د. محمد مصطفى الشيخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
وبعد:
فتحدَّثنا من قبل في "نظرات حول شروط لا إله إلا الله" على معنى هذه الشروط وحقيقتها واشتمالها على أمور باطنة وظاهرة، وأنَّها تتكون من جنسَي العلم والعمل كليهما؛ فالعلم من باب قول القلب، والقبولُ والانقياد - في المقابل - يتعلَّقان بالقلب وبالجوارح كليهما، وهما من باب العمل.
ثم إنَّ العلم أو القبول أو المحبَّة أو غيرها من الشروط، هي حقائق لها أصل وكمال، والأصل هو الشرط الذي يَنتفي الإسلامُ بانتفائه، وتحقيق الكمال من العلم أو الخشية لازم لبلوغ درجتَي الإيمان والإحسان.
ولمَّا كان القبول والانقياد - وقد درج العلماء على اعتبارهما شرطين اثنين - من أعظم هذه الشروط، تأكَّد الحديث عنهما بشيء من التفصيل.
ولنتَّفق ابتداء على اعتبار القبول والانقياد والالتزام والطاعة ألفاظًا متقاربة، تدور حول حقيقةٍ واحدة لغة وعقلاً وشرعًا، وهي تتلاقى مع حقيقة الإسلام؛ الذي هو الاستسلام والخضوع والإذعان، وضد هذه الحقيقة هي المخالفة التي تأخذ وصفَ الإباء أو الرد أو الاستكبار أو العِصيان ونحوها، بحسب درجة هذه المخالفة.
يقول تعالى: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
هذه آية عظيمة تتوعَّد من يخالف الرسولَ صلى الله عليه وسلم بالوعيد الشديد بنصِّها، وتأمرنا بالانقياد له وطاعته بمفهومها.
يقول ابن تيمية: (أَمَرَ من خالفَ أمرَه أن يَحذرَ الفتنة، والفتنة: الرِّدَّة والكُفر؛ قال سبحانه: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [البقرة: 193]، وقال: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217]، وقال: ﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا ﴾ [الأحزاب: 14]، وقال: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ﴾ [النحل: 110].
قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: نظرتُ في المصحف فوجدتُ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعًا، ثم جعل يتلو: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾ الآية [النور: 63]، وجعل يكرِّرها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك؛ لعله إذا ردَّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيء من الزَّيغ فيزيغ قلبه فيُهلكه، وجعل يتلو هذه الآية: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ﴾ [النساء: 65].
وقال أبو طالب المُشْكاني - وقيل له: إن قومًا يَدَعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره - فقال: أعْجَبُ لقومٍ سمعوا الحديثَ وعرفوا الإسناد وصِحَّتَه يَدَعُونَه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، وتدري ما الفتنة؟ الكُفر، قال الله تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217]، فيَدَعون الحديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرَّأي.
فإذا كان المخالِف عن أمره قد حُذِّر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، دلَّ على أنه قد يكون مُفضيًا إلى الكفر أو إلى العذاب الأليم، ومعلومٌ أنَّ إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنَّما هو لما قد يقترن به من استخفاف بحقِّ الآمِر، كما فعل إبليس)؛ [الصارم: المسألة الأولى، فصل الأدلة من القرآن الدالة على كفر الشاتم وقتلِه، الدليل السابع، 2 / 115 - 117].
فمن هذا النقل يتبين لنا وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن مخالفة ذلك تفضي إلى الفسق أو الكفر، ولضبط ذلك نقول: الطاعة تُطلَق ويُراد بها معنيان:
أولاً: طاعة القبول والانقياد:
وهي أحد ركنَي الإيمان الذي لا يصحُّ إلا بهما؛ فإنَّ الإيمان تصديق وانقياد (قول وعمل)، وهذه هي الطاعة الراجعة لأصل الدِّين، ومعناها: انعقاد القلب على التزام أمر الله، وإعلان ذلك ظاهرًا بالإقرار بالشهادتين، من جنس ما أقرَّ النبيون إقرارَ انقيادٍ لا مجرَّد إقرار تصديق في قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا ﴾ [آل عمران: 81].
إنَّ العبادة التي خلَقنا الله لأجلها مدارُها على الخضوع والذلِّ والانقياد والطاعة، فهي من باب العمل؛ قال في الصحاح: (وتقول: عَبْدٌ بيِّن العُبُودَة والعُبُوديَّة، وأصل العُبُودية الخضوع والذل، والتَّعْبِيدُ: التذليل، يقال: طريق مُعَبَّدٌ... والعِبَادَةُ: الطاعة، والتَّعَبُّدُ: التنسُّك)؛ [مختار الصحاح: مادة (ع ب د)، ص 467].
وقال في القاموس: (والعَبْدِيَّةُ والعُبودِيَّةُ والعُبودَةُ والعِبادَةُ: الطَّاعَةُ... والمُعَبَّدُ كمُعَظَّمٍ: المُذَلَّلُ من الطَّريقِ... وتَعَبَّدَ: تَنَسَّكَ)؛ [القاموس المحيط: باب الدال، فصل العين، 1 / 322 - 323].
وهي كذلك لغة وشرعًا: (والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء: مقصودها واحد، ولها أصلان؛ أحدهما: ألا يُعبد إلا الله، والثاني: أن يُعبد بما أَمر وشَرع، لا بغير ذلك من البدع)؛ [الفتاوى: 10 / 172 - 173].
وهذا هو المعنى الذي ذكره ابنُ تيمية في حقِّ الأعراب حين ذَكر أنَّ الإسلام ليس مجرد الكلمة؛ بل يراد به - كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم - الكلمة بتوابعها من الأعمال الظَّاهرة، وأنَّ الأعراب وغيرهم كانوا إذا أسلموا على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم أُلزموا بالأعمال الظَّاهرة - الصلاة والزكاة والصيام والحج - ولم يكن أحد يُترك بمجرد الكلمة[1].
فهذا العقد بالقلب واللِّسان يَلزم عنه قطعًا التزام الظَّاهر بحسبه؛ لقاعدة التلازم بين الظاهر والباطن، التي هي من أهمِّ أصول أهل السنَّة في مسائل الإيمان، ولا نعني بالتزام الظَّاهر التنفيذ الفِعلي للواجبات والترك الفِعلي للمحرَّمات؛ وإنَّما نعني دلالة الظاهر على الدخول في الإسلام والخضوع لله في الجملة، وضابطُ ذلك: ألاَّ يَظهرَ ناقضٌ للإقرار الأول من أمور الإباء والتولِّي والاستكبار، المذكورة أمثلتها أدناه.
وضد هذه الطاعة يسمَّى إباء واستكبارًا وامتناعًا عن الشرائع، وإباءً لقبول الفرائض، وردًّا لحكم الله، وهي كلُّها كُفر، ولهذا بوَّب البخاريُّ لحديث: ((أُمِرتُ أن أُقاتِل الناس)) بالترجمة: (باب قتل من أبى قبول الفرائض، وما نُسبوا إلى الرِّدة).
وهي الطاعة المذكورة في مثل قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 60، 61] إلى قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64]، فوازِنْ بين هذه وبين قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والقرآن يصدِّق بعضه بعضًا؛ فقد ذكر تعالى الغايةَ من الخَلق أنَّها عبادته وحده، وذكر أنَّ الغاية من إرسال الرسول طاعة الرسول بإذن الله - بأمره الشرعي - فهذه الطاعة وتلك العبادة أصلٌ لا فرع، وضدهما كُفر لا معصية.
ويقول تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80]، ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 47]؛ أي: كفَّار، ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [المائدة: 7]، ﴿ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ﴾ [طه: 116]، فضد هذه الطاعة التولِّي، والتولِّي من صفات المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار.
وهي الاستجابة التي جعلها الله تعالى أُولى صفات المؤمنين، فهي في هذا السِّياق نظير الأمر بتوحيده وإفراده بالعبادة: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38]، فوازِن بين آية الشورى وبين ما تواتر في النُّصوص من الأمر بتوحيده / بعبادته / بالإيمان به، معطوفًا عليه الصلاة والزَّكاة، يتَّضح لك أنَّ الاستجابة هنا هي أصل دين الإسلام، ونمثِّل بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بُني الإسلام على خمسة: على أن يوحَّد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج))، وفي رواية: ((على أن يُعبد الله ويُكفر بما دونه، وإقام الصلاة...))، وفي رواية: ((شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة...))، وفي رواية: ((إيمان بالله ورسوله، والصلاة الخمس...))؛ [متفق عليه].
أصل الإيمان: تصديق الخبر والانقياد للأمر:
فهذه الطاعة هي مقتضى الإيمان، وهي التي نَكَلَ عنها بنو إسرائيل، فوُصفوا بالعصيان ووُصفوا بالكفر لمَّا رفضوا ما يَأمُرُ به الإيمان: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 93]، نعم، لم يقل: (يخبركم به إيمانُكم)، بل الإيمان بأنبياء الله ورسله يأمرُ بأصلٍ، هو طاعتهم، بل هذه حقيقة الإيمان في الشَّرع: تصديق الخبر والانقياد للأمر، وضد ذلك هو الكُفر، وهذا من أعظم أصول الإيمان عند أهل السنة، (فلا بدَّ أن يكون الإيمان تصديقًا مع موافقة وموالاة وانقياد؛ لا يكفى مجرَّد التصديق؛ فيكون الإسلامُ [بهذا الاعتبار] جزءَ مُسمَّى الإيمان؛ كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزءَ مسمَّى الكُفر، فيجب أن يكون كل مؤمن مسلمًا منقادًا للأمر، وهذا هو العمل)؛ [الفتاوى: 7 / 292].
وقد يقال: لِمَ اقتصرنا على الانقياد مع أنَّ أعمال القلوب كثيرة، ومنها ما يلزم لصحة الإيمان ابتداء، وذكرَها العلماء في شروط لا إله إلا الله؛ كأصل المحبة وأصل الخوف... إلخ؟
والجواب: أنَّ الانقياد هو الباب الذي منه يَدخل العبد في الدين؛ دينِ الإسلام؛ إذ هو معنى لفظ "الإسلام"؛ لأنَّ أسلَم؛ أي: استَسلم وانقاد، وهو معنى لفظ "الدين"؛ لأن دان؛ أي: خضع وذَلَّ، وهو من مدلول "العبادة" كما علمنا.
كما أنَّ الانقياد الباطن هو المقتضِي المباشر للالتزام الظاهر، وقد جعله الله تعالى علامةً على ما يدَّعيه البعض من وجود أعمالٍ أخرى للقلوب؛ كالمحبة القلبية، فقال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، ولهذا نقول العبارة الشَّهيرة: أصل الإيمان التصديق والانقياد؛ تصديق الخبر والانقياد للأمر.
ونحن في زماننا حين نريد أن نَصِفَ من أتى بأصل دين الإسلام - حقيقةً لا ادعاءً - ودخل في الطاعة، نقول عنه: إنَّه "التزم" وصار "ملتزمًا"، ولا نقول: إنَّه صار محبًّا أو متوكِّلاً... وإن كان أصل هذه الأعمال موجودًا بلا ريب.
وقالوا سمعنا وأطعنا:
وتتبيَّن طاعة القبول أوضح بيان في قصَّة خواتيم سورة البقرة التي أُعطيها النبيُّ ولم يؤتها نبيٌّ قبله.
فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلَت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قال: فاشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأَتَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ برَكوا على الرُّكَب، فقالوا: أيْ رسول الله، كُلِّفنا من الأعمال ما نُطيق؛ الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكِتابَيْنِ مِن قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)) - وفي رواية ابن عباس: ((قولوا: سمعنا وأطعنا وسَلَّمْنا)) - قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذَلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]، فلما فعلوا ذلك نسَخَها الله تعالى، فأنزل الله عزَّ وجل: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ (قال: نعم) ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَ ﴾ [البقرة: 286] (قال: نعم) ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286] (قال: نعم) ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286]، (قال: نعم)؛ [مسلم].
فقد خاف عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوقوع في ردِّ حكم الله عليه كما فعل أهل الكتابَيْن، فأَمَرَهم بالتسليم والقبول لأمرٍ شقَّ عليهم (وهو وجوب رعاية خواطر النفس لدخولها في المؤاخذة)، وكان هذا إيمانَهم - طاعة القبول والانقياد - الذي زكَّاه الله في الآية التالية.
ولأجل كون هذه الطاعة أصلاً ينتقض الإسلامُ بهدمه، وهي أصل في القلب يظهر لزامًا على أعمال الجوارح، حَكَمَ مَن حَكَمَ من أئمة الفقه بكفر من ترك المباني الأربعة - على خلافٍ وروايات - لأنَّهم اعتبروا تحقُّق أصل الانقياد والخضوع لله ورسوله مع ترك مباني الإسلام التي بُني عليها أمرًا غير متصوَّر عقلاً ولا شرعًا، مؤيَّدين في هذا بنصوص الشرع القاضية بكفر تاركها؛ بل قد عدَّ ابن تيمية مَن قال من الفقهاء بأنَّ تارك الصلاة عمدًا مسلمٌ باقٍ على إسلامه أنه إنما قال ذلك لدخول شبهة المرجئة والجهمية عليه! [الفتاوى: 7 / 616].
فهذه هي الطَّاعة بالمعنى الأول، ونتكلَّم في المقالة الثَّانية على الطاعة بالمعنى الثاني، ثمَّ نضرب أمثلة للتفريق بينهما إن شاء الله.
وصلَّى الله على محمد وآله وسلم.
التعليقات