عناصر الخطبة
1/ مكانة العمل في الإسلام 2/ هدف العمل في الإسلام 3/ مفهوم العمل 4/ حث الإسلام على العمل 5/ العملُ سنة الأنبياء 6/ آداب العمل وواجبات العامل 7/ سلبيات العمل وآثارها 8/ العلاقة بين العامل وصاحب العملاهداف الخطبة
اقتباس
إنَّ للعمل في الإسلام مكانةً عاليةً، ومنزلةً رفيعةً، به يُنال الأجر والثواب، وهو عبادة عظيمة لله، وامتثال لأمره، عن طريقه تقوم الحياة، وتعمر الديار، وتزدهر الأوطان، ويحدث الاستقرار، أَمَرَ به... إنّ هدف العمل في الإسلام ليس كسب المال فقط، ففضلا عن معانيه التعبدية، فإن من غاياته تحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وهذا يؤدي إلى التوازن النفسي على مستوى...
الحمدُ لله فاطرِ الأرض والسموات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفَهم ولا يحيطون به علماً.
لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار، ولا تتوهّمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنده بمقدار، أتقن كلَّ ما صنعه وأحكمه، وأحصى كلَّ شيء وقدّره، وخلق الإنسان وعلّمه.
فلك المحامدُ والثَّناءُ جميعهُ *** والشُّكْرُ مِن قلبي ومِن وجداني
فَلَأَنْتَ أهلُ الفضلِ والمنِّ الَّذي *** لا يستطيع لشُكْرِهِ الثَّقَلان
أنت القويُّ وأنت قهَّارُ الورى *** لا تعجزنَّك قوَّةُ السُّلْطَان
فلك المحامدُ والمدائحُ كُلُّها *** بخواطري وجوانحي ولساني
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الحق والتزمه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه، وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْــــــــد: عبــــاد الله: إنَّ للعمل في الإسلام مكانةً عاليةً، ومنزلةً رفيعةً، به يُنال الأجر والثواب، وهو عبادة عظيمة لله، وامتثال لأمره، عن طريقه تقوم الحياة، وتعمر الديار، وتزدهر الأوطان، ويحدث الاستقرار، أَمَرَ به -سبحانه وتعالى- فقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:10].
وقال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشَاً) [النبأ:11]، وقال -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].
واعتَبَر الإسلام العمل نوعاً من أنواع الجهاد في سبيل الله، فقد رأى بعض الصحابة شابًّا قويًّا يُسرِع إلى عمله، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله! فردَّ عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "لا تقولوا هذا! فإنَّه إنْ كان خرَج يسعى على ولده صِغارًا فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على أبوَيْن شيخَيْن كبيرَيْن فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج يسعى على نفسه يعفُّها فهو في سبيل الله، وإنْ كان خرج رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان" صحيح الجامع للألباني.
إنّ هدف العمل في الإسلام ليس كسب المال فقط، ففضلا عن معانيه التعبدية، فإن من غاياته تحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وهذا يؤدي إلى التوازن النفسي على مستوى الفرد والجماعة، وكم من مجتمعات بلغت الغاية في الكسب المادي، ولكن أفرادها ظلت حياتهم مملوءة بالقلق والخوف والوحدة والشعور الحاد بالغربة القاتلة، وكأنها تعيش في غابة مملوءة بالوحوش الكاسرة، لذا نجد علاقات طردية بين العمل الصالح والذي من ورائه من بسط الرزق والتوازن الاجتماعي، وهذا المفهوم يتضح من خلال الحديث الصحيح: "من سره أن يبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه" متفق عليه.
لقد جعل الله الأرض مستقر حياة الإنسان ومعاشه في هذه الدنيا، وأوجد فيها الكثير من النّعم، وسخر جميع المخلوقات لخدمته، ونوّع له أبواب الرزق وطرقه، وأمره بالسعي والعمل الصالح النافع الذي جعله سببا لمعاشه وعزته وقوته، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف:107].
والمطلوب أن ينزل المسلم في ميادين الحياة مكافحا، وإلى أبواب الرزق ساعيا، ولكن قلبه معلق بالله، وفكره لا يغيب عن مراقبة الله وخشيته، والالتزام بحدوده، والتقيد بأوامره، قال -تعالى-: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور:37].
أيها المؤمنون عبــــاد الله: إن نظام هذه الحياة، يتطلب السعي والعمل، فجميع المخلوقات من حولنا تسعى بجد وتعمل بنشاط، فكان من الواجب أن ينهض الإنسان للعمل مستشعرا بشعار الجد والنشاط، طارحا القعود والكسل وراءه ظهريا، حتى يقوم بما فرضته عليه الطبيعة الإنسانية، وهي سنة الله في خلقه، وبما أوحت إليه القوانين الشرعية.
والعاقل لا يرضى لنفسه أن يكون كَلَّاً على غيره، وهو يعلم أن الرزق منوط بالسعي، وأن مصالح الحياة لا تتم إلا باشتراك الأفراد حتى يقوم كل واحد بعمل خاص له، وهناك تتبادل المنافع، وتدور رحى الأعمال، ويتم النظام على الوجه الأكمل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحدٌ طعاماً قطُّ خيرا من أن يأكل من عمل يده" رواه البخاري.
ويقول أيضًا: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلةٌ، فإن استَطاع ألّا تقوم حتى يغرسها فليفعلْ" رواه البخاري في الأدب المفرد.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: كان آدم -عليه السلام- حرّاثا، ونوح نجارا، وإدريس خياطا، وإبراهيم ولوط كانا يعملان في الزراعة، وصالح تاجرا، وداود حدّادا، قال -تعالى- (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سبأ:10-11].
وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله تعالى عليهم رعاة للأغنام، وعمل -صلى الله عليه وسلم- أيضاً في التجارة، فخرج إلى الشام في تجارة عمه وزوجه خديجة -رضي الله عنها-.
قال لقمان الحكيم لابنه يوما: يا بني، استعن بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قــط إلا أصابه ثلاث خصــال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته؛ وأعظم من هذه الخصــال: استخفاف الناس به.
لقد عظّم الإسلام من شأن العمل مهما كان هذا العمل، في المصنع أو في المتجر أو في المستشفى أو في الوزارة أو في السوق أو في بناء العمارات وتشييد المباني أو في الزراعة وحراثة الأرض، أو حتى كان العمل في حفظ الأمن وحراسة الأموال والأعراض، أو حتى كان في القضاء والفصل بين الناس أو غير ذلك.
بل حتى عمل المرأة في بيتها لزوجها وأولادها فأنها تؤجر عليه، فعلى قدر عمل الإنسان يكون جزاؤه, قال الله -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) [النحل:97].
عبــاد الله: وإذا كان العمل بهذه الأهمية والمكانة فإن له آداباً وواجباتٍ ينبغي لكل مسلم أن يلتزم بها وهو يقوم بأي عمل من الأعمال، فعليه ابتداء أن يتقن عمله، وتلك صفة عظيمة في حياة المؤمن؛ لذلك كانت مطالبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإتقان في الأعمال، فقد قال: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" السلسلة الصحيحة.
فالإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة يربيها الإسلام فيه منذ أن يدخل فيه، وهي التي تحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، ولأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه سواء أكان عمل دنيا أم آخرة؛ قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163].
ومن الآداب أن الإسلام نهى أن يجلس الرجل بدون عمل، ثم يمد يده للناس يسألهم المال، فالذي يطلب المال من الناس مع قدرته على العمل ظالم لنفسه؛ لأنه يُعرِّضها لذل السؤال، وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من المسألة، وبالغ في النهي عنها والتنفير منها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اليد العُلْيَا خير من اليد السُّفْلَى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعِفَّه الله، ومن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله" متفق عليه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يأخـذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه" رواه البخاري.
ويقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة".
ويقول أيضاً -رضي الله عنه-: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أَلَهُ حرفة؟ فإن قالوا: لا؛ سقط من عيني".
فعلى المسلم أن يعمل ويجتهد حتى تتحقق قيمته في الحياة، يقول الشاعر:
بِقَدْرِ الْكَـدِّ تُكْتَسَـبُ المعَـالِـي *** ومَنْ طَلَبَ العُلا سَهرَ اللَّـيالِــي
ومَن طلب العُـلا مِن غَيْرِ كَــدٍّ *** أَضَاع العُمْـرَ في طلب الْمُحَــالِ
ومن آداب العمل في الإسلام أن يكون العامل قويًّا أمينًا، والقوة تتحقق بأن يكون عالمًا بالعمل الذي يسند إليه، وقادرًا على القيام به، وأن يكون أمينًا على ما تحت يده، قال الله -تعالى-: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص:26].
وأن يكون العاملُ بعيداً عن الغش والتحايل؛ فالغش ليس من صفات المؤمنين، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من غش فليس مني" رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
وقد مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع طعاما "حبوبا"، فأدخل يده فيه فرأى بللا، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء، أي: المطر، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غشنا ليس منا" رواه مسلم.
ومن الآداب والواجبات على العامل المسلم الالتزام بالمواعيد، والنصح لصاحب العمل، وتحري الحلال، والبعد عن الأعمال المحرمة.
ويجب على العامل أن يحفظ أسرار عمله، فلا يتحدث إلى أحد خارج عمله عن أمورٍ تعتبر من أسرار العمل، وعليه أن يلتزم بقوانين العمل.
ويجب على العامل أيضا أن يحافظ على أداء الصلوات، وإيتاء الزكاة، والقيام بسائر العبادات على أكمل وأحسن وجه، بل إن ذلك من أسباب الحصول على الرزق والتوسعة فيه، قال -تعالى-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طـه:132].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ''ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله'' رواه مسلم.
ومن هذه الآداب الالتزام بالدوام، والتبكير إلى العمل، حيث يكون النشاط موفورًا، وتتحقق البركة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم بارك لأمتي في بكورها" رواه الترمذي وابن ماجه.
هذه آداب العمل وواجبات العامل في الإسلام، وغيرها كثير، فيها الراحة والسعادة والأمن والأمان للفرد والمجتمع، وفيها رضا الله، وسعة رزقه، وتتابع بره، وحلول بركته.
اللهم تقبل أعمالنا، وتجاوز عن تقصيرنا وهفواتنا.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عبـــــــاد الله: عندما كان المسلمون يتعاملون بهذه القيم وبهذه الأخلاق كان العامل المسلم في أي مجال من مجالات العمل يستشعر هذه المسؤولية وهذه الأمانة ويقوم بواجبه على أكمل وجه، لا تغره المناصب ولا تستهويه وتفسده الأموال.
لقد دعا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سعيد بن عامر الجمحي إلى مؤازرته وقال: يا سعيد، إنا مولوك على أهل (حمص). فقال سعيد: يا عمر، ناشدتك الله ألا تفْتِنِّي. فغضب عمر وقال: ويحكم! وضعتم هذا الأمر في عنقي ثم تخليتم عني؟! والله لا أدعك.
ثم ولاه على (حمص)، ثم مضى إلى حمص، وما هو إلا قليل من الزمن حتى وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص، فقال لهم: اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسدّ حاجتهم، فرفعوا كتابا؛ فإذا فيه: فلان وفلان وسعيد بن عامر، فقال: ومَن سعيد بن عامر؟! فقالوا: أميرنا! قال: أميركم فقير؟! قالوا: نعم، ووالله إنه ليمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار، فبكى عمر حتى بلّت دموعه لحيته.
ولم يمض على ذلك طويل وقت حتى أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ديار الشام يتفقد أحوالها، فلما نزل بـ(حمص) لقيه أهلها للسلام عليه، فقال: كيف وجدتم أميركم؟ قالوا: نعم الأمير يا عمر! إلا أنهم شكوا إليه ثلاثاً من أفعاله، كل واحد منها أعظم من الآخر! قال عمر: اللهم لا تخيب ظني فيه.
وجمعهم به، ثم قال: ما تشكون من أميركم؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، فقال عمر: وما تقول في ذلك يا سعيد؟ فسكت قليلا، ثم قال: والله إني كنت أكره أن أقول ذلك، أما وإنه لا بد منه، فإنه ليس لأهلي خادم، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلا حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس.
قال عمر: وما تشكون منه أيضا؟ قالوا: إنه لا يجيب أحدا بليل، قال عمر: وما تقول في ذلك يا سعيد؟ قال: إني والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضا، فإني قد جعلت النهار لهم ولربي الله الليل.
ثم قال عمر: وما تشكون منه أيضا؟ قالوا: تصيبه من حين إلى آخر غشية فيغيب عمن في مجلسه، قال عمر: وما هذا يا سعيد؟! فقال: شهدت مصرع خبيب بن عدي وأنا مشرك، ورأيت قريشاً تقطع جسده وهي تقول: أتحب أن يكون محمد مكانك؟ فيقول: والله ما أحب أن أكون آمنا في أهلي وولدي، وأن محمدا تشوكه شوكة. وإني والله ما ذكرت ذلك اليوم وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أن الله لا يغفر لي، وأصابتني تلك الغشية.
عند ذلك قال عمر: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك.
هذا هو العمل، وهكذا يكون تحمل المسؤولية، وهكذا تؤدى الأمانات؛ علوٌّ في الحياة وفي الممات، وفي الآخرة الأجر عند خالق الأرض والسموات.
إن من بين السلبيات التي تجعل حضارة المجتمع في تراجع الخيانة في العمل، وعدم الوفاء بأمانة العمل، إما عن طريق أن يوسَّدَ العمل إلي غير أهله، وإما بإهدار المال العام، وكلاهما أبشع أنواع الخطر علي تقدم المجتمع وحضارته.
أما توسيد العمل إلي غير أهله فيترتب عليه خلخلة المؤسسة أو الإدارة وعدم استقرارها وثباتها.
وفي التأكيد علي المحافظة علي الاستقرار كان توجيه الإسلام واضحا في بيان أن الأمر إذا وسد إلي غير أهله فلننتظر الساعة، كناية عن انتهاء الحياة والاستقرار.
وعندما سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الساعة وقال له رجل: متى الساعة؟ قال: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة"، فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: "إذا وسٌدّ الأمر لغير أهله فانتظر الساعة" رواه البخاري.
وأما إهدار المال العام فإنه يتمثل في صور كثيرة، من سوء استخدام صلاحيات البعض، ومن عدم مراقبة الله -تعالى- فيما يعمل وفيما يأخذ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن استعمَلناه على عملٍ فرزقناه رزقًا، فما أُخِذَ بعد ذلك فهو غلولٌ".
وفي روايةٍ أخرى: "مَن استعملناه منكم على عملٍ فكتمنا مخيطًا فما فوقَه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة" رواه أحمد وإسناده على شرط مسلم ورجاله رجال الشيخين.
عبــاد الله: وأخيراً، فقد نظم الإسلام العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وجعل لكلٍّ منهما حقوقًا وواجبات، فقد ضمن الإسلام حقوقًا للعامل يجب على صاحب العمل أن يؤديها له.
ومنها الحقوق المالية، وهي دفع الأجر المناسب له، قال الله -تعالى-: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود:85، الشعراء:183].
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" رواه ابن ماجه.
وروى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -تعالى-:" ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر, ورجل باع حرا فأكل ثمنه, ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
ومن ذلك الحقوق البدنية، وهي الحق في الراحة، قال -تعالى-: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة:286]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان له إخوة تحت يده فلْيطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" متفق عليه.
وكذلك يجب على صاحب العمل أن يوفر للعامل ما يلزمه من رعاية صحية، وأدوات، وغير ذلك من متطلبات العمل.
فإلى العمل والإنتاج؛ لنرضي ربنا، ونحقق طموحاتنا، ونبني أوطاننا.
فاللهم خذ بنواصينا إلى كل خير.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين...
التعليقات