عناصر الخطبة
1/الحث على شكر النعم 2/نماذج من مُلّال النعم 3/علاج آفة الملل 4/المطر من نعم الله العظيمةاقتباس
ومِنا مَن يَتصفُ بسجيةٍ مذمومةٍ، ألا وهيَ المَلَلُ من النعمِ، فتجِدُه يَمَلُّ العملَ، ويَمَلُّ الأصحابَ، ويَمَلُّ الزوجةَ والأولادَ، ويَمَلُّ سيارتَه وبيتَه، فإنْ كان معلمًا أو طالبًا ملَّ مَدرستَه ودراستَه، ومِثلُ هذا يَتعَبُ ويُتعِبُ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الذي جرَتْ مشيئتُهُ في خلقهِ بتصاريفِ الأمورِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، جلَ عن النظيرِ والظهيرِ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُهُ ورسولهُ البشيرُ النذيرُ، وصلى اللهُ وملائكتُهُ وعبادُهُ المؤمنونَ عليهِ وسلَّمُوا التسليمَ الكثيَر.
أما بعدُ: فاتقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، وتفكرُوا في أحوالِكم؛ فإن من وراءِ تصريفِ الأحوالِ لخَبَراً، وإن في تَقَلُّبِ الأيامِ لعِبَراً.
ألا فلنشكرْ ربَّنا على نعمهِ الظاهرةِ والباطنةِ، فإنَّ شُكْرَنا على نعمهِ ضعيفٌ منقطعٌ؛ لأننا تعوَّدْنا على النعمِ، حتى إن بعضَنا إذا سُئلَ عن حالِهِ قالَ: لا جديدَ!، فهل استشعَرْنا تجدُّدَ النعمِ، ولُطفَهُ الخَفِيَّ؟.
ومِنا مَن يَتصفُ بسجيةٍ مذمومةٍ، ألا وهيَ المَلَلُ من النعمِ، فتجِدُه يَمَلُّ العملَ، ويَمَلُّ الأصحابَ، ويَمَلُّ الزوجةَ والأولادَ، ويَمَلُّ سيارتَه وبيتَه، فإنْ كان معلمًا أو طالبًا ملَّ مَدرستَه ودراستَه، ومِثلُ هذا يَتعَبُ ويُتعِبُ، والمَلولُ مِن النعمِ مُعرِضٌ عن مُسْدِيْها، كَفورٌ بنعمتهِ؛ (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)[الإسراء: 83].
وما أجملَ ما قالَهُ عمروُ بنُ العاصِ -رضيَ اللهُ عنهُ-، فحينَما كانَ أميرًا على مصرَ ركبَ بغلةً ضعيفةً، فعُوتِبَ فقالَ: "إِنِّي لَا أَمَلُّ دَابَّتِي مَا حَمَلَتْنِي، وَلَا زَوْجَتِي مَا أَحْسَنَتْ عِشْرَتِيْ، وَلَا جَلِيسِيْ مَا لَمْ يَصْرِفْ وَجْهَهُ عَنِّي، أَلَا إِنَّ الْمَلالَ منْ سَيِّءِ الأخلاقِ"(المروءة لابن المرزبان والكامل في اللغة والأدب).
ولما حكَى اللهُ عن قومِ سبأٍ باليمنِ ما هم فيهِ من النعيمِ العظيمِ، أخبرَ عن كُفرانِهم للنعمِ ومَلَلِهم منها، حتى قالُوا: (رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)[سبأ: 19]، أي: اجعلْها مسافاتٍ متباعدةً، ومفاوزَ شاسعةً؛ حتى نشعرَ بعناءِ السفرِ ومشقتِه!، فيا لَلَسفَهِ ويا لَلْحماقةِ!.
وهذا أمرٌ قد يقعُ فيه بعضُنا ممن يتلهفُ على ماضيهِ، متنكراً للنعمةِ الحاضرةِ، وأولئكم فيهم شَبَهٌ من قومِ سبأٍ، وإلا فهل يُريدونَ أن ترجعَ إليهم حياةُ الجوعِ، والفقرِ، والمرضِ، والسَلْبِ؟!.
أيُها المؤمنونَ: تجدونَ الذينَ يَشعرونَ بآفةِ المللِ، أنهم حصَرُوا هدفَهم في حياتِهم على الجوانبِ الماديةِ، فحينَ تسألُ أحدَهم: ما هدفُك في الحياةِ؟ يُجيبُك بأن هدَفَهُ أن يكونَ ذا ثروةٍ وافرةٍ، أو سيارةٍ فارهةٍ، أو وظيفةٍ عاليةٍ، فانقلبتْ بهذا المفهومِ الوسائلُ إلى غاياتٍ؛ ولذا مما يُعينُ على مَزيدِ الشكرِ وطردِ المللِ: تذَكُّرُ ما في الجنةِ من النعيمِ المقيمِ، وتَذَكُّرُ قِصَرِ الدنيا وسرعةِ زوالِها، وأنها مزرعةٌ للآخرةِ، وفرصةٌ لكسبِ الحسناتِ.
ومن علاجِ المَلَلِ أن يعرفَ المسلمُ قيمةَ نفسهِ، وأن له مكانةً عاليةً عندَ اللهِ -تعالى-؛ (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]، فلا يَصلحُ أن يعيشَ المسلمُ سلبياً في مجتمعهِ، ولْيتسلحْ بسلاحِ العلمِ للرقيِ بأمتهِ ووطنهِ؛ (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ)[النساء: 102].
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على لُطفهِ الخفيِ، وعلى فضلهِ الجليِ، والصلاةُ والسلامُ على النبيِ الأميِ.
أما بعدُ: فنَعَم نِعَمٌ؛ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)[النحل: 18]، لكنْ فلنَعُدَّ الآنَ شيئًا من تلكَ النعمِ التي نراها هذهِ الأيامَ، فلننظرْ إلى هذا السحابِ المسخرِ بين السماءِ والأرضِ، حيثُ أبدَعَهُ مُنشِؤهُ في غايةِ الجمالِ والعظمةِ، ولنتعجبْ من ملايينِ اللتراتِ كيف حَمَلَها السحابُ، ثم أنزلَهَا الوهابُ (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)[الرعد: 17]، ثم جمَعَها في مكانٍ واحدٍ؛ (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ)[الروم: 50].
ولا يكنْ حظُكَ من النظرِ كحظِ الغافلِ الذي يتابعُ الأمطارَ لأجلِ التصويرِ والسبقِ الإعلاميِ فحسْب، ثم لا يزيدُه ذلك إلا لَهْواً ولَعِباً.
ويا متابعيْ الطقسِ وحركةِ الرياحِ والسحابِ: إذا أَخبرتمْ فلا تجزمُوا، ولربِكم فعظِّمُوا، وبِقولِ: "إنْ شاءَ اللهُ" فاختِمُوا: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)[الكهف: 23، 24].
فالحمدُ للهِ على فضلِهِ أنْ أحيا الأرضَ بعدَ موتِها، وأعادَ للنفوسِ قوّتَها، فواللهِ لولا اللهُ ما سُقِينا ولا تنعّمنا بما أُوتِينا، فمنكَ ماؤُنا، ومنكَ طعامُنا، فما حيلةُ القومِ إن تفرقتِ السُحبُ عن سمائِهم؟! ومَن يأتيهِم بشَرْبةِ ماءٍ يُسْقُونَ بها حرثَهم أو بهائمَهم، بل ويَبُلُّونَ أكبادَهم؟! (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ)[السجدة: 27].
ولقد جاءَ اللهُ:
بِغَيْثٍ مِنَ الوَسْمِيِّ جَادَ عَلَى الحِمَى *** سَيَبْرُزُ عَنْ نَوْرِ الأَقَاحِيِّ المُكَلَّلِ
لقد جادَ الجوادُ بغيثٍ متتابعٍ واسعٍ، وَإِنْ كَانَ الناسُ (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ)[الروم: 49]، ولذا صارُوا مِن فرحِهم بهِ يَتنزهونَ، وبنزولِهِ يَتباشرونَ؛ (فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[الروم: 48]، إيْ واللهِ يستبشرونَ، وهذه بُشرَى بنزولِ الغيثِ، فكيفَ بالبُشرَى الكبرَى يومَ التكريمِ في جناتِ النعيمِ؟!.
فاللهمَ اجعلنا ووالدِينا وأهلِينا من أهلِ الخيامِ والغُرُفاتِ في الجناتِ، اللهمَ كما بدلتَ أرضَنا من جفافٍ إلى رِيٍ نسألُكَ أن تغيرَ قلوبَنا من قساوةٍ إلى لُيونةٍ بذكرِكَ، وأن تبدلَ حالَ أمتِنا من ضعفٍ وتفرقٍ إلى قوةٍ وتجمُعٍ، فأنتَ سبحانَك على ذلكَ قادرٌ، اللهم تابِعْ علينا الخيراتِ، وأنزِلْ معها البركاتِ، اللهم وكما أسعدتَنا بهذا الغيثِ الممدودِ، فأسعِدنا بنصرِ إخوانِنا في غزةَ على يهودَ، اللهم لكَ الحمدُ على الأمنِ والإيمانِ، وعلى الإغداقِ بالأرزاقِ، اللهم وفِقنا لاستدراكِ الهفواتِ من قبلِ الفواتِ، اللهم اخصصْ بتوفيقِكَ وتسديدِكَ إمامَنا الملكَ سلمانَ ووليَ عهدِهِ، اللهم افرُج لهم في المضائقِ، واكشِف لهم وجوهَ الحقائقِ، واحفظنا وجنودَنا وحدودَنا.
اللهم صلِ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
التعليقات