه النافع للعبد في دينه ودنياه؛ فانقسم الناس في ذلك أشتاتا، وأسعد الناس بها من اكتسبها من طرقها المشروعة، ثم بذلها فيما ينفعه في دينه ودنياه.
وأشقى الناس بها من اكتسبها على غير الوجه الشرعي، ثم أمسك عن بذلها فيما هو جائز، والأسوأ من بذلها فيما لا يجوز.
وبين هاتين المنزلتين منازل، ويتفاوت الناس في ذلك حسب ما فيهم الخوف من الله، وتورعهم عن الحرام، وحرصهم على الحلال.
أيها المسلمون: لقد كان رسول الله -عليه الصلاة والسلام- إمام الورعين، وسيد الزاهدين؛ فأدى ما يجب عليه، وأخذ ما قُسم له، كما روى البخاري ومسلم؛ فعن أنس -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأنقلبُ إلى أهلي فأجدُ التمرةَ ساقطةً على فراشي؛ فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أنتكونَ صدقةً فألقها"؛ ذلك أن الصدقة محرمة عليه، وعلى أهل بيته.
فانظروا -عباد الله- إلى هذا المثل الرائع؛ فلم تكن التمرة في الطريق، ولم تكن على أرض بستان، وإنما هي تمرة يجدها في بيته؛ بل على فراشه؛ ومع هذا يخشى أن تكون صدقة فيقع في الحرام!
وكان -صلى الله عليه وسلم-حريصًا على تربية أصحابه على خُلق كهذا؛ فقد رُوِيَ عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت: "جاء رجلان من الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يختصمان في قطعة أرض ليس لأحدٍ منهما بيِّنة، وكل واحدٍ منهما يدعي أنها له، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألْحَنُ بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه؛ فإنما يقتطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة؛ فعند ذلك بكى الرجلان، وتنازل كل واحدٍ منهما عن دعواه وقال: حقي لأخي"(متفق عليه).
هكذا حرك رسول الله الإيمان في النفوس، ووكَلَ القوم إلى خوفهم من ربهم، وورعهم عن مقارفة الحرام؛ فكانت نعمة التربية من نِعم المربي، حيث ارتفع بهم إلى مستوى رائع من التربية الإيمانية والوجدانية، وحياة الضمير، وتهذيب الأخلاق.
رباهم وهذبهم، وقوَّم سلوكهم، وصقل نفوسهم؛ فأثمر ذلك ضبط السلوك، وتهذيب التصرفات، وحفظ الحقوق، أقام في نفوسهم مخافة الله، وكراهية التعدي على الآخرين في أموالهم وأعراضهم؛ حتى إذا ما غابت رقابة البشر، ووسائل الضبط، وقوانين العقوبات؛ كانت حياتهم مقيدة بخوف ربهم، والورع عن ما حُرم عليهم؛ فهم قوم استوى سِرُّهُم بعلانيتهم، وخفاؤهم بجهرهم.
عباد الله: إن صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخذوا ذلك الدرس، وتربوا على ذات الخلق، فكان الورع ملء قلوبهم، حتى ضربوا فيه أروع الأمثال، وسجلوا أحسن الأقوال.
روى البخاري عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: كانَ لأبي بكرٍ غلامٌ يخرجُ لهُ الخراجَ، وكانَ أبوبكرٍ يأكلُ من خراجهِ، فجاءَ يومًا بشيءٍ، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهَّنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحْسِن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه".
وروى البيهقي عن عمر -رضي الله عنه- أنه: "شرب ذات مرة لبنا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال:مررت بإبل الصدقة، وهم على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده فاستقاء".
وروي عنه أيضًا أنه قال: "تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا"(رواه عبد الرزاق).
وهكذا كانوا يتورعون عن أكل الحرام؛ بل ويخرجونه من بطونهم بعد أكله إن علموا حرمته، وكانوا يجعلون بينهم وبينه مسافات حتى لا يقعوا فيه وهم لا يشعرون.
عباد الله: وعلى ذات الطريق سار التابعون؛ فلم تكن الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ طموحهم؛ بل كانوا يرونها فتنة ومتاعًا إلى حين؛ فأخذوا حيطتهم وحذرهم، حتى قال قائلهم -وهو ابن المبارك-: "لأن أردّ درهما واحدا من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف"، وقال: "لو أن رجلا، اتقى مائة شيء ولم يتورع عن شيء واحد لم يكن ورعاً"(رواه أبو نعيم).
وهذا عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- تُسرج له الشمعة ما كان في حوائج المسلمين؛ فإذا فرغ أطفأها، وأسرج له سراجه، وقال يومًا لامرأته: "عندك درهم أشتري عنباً؟ قالت: لا، قال: فعندك فلوس؟ قالت: لا، أنت أمير المؤمنين، ولا تقدر على درهم! فقال: هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم".
وقال حبيب بن أبي ثابت: "لا يعجبكم كثرةُ صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورَعِه، فإن كان وَرِعا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبدٌ لله حقًا"(رواه أبو نعيم).
ولله در أبي عبد الله الواسطي إذ قال:
ليس الظريف بكامل في ظرفه *** حتى يكون عن الحرام عفيفا
فإذا تورع عن محارم ربه *** فهناك يُدعى في الأنام ظريفا
فهكذا كانوا، وهكذا هم.
أما نحن -يا عباد الله- فما أعظم الجرأة على المحارم في دنيانا، وما أسرع الجري إلى الشبهات؟! إن هناك فرْقًا عظيمًا بين قوم إذا أكل أحدهم الحرام عن غير قصد تقيأه، وبين قوم آخرين يرون الحرام عيانا فيتجرؤون عليه! ويبادرون إليه، ويأكلونه غير مبالين من أين أخذوه؟!
بل جعلوا الحلال ما حل بأيديهم، والطريقة المباحة للكسب ما أمْلَتْه عليهم أهواؤهم وشهواتهم، سواء وافق الكتاب والسنة أم خالفهما؛ بل صار الكثير يأكلون أموال الناس بالباطل، بالكذب، والغش، والخيانة؛ فهم عن ذلك لا يتورعون، ومن دنسه لا يتنزهون، فإذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون.
اللهم ارزقنا الحلال، وجنبنا الحرام.
قلت قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
أيها المسلمون: إن هناك الكثير من التعاملات المالية التي يضيع فيها الورع، ويذهب عندها الخوف، وتسقط فيها رقابة الذي يعلم السر وأخفى، وسنكتفي بالإشارة إلى بعض من تلك الأمور، وهي:
أن من البياعين من يظهر السلعة أعلى ما يكون من الأصناف الطيبة، وفي باطنها معيبة، فيغش الناس بذلك، ومن غش؛ فقد تبرأ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- فليس هو من أمته؛ فقد قال -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيح: "من غشنا فليس منا".
ومن البياعين من يكذب عند بيع السلعة؛ فيزيد ثمنها، ويرفع قيمتها، ويزعم أنه اشتراها بكذا وكذا، وهو بذلك كاذب؛ فيأخذ زيادة في الثمن مبالغًا بها؛ فتُمحق البركة من ماله، ويأكلها سحتاً.
ومن تلك الصور المنافية للورع: ما يقوم به بعض المستأجرين ممن يظلمون الأجير ولا يوفُّونه حقه؛ فقد يبخسونه الأجرة التي يستحقها مستغلين حاجته وانقطاعه عن العمل؛ فيهضمونه الأجر ويقللون في الراتب، ويطلبون من العمل ما يتطلب أكثر من أجرته، وهؤلاء قد ارتكبوا إثمًا، وتقحموا جرمًا، وخالفوا ما أمر الله به، قال الله تعالى: (وَلَا تَبْخَسُوْا النَّاسَ أَشْيَائَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِيْن)[هود:85].
وهناك من المستأجرين من يظلم أجيره بصورة أخرى؛ حيث يشتغل الأجير عنده، ويوفي عمله دون نقصان، ولكن المستأجر يؤخر عليه أجرته ويماطله، وقد روى ابن ماجه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، وروى الشيخان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مطل الغني ظلم"، وروى البخاري أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -تعالى-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
ومن تلك النماذج السيئة: ما نراه في الطرف المقابل: حيث إن من الأجراء من لا يعطي العمل حقه؛ فيتأخر في بدء عمله، ثم إذا عمل عمله ببطء وتأنى وتأخر، كأنما يساق إليه سَوقاً! ومن كان هذا حاله فكيف يريد أن يُعطى الأجرة كاملة؟! إن أجيراً كهذا لا يستحق في دين الله من أجرته إلا بمقدار عمله، وما زاد من الأجرة فهو حرام عليه، وهو ظلم لصاحب العمل، وأكلٌ لأموال الناس بالباطل، وقد قال الله: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة:188].
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وعاملوا الناس بالعدل، عاملوهم بما تحبون أن يعاملوكم به، حللوا مكاسبكم، اجعلوها غنيمة لكم، تعينكم على طاعة الله، لا تجعلوها غرماً عليكم فتفقدوا بركتها، وتستحقوا عقوبة الله.
وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يكسب عبد مالاً من حرام فيتصدق به فيقبل منه، فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"(رواه أحمد).
واعلموا أنه ينبغي للعبد المسلم أن يتورع عن الأموال المحرمات، وأن يتركما خالطها من الشبهات؛ فإن من فعل ذلك عوضه الله خيرًا مما فاته، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة، وأبي الدهماء -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنك لن تدع شيئا لله -عز وجل- إلا أعطاك الله خيرًا منه".
وفقنا الله جميعا لما يرضيه.
وصلُّوا وسلموا- على خير البرية، كما أمركم الله بذلك في كتابه؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
المصدر: أحوال السابقين في الورع ونماذج من المعاملات المحرمة؛ للشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
التعليقات