عناصر الخطبة
1/فضل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم 2/حب آل النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول اعتقاد أهل السنة 3/نبذة مختصرة عن حياة الحسين رضي الله عنه 4/قصة مقتل الحسين ومكر أهل العراق به 5/بعض الدروس والعبر من استشهاد الحسين رضي الله عنهاهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: ولِكَرَم النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- كرُمت ذرِّيّتُه، ولشرفه شَرُف آلُ بيتِه، وكانت مودَّتهم ومحبَّتهم جزءًا من شريعةِ المسلمين، رَعَوها على مرِّ الزمان كما رَعَوا باقي الشريعةِ، وأقاموها كما أقاموا بقيّةَ أحكام الدين، شهِدَت بذلك عقائدُهم المدَوَّنة وتفاسِيرهم المبسوطَة وشُروحات السنَن وكتُبُ الفقه، كيف لا وهم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
فأوصيكم بوصيّةُ الله -تعالى- للأوَّلين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ)[النساء: 131].
أيُّها المسلِمون: الشريفُ في ذاتِه يفيض بالشَّرف على من حَوله، والكريم في معدنِه يَسري كرمُه في المحيطِين به.
هاهم كثيرٌ من سلالة إبراهيم الخليل غدَوا أنبياء، وأصحابُ عيسَى صاروا حواريِّين، ورِفاق محمّدٍ شرفوا بالصُّحبة، وأزواجُه أمّهات للمؤمِنين، ونسلُه استَحَقّوا وصفَ الشَّرَف والسِّيادة، كيفَ لا وفيهم من دِمائه دم، ومِن روحِه نَبض، ومِن نوره قَبَسٌ، ومِن شذاه عَبَقٌ، ومِن وجوده بَقِيّة، صلّى الله عليه، وصلّى على آلِه وأزواجِه، وصلّى على صحابَتِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون: ولِكَرَم النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- كرُمت ذرِّيّتُه، ولشرفه شَرُف آلُ بيتِه، وكانت مودَّتهم ومحبَّتهم جزءًا من شريعةِ المسلمين، رَعَوها على مرِّ الزمان كما رَعَوا باقي الشريعةِ، وأقاموها كما أقاموا بقيّةَ أحكام الدين، شهِدَت بذلك عقائدُهم المدَوَّنة وتفاسِيرهم المبسوطَة وشُروحات السنَن وكتُبُ الفقه، كيف لا وهم وصيَّةُ نبيِّنا محمّدٍ؟!
هم وصيَّتُه وهُم بقِيَّته إذ يقول: "أذكِّركم اللهَ في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهلِ بيتي، أذكِّركم الله في أهل بَيتي"[رَواه مسلم].
وآلُ بيتِه هم أزواجُه وذرِّيَّته وقرابَتُه الذين حرُمت عليهم الصدقة، هم أشراف الناس، وقد قالَ النبيُّ –صلى الله عليه وسلم-: "فاطِمَةُ سيِّدة نِساء أهلِ الجنّة" [رواه البخاري].
وفي الصحيحَين أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "فاطِمة بَضعة مِني، فمن أغضبها أغضَبَني".
وفي روايةٍ في الصحيحين أيضًا: "فاطِمَة بَضعة مني، يريبني ما رابها، ويُؤذِيني ما آذاها".
وروى البخاريّ - رحمه الله - أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال لعليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: "أنتَ مني وأنا منك" كما قال النبيّ –صلى الله عليه وسلم- عن الحسنِ بنِ عليّ - رضي الله عنه -: "إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعلّ الله أن يصلِحَ به بينَ فِئَتين من المسلِمِين" [رواه البخاريّ].
وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال للحسن - رضي الله عنه -: "اللهم إني أحبّه، فأحبَّه وأحبَّ مَن يحِبُّه" [متَّفق عليه].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن أصولِ أهل السنة والجماعة سلامةُ قلوبهم وألسنَتِهم لأصحاب رسول الله، ويحبّون أهلَ بيت رسول الله، ويتولَّونهم، ويحفظون وصيَّة رسول الله فيهم".
وقال الطّحاويّ - رحمه الله -: "ونُبغِض من يبغِضُهم وبغَير الخيرِ يذكُرُهم، ولا نذكُرُهم إلا بخير، وحُبُّهم دين وإيمانٌ وإحسان، وبُغضُهم كفر ونِفاق وطغيان، ومَن أحسَنَ القولَ في أصحابِ رسول الله وأزواجِه الطَّاهِرات من كلِّ دَنَس وذُرّيّاته المقدَّسين من كلِّ رِجس فقد بَرِئ من النفاق".
أيها الإخوة المؤمنون: حديثنا اليوم عن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهو ابن بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فاطمة الزهراء.
ولد بعد أخيه الحسن - رضي الله عنهما -، وقال في حديث صحيح: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما".
أدرك الحسين من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس سنين، وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، وكان صغيراً، ثم أدرك خلافة الصديق وكان يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلها، وكان معظماً موقراً ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل، فلما آلت الخلافة إلى أخيه الحسن، وتنازل عنها لمعاوية لم يكن الحسين موافقاً لأخيه لكنه سكت وسلّم.
كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يحبّ الحسين حبًا شديدًا، فنشأ في حجر النبي، لا يفارقه ولا يبتعد عنه، وكان الحسين ينادي النبي-صلى الله عليه وسلم- بـ"يا أبت"، وكان أشبه الناس برسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وكان عابدًا يكثر الصوم والصلاة والحج والصدقة، وقد عرف عنه الشجاعة والجهاد في سبيل الله، وقد ساهم في فتح شمال إفريقيا في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان، وساند أباه في حروبه في الجمل وصفين والخوارج، ولما توفى والده وقف الحسين مع أخيه الحسن يناصره ويؤازره، فلما تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية حقنًا لدماء المسلمين وجمعًا لكلمتهم قال الحسين لأخيه الحسن في أدب ووقار: "أنت أكبر ولد عليّ، وأمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك".
وعكف الحسين بعد ذلك على طلب العلم والجهاد حتى مات معاوية بعد أن أخذ البيعة لابنه يزيد مخالفًا بذلك إحدى شروط الصّلح مع أخيه، وهو أن يترك أمر الخلافة من بعده شورى بين المسلمين، عندها لم يسكت الحسين، وبايعه كثير من الناس، وطلبوا منه أن يكون خليفتهم، فخرج من المدينة إلى مكة ولم يكن على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساويه في الفضل والمنزلة.
أيها المسلمون: بلغ أهل العراق أن الحسين لم يبايع يزيد بن معاوية، فأرسلوا إليه الرسل والكتب يدعونه فيها إلى البيعة؛ لأنهم لا يريدون يزيد ولا أباه ولا عثمان ولا عمر ولا أبا بكر، إنهم لا يريدون إلا عليًا وأولاده، عند ذلك أرسل الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل ليتقصّى الأمور، فلما وصل إلى الكوفة تيقّن أن الناس يريدون الحسين، فبايعه الناس على بيعة الحسين، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفاً ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفاً فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمت له البيعة، فتجهز رضي الله عنه خارجاً من مكة قاصداً الكوفة.
فانتشر الخبر فكتب يزيد بن معاوية لعامله على الكوفة ابن زياد بأن يطلب مسلم بن عقيل ويقتله، أو ينفيه عن البلد، فسمع مسلم الخبر فركب فرسه واجتمع معه أربعة آلاف من أهل الكوفة وتوجه إلى قصر ابن زياد، فدخل ابن زياد القصر وأغلق عليه الباب، فأقبل أشراف وأمراء القبائل بترتيب من ابن زياد في تخذيل الناس عن عقيل ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت والناس يكفونك، كأنك غداً بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟ فتخاذل الناس حتى لم يبق معه إلا خمسمائة نفس ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثمائة، ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثون رجلاً، فصلى بهم المغرب ثم انصرفوا عنه فلم يبق معه أحد، فذهب على وجهه واختلط عليه الظلام يتردد الطريق لا يدري أين يذهب، فاختبأ في خيمة، فعلموا بمكانه فأرسل ابن زياد سبعين فارساً فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط به فدخلوا عليه، فقام إليهم بالسيف فأخرجهم ثلاث مرات، وأصيبت شفته العليا والسفلى، ثم جعلوا يرمونه بالحجارة، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه أحدهم الأمان فأمكنه من يده وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه، فالتفت إلى رجل يسمى محمد بن الأشعث، فقال له: إن الحسين خرج اليوم إليكم، فابعث إليه على لساني هذه الرسالة: ارجع بأهلك ولا يغرنّك أهل الكوفة؛ فإن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لكاذب رأي، ففعل ذلك ابن الأشعت، لكن الحسين لم يصدق ذلك، فأتوا بمسلم بن عقيل فأُدخل على ابن زياد، فأمر بأن تضرب عنقه فأُصعد إلى أعلى القصر وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر، فقام رجل فضرب عنقه وألقى برأسه إلى أسفل القصر وأتبع رأسه بجسده.
وكان قتله رضي الله عنه يوم التروية الثامن من ذي الحجة.
أما الحسين فقد خرج من مكة قاصدًا أرض العراق، ولم يعلم بمقتل ابن عمه مسلم، وقبل خروجه استشار ابن عباس فقال له: لولا أن يزْري بي وبك الناس لشبثتُ يدي في رأسك فلم أتركك تذهب، فقال الحسين: لأن أقتل في مكان كذا وكذا أحبّ إلي من أن أقتل بمكة.
فلما كان من العشي جاء ابن عباس إلى الحسين مرة أخرى، فقال له: يا ابن عم، إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر فلا تغتر بهم، أقم في هذا البلد وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً وكن عن الناس في معزل، فقال الحسين: يا ابن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير، فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونساءك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.
وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - بمكة، فبلغه أن الحسين قد توجّه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ثلاث ليالي فقال له: أين تريد؟! قال: العراق، قال ابن عمر: لا تأتيهم، فأبى فقال له: إني محدّثك حديثًا: إن جبريل -عليه السلام- أتى إلى النبي فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله، والله ما يليها أحد منكم أبدًا، وما صرفها الله عنكم إلاّ للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر - رضي الله عنهما – وبكى، وقال: أستودِعك الله من قتيل.
وقد حاول كثير من الصحابة منعه؛ كابن الزبير وأبي سعيد الخدري وأخيه محمد بن الحنفية، فلم يأبه لذلك.
وفي الطريق قابل الحسين الفرزدق الشاعر المعروف، فسأله: كيف تركت الناس في العراق؟ قال: تركتهم قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية.
وفي الطريق جاء خبر مقتل مسلم بن عقيل، فهَمَّ الحسين بالرجوع، فامتنع أبناء مسلم وقالوا: لا ترجع حتى نأخذ بثأر أبينا، فنزل الحسين - رضي الله عنه - على رأيهم.
وكان عبيد الله بن زياد قد أرسل كتيبة قوامها ألف رجل بقيادة الحر بن يزيد التميمي ليمنع الحسين من القدوم إلى الكوفة، والتقى معه في منطقة القادسية، وحاول منع الحسين من التقدّم، فقال له الحسين: ابتعد عني ثكلتك أمك، فقال الحر: والله، لو قالها غيرك من العرب لاقتصصت منه ومن أمه، ولكن ماذا أقول لك وأمك سيدة نساء العالمين - رضي الله عنها -؟!
ولما تقدم الحسين إلى كربلاء وصل بقية جيش عبيد الله بن زياد ليصبح العدد خمسة آلاف رجل، فقال الحسين: ما هذا المكان؟ فقالوا له: إنها كربلاء، فقال: كربٌ وبلاء! ولما رأى هذا الجيش العظيم علم أن لا طاقة له بهم، فقال لهم: إنيَّ أُخيّركم بين أمرين: إما تدعوني أرجع أو تتركوني أذهب إلى يزيد في الشام، فقال له قائد الجيش عمر بن سعد: أرسل أنت إلى يزيد وأرسل أنا إلى عبيد الله بن زياد، فلم يرسل الحسين إلى يزيد، وأرسل عمر بن سعد إلى عبيد الله برغبة الحسين، فأبى إلا أن يأتي به أسيرًا، فرفض الحسين الأسر، فقال قائد الجيش: فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين: أفبِالموت تخوّفني؟!
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى حقًا وجاهد مسلمًا
فكان القتال بين ثلاثة وسبعين مقاتلاً مقابل خمسة آلاف مقاتل مدجّج بالسلاح، ولا شكّ أن المعركة غير متكافئة من حيث العدد والعدة، عندها تزاحف الفريقان بعد صلاة العصر والحسين جالس أمام خيمته محتبيًا بسيفه، ونعس فخفق برأسه، وسمعت أخته الضجّة فأيقظته، فرجع برأسه كما هو، وقال: إني رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقال لي: "إنك تروح إلينا"، فتقدم عشرون فارسًا من جيش ابن زياد، فقالوا لهم: جاء أمر الأمير أن تأتوا على حكمه أو نقاتلكم، فقال الحسين: ارجعوا لننظر أمرنا الليلة، وكان يريد أن يستزيد تلك الليلة من الصلاة والدعاء والاستغفار وقال: قد علم الله مني أني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه والاستغفار والدعاء، وأوصى أهله تلك الليلة، وبات الحسين وأصحابه طوال ليلهم يصلون ويستغفرون ويتضرّعون وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم، فلما أذَّنَ الصبح صلَّى رضي الله عنه بأصحابه صلاة الفجر، وخطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، وقال لأصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله فقد أذنت له؛ فإن القوم إنما يريدونني، فاذهبوا حتى يأذن الله -عز وجل-، فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
عند ذلك أعطى الحسين رايته لأخيه العباس، وجعلوا الخيام التي فيها النساء والذرية وراء ظهورهم، وخرج الحسين لهم بعد أن تطيّب واغتسل، وأقبلوا يزحفون نحوه، فترامى الناس بالنبل، وكثرت المبارزة يومئذ بين الفريقين، والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم وإنهم مستميتون لا عاصم لهم بعد الله إلا سيوفهم، فأرسل أصحاب ابن زياد يطلبون المدد، فبعث إليهم خمسمائة رجل، واستمر القتال حتى وقت صلاة الظهر، فصلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالاً شديدًا، فتكاثر القوم حتى وصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحابه ذلك تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، واستمر القتال فيهم حتى قتل إخوانه عبد الله والعباس وجعفر ومحمد، حتى لم يبق إلا الحسين وحده وكان كالأسد يضرب بسيفه يمينًا وشمالاً، ويجندل من الرجال وهو ثابت مكانه لا يتزحزح، ولكنها الكثرة، وكل واحد من جيش الكوفة يتمنى لو غيره يقتل الحسين هيبةً من مكانته من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم أحاطوا به فجعل رجل خبيث، يقال له: شمر بن ذي الجوشن يحرضهم على قتله، فرد آخر وما يمنعك أن تقتله أنت؟ فاستبا، فجاء شمّر مع جماعة من أصحابه وأحاطوا به فحرضهم على قتله: اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، فجاء سنان بن أبي عمرو فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فذبحه، وحز رأسه.
فقتلوه شهيدًا سعيدًا -رضي الله عنه-، ثم أخذ الجيش النسوة والأطفال إلى الكوفة، فأتوا ابن زياد أمير الكوفة برأس الحسين وجعل في طست، فأمر ابن زياد فنودي: "الصلاة جامعة"، فاجتمع الناس فصعد المنبر وذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين، فقام إليه عبد الله الأزدي فقال: ويحك يا ابن زياد! تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين.
ثم أمر برأس الحسين وأرسل إلى يزيد بن معاوية بالشام، فلما وضعت بين يديه بكى، ودمعت عيناه، وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبك ما قتلتك.
هكذا -عباد الله- قتل الحسين -رضي الله عنه وأرضاه- وكان مقتله يوم الجمعة يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين، وله من العمر ثمان وخمسون سنة - رضي الله عنه وأرضاه-.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه...
أيها الإخوة، ولنا مع قصة الحسين –رضي الله عنه- عدة وقفات:
أولها: أن ما حصل بين الصحابة من المعارك والحروب إنما هي فتنة ابتلى الله بها هذه الأمة، وإن من منهج أهل السنة والجماعة هو الإمساك عما شجر بينهم: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[البقرة: 134].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله كما وصفهم الله به في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)[الحشر: 10].
ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم؛ فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور[انتهى].
فنمسك ألسنتنا عن الخوض في الفتن التي حصلت بين المسلمين، ونكل أمرهم إلى الله؛ وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، خلافاً لغيرهم من أهل البدع.
ثانياً: إن صيام المسلمين ليوم عاشوراء لا علاقة له بمقتل الحسين أبداً كما يدعي بذلك بعض الفرق الضالة المنحرفة عن منهج أهل السنة، وإنما صيامنا ليوم عاشوراء هو لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم" فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه.
ثالثاً: إن كل مسلم ينبغي أن يحزنه مقتل الحسين، أو حتى غير الحسين من عامة المسلمين، فكيف إذا كان من أهل الفضل والمكانة، وكيف إذا كان من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه رضي الله عنه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان عابداً شجاعاً سخياً، ولا يجوز إقامة المآتم في يوم قتله، أو لطم الخدود، أو شق الثياب، كما تفعل الرافضة يوم عاشوراء.
والعجيب من أمر الرافضة أن أباه كان أفضل منه، وقتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، ولا يتخذون مقتله مأتماً، وكذلك عثمان بن عفان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الفاروق عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، وقتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، كما يفعل هؤلاء الجهلة يوم مصرع الحسين.
وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها" [رواه الإمام أحمد وابن ماجة].
رابعاً: لقد بالغ الرافضة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً من كون الشمس كسفت يوم قتله حتى بدت النجوم، وما رفع حجر إلا وجد تحته دماً، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضاً، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم، إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فصارت طائفة جاهلة ظالمة إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية تظهر موالاته وموالاة أهل بيته تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتعزي بعزاء الجاهلية، والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع.
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وأما اتخاذه مأتماً كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- فيه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن دونهم، هكذا يصنع الشيعة الرافضة في عاشوراء؛ يزعمون حب الحسين وآل الحسين، وهم أبعد الناس عن دين الحسين وشرع جدّ الحسين -عليه الصلاة والسلام-".
خامساً: ادعت الدولة الفاطمية التي حكمت الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستمائة وستين، أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور بمصر الذي يقال له: تاج الحسين، وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة.
سادساً: روى مسلم في صحيحه حديث أبي قتادة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم عاشوراء، فقال: "يكفر السنة الماضية".
وفي رواية: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
ولما عُرف من فضل صوم عاشوراء فقد كان للسلف حرص كبير على إدراكه حتى كان بعضهم يصومه في السفر خشية فواته، والسنة صيام يوم قبله أو بعده مخالفة لليهود الذي لا يصومون إلا عاشوراء، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع والعاشر".
فنحن نصومه بهذه النية الصالحة التي نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.
ألا وصلوا وسلموا على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك، فقال ولم يزل قائلا عليمًا وآمرًا حكيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات