عناصر الخطبة
1/ قصة رجل بال في بئر زمزم 2/ حمى الشهرة والمشاهير 3/ حرص كثير من الناس على الشهرة 4/ مقام الشهرة في نصوص الشرع 5/ الشهرة بالعقوق عن طريق المزاح 6/ اتفاق السلف على ذم الشهرة والتحذير من مغبتها 7/ آثار طلب الشهرة 8/ خطورة زرع التفاهات في عقول الأطفال والمراهقين.اقتباس
هل كنتم تتصورون يومًا أن تكون معادلة الشهرة في هذا الزمان أنه بقدر ما عندك من السخرية وسذاجة البضاعة والكلام الرخيص والفعل الحضيض تستطيع به أن تحصل على أعلى المشاهدات وتحصد به أكثر عدد من الإعجابات؟! مجانين يحملون كل رزية يقال فلان أصبح اليوم مشهورًا، دعايات أطفال وصبيان مجمع وركض وراء المغريات.. كل من يريد الشهرة في هذا الزمان عبر الطرق غير الشرعية، فليعلم أنها شهرة مؤقتة، إن سلمت له الشهرة في جميع حياته فلن يحملها في وفاته، وليس لك من عملك إلا ما قدمت وآلاف المتابعين لك في وسائل التواصل لن يجيبوا عن أسئلة منكر ونكير، بل ستجيبها وحدك فأكثر أو أقل...
الخطبة الأولى:
الحمد لله يبدئ ويعيد الغفور الودود ذو العرش المجيد الفعَّال لما يريد، محمودون بالنعم الكثيرة محمودون بالمنن الكبيرة، الحمد والشكر إليك ربنا وإن أتى بالكلم اليسيرة، وأشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير تعاليت في ربوبيتك وإلهيتك وأسمائك وأوصافك، سبحانك وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت.
وأشهد أن محمدًا بن عبدالله عبدُك ورسولك رسولك للخلائق أجمعين، رسولك يا إله العالمين فصلِّ الله دومًا عليك يا إمام المتقين وللصحب الكرام ومن يليهم وآل محمد والتابعين.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه المصطفين الأخيار أولي الأيد والأبصار وعمنا والتابعين معهم بإحسان وخالصة ذكرى الدار وسلم اللهم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
روى الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- حادثة وقعت أثناء الحج في زمانه، وهي بينما الحجاج يطوفون بالكعبة، ويغرفون الماء من بئر زمزم؛ إذ قام أعرابي فحسر عن ثوبه وفجأة إذ به يبول في البئر؛ بئر زمزم، والناس حوله ينظرون!!
فما كان من الحجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب وبالرفس وبالركل حتى كاد يموت، ثم خلَّصه الحرس منهم، ثم جاءوا بالأعرابي به إلى والي مكة، فقال له الوالي: "قبَّحك الله وقبِّح ما فعلت، لِمَ فعلت هذا يا أعرابي؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني من كان يجهلني يقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم"!!
وما أكثر البوالين في ماء زمزم يا أبا الفرج!! وأكثر ناشري زبالات البذاءة في أجواء الناس، نعم كانت غريبة في ذلك الزمان غرابة دفعت مدونًا كابن الجوزي أن يراها رواية تستحق أن تجد لها مكانًا قصيًّا في صحائف التاريخ كأشهر خبر لطالب شهرة..
المشاهير..
تذكرون الإمام ابن الأثير -رحمه الله- لما كتب كتابه الكامل في التاريخ، سمع به أحد متولعي الشهرة وسكارى السمعة في ذلك الزمان، فقلب الكتاب يبحث عن اسمه، فلما لم يجده قال: "ليت ابن الأثير كتبنا، ولو في أسماء اللصوص".
واللص لصّ الدين والأفكار والأخلاق والآداب، لص العاري باعوا خلائقهم بشهرة أحمق ولو اقتضى أن يرتموا في النار.
المشاهير..
تذكرون الخطيب البغدادي -رحمه الله- لما ألف كتابه في تاريخ بغداد أتى أحد مشهوري بغداد في ذلك الزمان والمنتسبين إلى العلم يقول له ابن البنّاء فقال لأحد جلسائه هل ذكرني الخطيب البغدادي في الثقات أم ذكرني في الضعفاء؟ قالوا له: "لِمَ يذكرك لا في الثقات، ولا ولِمَ يذكرك في الضعفاء، قال: ليت الخطيب ذكرني في كتابه ولو في الكذابين!
يبيعون أخلاق ودين وعزة *** بشهرة كذاب وتسميع قصاري
يقول السخاوي -رحمه الله-: "بلغني عن رجل قال عني ليتني أموت في حياة السخاوي حتى يترجمني في كتابه".
حمى الشهرة والمشاهير وفي كل زمان، بنو جنون وفي كل وادي حمقى والذي نعرفه أن ابن الجوزي -رحمه الله- ألَّف كتابه أخبار الحمقى والمغفلين في الحمقى والمغفلين، لكننا قد نحتاج أن نؤرخ لحقبة جديدة في أخبار المعلنين سخافتهم على الهواء مباشرة وفي أخبار الذين يضلونهم بغير علم، ألا ساء ما يزرون.
هل سمعتم بزمن يبحث عن الحمقى ليجعلهم مشاهير، أو يبحث عن المشاهير ليجعلهم مجموعة حمقى في الشاشات وفي القنوات، إنه هذا الزمن يؤسفك أن تكون الشهرة ثورًا يهيج أكثر الناس، ويجلبهم إلى أن يفعلوا كل شيء لأجل زيادة المتابعين ورصيد رقمي في أسهم المشاهدين.
المشاهير..
تكاد أن تكون مادة الشهرة هي المقصود الحقيقي لأكثر الناس في هذا الزمان.
المشاهير..
أن يستعد بعضهم أن ينفسخ وينسلخ من كل أخلاقياته لأجل أن يعرفه الناس ويفوز بقائمة أكثر الناس متابعة.
المشاهير ..
أن يستعد بعضهم إلى أن يخيب ويعيب سمعة أهله وذويه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه من أجل مقطع يشتهر به، ولو كان يحمل أرطال من حمائل البذاءة والسفه والطيش والجنون.
ما هذه الظواهر التي تهطل علينا في كل يوم، وكأن هذه الأمة لم تصب في أي شيء لا في عزتها ولا في كرامتها ولا في مؤسساتها حتى تتوالى هذه الظواهر في سرعة كبيرة لتغيير جلد المجتمع في هذا البلد الطيب أهله.
ما تلك الظواهر العجلى هل كنتم تتصورون يومًا أن تكون مادة السماجة والبله والسخط هي العنوان الضخم لصفحات وسائل التواصل وهي الجالبة لثناء الناس وهي الحصان الذي يبلغ بك إلى أن تتصدر قائمة أسواق الشهرة في هذا العالم العريض.
هل كنتم تتصورون يومًا أن تكون معادلة الشهرة في هذا الزمان أنه بقدر ما عندك من السخرية وسذاجة البضاعة والكلام الرخيص والفعل الحضيض تستطيع به أن تحصل على أعلى المشاهدات وتحصد به أكثر عدد من الإعجابات.
تلك الظاهرة ظاهرة التراكض حول التصدر بأرخص ثمن، والشهرة بأقرب طريق ولو كانت عن طريق الهزال والداء العضال.
مجانين يحملون كل رزية يقال فلان أصبح اليوم مشهورًا، دعايات أطفال وصبيان مجمع وركض وراء المغريات صبورًا، وناس تزيد الهازلين تصدرًا، وإفراط إعجاب بهم وصفيرًا، وقوم أبوا إلا الفضيحة مرة، وواحدهم للسخف صار أثيرًا.
أستغفر الله لي ولكم ولهم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة.
خذوا هذه المقامات المتوالية:
المقام الأول: مقام الشهرة في نصوص الشرع، الشهرة التي لم ترد في نصوص الشرع إلا مذمومة ولم يرد طالبها في القرآن والسنة إلا مذمومًا.
هي في هذه الأزمنة مقصود أكثر الناس، الشهرة في استقراء مرويات الشريعة واستقراء أحوال الرعيل الأول والذين يولونهم بإحسان هي نتيجة لعمل صالح وليست غاية بعمل رديء.
الشهرة ابتغاء الشهرة مزلق ومذلة وحسكة فيها خطاطيف وكلاليب وفتنة للتابع متبوعة.
في الشرع "من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة" (أخرجه أحمد وأبو داود).
في الواقع استعداد تام على التفسخ آخر عباءات الفضيلة والحياء لأجل شهرة زائفة ومتابعة زائلة.
في الشرع: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".
في الواقع أحدهم يخبر والده أنه بدأ بترويج المخدرات، ثم يروع الوالد في مشهد حزين لا تملك دمعتك لأجله ثم يضحك ضحكة صفراء؛ لأن والده ابتلع المقلب كما أعد له، ثم يخبر والده بالحقيقة ثم يأمر المتابعين أن يضيفه عندهم لأنه تعب على المقلب.
وتكاد أن تقسم بالله أنه لولا عيناك رأت ذلك وأذناك سمعت ذلك لما ظننت أن هناك لونًا جديدًا في عالم الدمار الأخلاقي الشامل اسمه "الشهرة بالعقوق عن طريق المزاح".
سلام الله للدنيا أرى ما في خلائقها يبور..
ونعرف للتعري ألف اسم ولا تدري الفضيلة ما المصير..
في الشرع نهت الشريعة عن عقوق الأمهات، ونهت الشريعة عن ترويع الآمنين، ونهت الشريعة عن المزاح بالفسوق، ونهت عن إضحاك الناس بالكذب، وتوعدت عليه بالويل والثبور.
في الواقع يتصل على أمه ليخبرها بأنه أصبح لوطيًّا شاذًّا ليسمع ردة فعلها ويضحك أصحابه على مزاحه وعقوقه، ثم ليشتهر ثم ليتابعه مائة ألف طفل ومراهق، ثم ليكون قدوة لشبابنا ثم ليكون مصلحًا اجتماعيًّا يستفتى في مسائل الساعة وقضايا الأمة المصيرية.
في عملية سريعة لا تعلم أين تتجه هذه الأمة ولا شبابها ولا مراهقوها وهذه الوجوه محسوبة عليها بل وتحقن في أوردة أجيالها حقنة فيروسية جديدة اسمها الغثائية هذه الأمة التي تنزف في شمالها حربًا مجنونة، وفي جنوبها حربًا لا تقل عنها جنونًا، وفي شرقها وفي غربها، وتحيط عليها الدول إحاطة السوار بالمعصم، والعالم لا يحترم الأقوى ولا يبجل إلا أصحاب المشاريع القوية.
إذ تساق هذه الجموع وهذه المشاهير والجماهير لتقتلع من جذورها الأصلية ويجعل في بيئة ليست بيئتها، وتربة ليست تربتها، أعوذ بالله من غضب، ومن تخلف عن وظيفتنا الحقيقة في هذه الحياة إلى الوظيفة الإبليسية (لَعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) [النساء: 118- 120].
(فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى * فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 34- 41].
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: ما تواطأ السلف -رحمهم الله- على ذم الشهرة وعلى التحذير من مغبتها إلا لمزالقها، يقول إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "ما صدق عبد قط فأحب الشهرة".
ويقول الثوري -رحمه الله-: "إياك والشهرة فما أتيت أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة".
وقال أيضًا خرجت حاجًّا أنا وشيبان الراعي، وقد خرجنا مشاةً، فلما صرنا ببعض الطريق دخلنا غابة فإذا نحن بأسد فصاح به شيبان فبصبص الأسد وضرب بذَنَبه مثل الكلب، فأخذ شيبان بأذن الأسد فعركها، فقال ثوري لشيبان: ما هذه الشهرة؟ قال شيبان: "وأي شهرة ترى يا ثوري؟! لولا كراهية الشهرة ما حملت زادي إلى مكة إلا على ظهر هذا الأسد".
كانوا يرون الشهرة بلاءً حقيقيًّا لأنها فتنة قد تلحق بصاحبها العجب المحبط للعمل والفتنة والاتكال والرياء والتسميع والسمعة.
كانوا يفرون منها فرارًا حقيقيًّا، ولكنها كانت مع ذلك تأتيهم؛ لأن الكريم إذا أخفيته ظهر.
ومن سنن الله في كونه أن الرجل الصالح قد يخفي نفسه، لكن الله يُظهِره ويُعلي مقامه ويكتب له لسان صدق في الآخرين، وهذا من عاجل بشرى المؤمن في الحياة الدنيا.
وليس من سنن الله في شرعه طلب الشهرة ولا الترصد لمغاراتها ومغاراتها.
هذا الصحابي الجليل بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- يقول: "شهدت خيبر وكنت فيمن صعد الثلمة، وهي مكان معتلي رفيع، فقاتلت ثم قاتلت حتى رئي مكاني وعليَّ ثوب أحمر، فما أعلم أني ركبت في الإسلام ذنبًا أعظم عليَّ منه"، يعني الشهرة.
يقول شداد بن أوس -رضي الله عنه-: "يا بقايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية وهي الشهرة الزائلة".
ويقول رجالات الرعيل الثاني إبراهيم النخاعي والحسن البصري -رحمه الله-: "كفى فتنة للمرء أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من عصم الله".
وحسبنا في كل ذلك النصيحة النبوية الصادقة عن الشهرة الكاذبة، وطلبها حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ".
ومن العجب العجاب وخبر كالشهد المذاب أن يحج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يربو على مائة ألف صحابي، فلم يستطع رجل كابن حجر -رحمه الله- على قوة حفظه وسعة اطلاعه ومهارة بحثه أن يجمع لنا في كتابه الإصابة أكثر من ثمانية آلاف صحابي فحسب.
فأين الباقون من الصحابة؟! إنهم على منهاج قوله: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي"، ولو كانت الشهرة بذاتها منقبة تتشوق لها النفوس الكريمة لأكرَم الله بها سادة الدنيا من الأنبياء والمرسلين الذين بعث منهم ما يزيد على ثلاثمائة رسول وأكثر من مائة ألف نبي ورغم ذلك لم يحفظ لنا القرآن سوى أسماء خمسة وعشرين رسولاً لا غير.
كم من مغمور في الدنيا مشهور في الآخرة! وكم من مشهور في الدنيا مغمور في الآخرة!
المقام الثاني: آثار وندوب طلب الشهرة، فلان صار مشهورًا؟ نعم صار مشهورًا، كيف اشتهر؟ أخرج لهم مقطعًا قصيرًا دبلجه بشيء من الإخراج البسيط ممزوجًا ببعض الكلمات الرديئة التي تنفق سلعته، فأصبحت الآلاف تتابعه والجماهير تستعرض أخباره.
يظن كثير من الناس أن الشهرة لا تحمل آثارها معها، ولا تحمل تبعاتها والله إنها لتبعة عظيمة تنوء بها السماوات والأرض.
إذا عرفت أن كلمة واحدة فحسب تطلق منك، ثم يتلقفها العشرات والمئات والآلاف، ثم تكون ممارسة طبيعية عند بعض الأجيال عرفت من حجم من دلَّ على ضلالة أو قال كذبًا أو استهزأ بأحد بأن له وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
إذا عرفت أن نكتة تقال على سبيل المزاح لإضحاك الناس، وقد تندمج معها غيبة محرمة تنطلق لتدوي في الآفاق في وسائل تواصيلية تحفظ كل شيء عرفت بعد ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ويل للذي يحدِّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ثم ويل له".
إذا عرفت أن مهرِّجًا ليس همّه الدين ولا حفظ غيرة المجتمع، يجاهر بمعصيته ويشرب الخمر أو يعاكس إحدى الفتيات ليشرِّع تطبيعها في بلد مسلم لا يعرف للحرمة سبيلاً يجاهر به، عرفت أي نقمة أتتنا من مفتوني الشهوات والشبهات.
إذا عرفت أن حدثًا صغيرًا يخرج في وسائل التواصل ويعلم ذويه أنه لم تأخذ الشهرة نصيبًا منه إلا لوسامة وجهه أو لحداثة سنه عرفت حجم زيغ التربية وحجم العقول المتابعة، ولم يعلم ذووه أن كل نظرة شيطانية لهذا الولد هي في خضم مسئوليتهم وسيحاسبون في تربيته أشد ما يحاسبون على أكله وشربه.
الأثر الثالث: هل يعي ولاة الأمور أي نقمة وكارثة قد تحدث لهذه المجتمعات الطيبة المحافظة بعد زرع التفاهات في عقول الأطفال والمراهقين؟ سيولد مجتمع لا يعرف إلا التافهين ولا يبجل إلا الهزأ والسخرية والضحك لا يعرف للجد ولا للعزيمة ولا للعلم ولا القوة طريقًا.
إن تطبيع بعض وسائل الإعلام لمقاطع التافهين والتفاهات لأمر يبعث على الحزن والغرابة في وقت معًا وبه تعرف حجم الكوارث التي يراد لها هذا البلد المحب لربه ودينه وبلاده وعلمائه ورواده.
من الذي يقصده هؤلاء إلا إسقاط القدوات الحقيقية لاستبدالها بقدوات ورقية.
الأثر الرابع: تخرج المرأة صوتها في وسائل التواصل، ثم تتدرج الفكرة إلى إخراج شيء من جسدها إلى إخراج جسمها متحجبة، ثم ينسلخ الحجاب شيئًا فشيئًا حتى تترك غطاء وجهها، ثم تبدأ رحلة التعري الإبليسية بمباركة قنوات شيطانية، ثم تخرج فتيات يباركن هذه الخطوة الجريئة وتتصدر الفتاة لتكون مفكرة البلاد ومتمدنة المدينة وعبقرية الزمان..
ثم إذا نصح الناصحون نعق الناعقون ولماذا الحسد والشهرة؟! ظلمات فوق بعض.
المقام الخامس: كيف نوقف هذه الحملات المسعورة؟ ازرع في ولدك أن الزاد الحقيقي الذي يبلِّغه في الدنيا والآخرة هو الجد ومراقبة الله والعلم النافع والعمل الصالح.
أيها الولي: السنوات التي قضيتها في زراعة الآداب والفضائل في نفس ابنك يجعلها هباءً منثورًا، فريقٌ من المهرِّجين، دعوات قيادة المرأة، اللوطية، الغثائية، ادعاء الحقوقية، تفسُّخ وتعري، ضحك وسفالة، هذه من أكثر المواضيع المعروضة فهل يروق لك أن ولدك يكون عميلاً أخلاقيًّا لها وزبونًا دائمًا لتفاهتها؟!
يصرح بعض هؤلاء الشباب أن 90% من متابعيه أعمارهم 16 عامًا تقريبًا وبعضهم معدلات المتابعة عند بعضهم أكثر من ثلاثة ملايين متابع.
لا تجعلوا من الحمقى مشاهير، مقولة صادقة.
كل من يعرض أدواته الضحلة وبضاعته الرخيصة فحذِّر نفسك منه وحذِّر منه أولادك وبناتك.
حتى من يعرضون مجرد الترفيه مجرد من الرسائل المبثوثة فهؤلاء حقهم إلغاء المتابعة، ولا مراجعة، في الوقت الذي نحتاج فيه إلى مادة الوعي المجتمعي أن ننشرها في بيئتنا عن قضايا الأمة جميعها، وفي هذا الوضع الراهن الذي نبغي الاجتماع معه لا نريد مزيدًا من التمزيق ولا التهريج ولا التذويق ولا التصفيق.
ما يجري لهذه الأمة وشبابها ومكتسباتها ومؤسساتها أظنه يكفيها.
المقام الأخير: الشهرة الحقيقة هي تبع وليست غاية، فإبراهيم -عليه السلام- لما دعا ربه قائلا (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء:84]، قال: "لسان صدق" وليس كذبا وضحكا وغيبة وبهتانا، لسان الصدق والذكر الحسن بين الناس ستأتيك إن اتقيت الله، وراقبت خالقك وحرصت على نفع الناس، وتعليمهم والحرص عليهم والحدب على مصالحهم.
لسان الصدق والذكر الحسن سيأتيك عبر طرق السماء لا عبر بوابات الأرض، روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "الرجل يعمل العمل لا يريد به إلا وجه الله فيحبه الناس"، وفي رواية "فيثني عليه الناس"، فقال: "تلك عاجل بشرى المؤمن"..
مشاهير مؤقتة..
كل من يريد الشهرة في هذا الزمان عبر الطرق غير الشرعية، فليعلم أنها شهرة مؤقتة، إن سلمت له الشهرة في جميع حياته فلن يحملها في وفاته، وليس لك من عملك إلا ما قدمت وآلاف المتابعين لك في وسائل التواصل لن يجيبوا عن أسئلة منكر ونكير، بل ستجيبها وحدك فأكثر أو أقل.
وإذا مات لم يُعرف من سيرته إلا أنه كان مهرجًا رحمه الله، وحق على الله ألا يرتفع شيء من هذه الدنيا إلا وضعه.
اللهم أصلح شبابنا وفتياتنا ..
التعليقات
زائر
04-11-2021ابن الأثير وليس ابن الأسير
الإدارة العامة - ملتقى الخطباء
07-12-2021شكرا .. وتم التعديل