اقتباس
الدنيا هي التي صدَّت الأكثرَ مِن الناس عن دينِ الله -تعالى- بزُخرُفها وملذَّاتِها وشهوَاتها ومتاعِها، وفي هذا الزمانِ البعيدِ العهدِ بالنبوَّة صارَت الدنيا فتنةً للكثير؛ فالخِصامُ فيها، والتواصُل والمُؤاخاةُ لمنافِعِها، والتوافُقُ على مصالِحها، والتباغُض والتقاطُع والتهاجُر عليها، ومقادِيرُ الناسِ بموازِينِها، فصارَت سببًا في اختِلافِ الأهواء، وقلَّ الحُبُّ في الله -تعالى-؛ قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- "وقد صارَت عامَّةُ مُؤاخاةِ الناسِ اليوم على أمرِ الدنيا، وذلك لا يُجدِي على أهلِه شيئًا"..
مكة المكرمة:
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "عاشُوراء ونصرُ الله للمُؤمنين"، والتي تحدَّث فيها عن تعظيم يوم عاشُوراء؛ لأن الله تعالى عظَّمَه وكذا رسولُه - صلى الله عليه وسلم -، مُبيِّنًا فضلَه وفضلَ الصيام فيه، بل والصيام في شهر الله المُحرَّم.
واستهل الشيخ بالوصية بتقوى الله -تعالى-، فقال: فأُوصِيكم ونفسِي بتقوَى الله تعالى.
وأضاف الشيخ: إن دلائِلَ سَعةِ رحمةِ الله بعبادِه، وإرادتَه الخير بهم، وعُمومِ فضلِه عليهم تبدُو جلِيَّةً في تعدُّد وتنوُّع أبوابِ الخير التي دلَّهم عليها، وهي أبوابُ خيرٍ لا يحُدُّها حد، ولا مُنتهَى لها، وإنها مُذلَّلةٌ للسالِكين، مُفتَّحةٌ مُشرَعةٌ كلَّ حين، يدلُفُون مِنها إلى ألوانٍ مِن القُرُبات، ويَزدلِفُون بها إلى مولاهم الأعلَى، ويترقَّون بِها في مدارِجِ الباقِيَات الصالِحات.
وقال حفظه الله: إن مِن أعظَم أبوابِ الخير: أن يفتَتِحَ المُسلمُ عامَه الجديدَ بالصيام الذي تُروَّضُ فيه النَّفسُ على كَبحِ جِماحِها، وللصِّيام في شهر الله المُحرَّم مزِيَّةٌ وفضلٌ عظيمٌ، أخبَرَ عنه رسولُ الهُدى -صلوات الله وسلامُه عليه- بقولِه: "أفضلُ الصِّيامِ بعد رمضان شهرُ الله المُحرَّم، وأفضلُ الصلاةِ بعد الفريضَةِ صلاةُ الليلِ" (أخرجه الإمام مُسلم بن الحجَّاج في "صحيحه" مِن حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).
وأكد الشيخ أن الصَّوم حين يقَعُ في شهرٍ حرامٍ، فإن الفضلَ يقتَرنُ فيه بالفضلِ، فيتأكَّدُ بشرفِهِ في ذاتِه، وبشرفِ زمانِه، وإن آكَدَ الصِّيام في هذا الشهر صَومُ عاشُوراء، ذلك اليوم الذي نصرَ الله فيه مُوسَى -عليه وعلى نبيِّنا أفضلُ صلاةٍ وأتمُّ سلامٍ- على الطاغِية فِرعَون؛ فكان إغراقُه في اليَمِّ غايَةَ جبَرُوتِه، وجزاءَ ما استكبَرَ هو وجنُودُه في الأرض بغير الحقِّ، وقصَّ الله علينا نبَأَ نهايةِ طُغيانِه في قُرآنٍ يُتلَى؛ ليكون عِبرةً للمُعتبِرِين، يدُلُّهم بذلك على أن العاقِبةَ للمُتقين، وأن النصرَ للمُؤمنين ولو كان بعد حِين، وأن معِيَّةَ الله هي المَدَدُ الذي لا ينفَدُ، والقُوَّةُ التي لا تُقهَر، بها يأمَنُ الخائِفُ، ويعِزُّ الذَّلِيل، ويَقوَى الضَّعيف.
وبيَّن فضيلته: أن هذا اليوم لهو يومٌ مِن أيام الله التي جعلَ الله لها مِن الفضلِ العظيمِ ما ثبَتَ في الحديثِ الذي أخرجَه الإمامُ مُسلم في "صحيحه" عن أبي قَتادَةَ - رضي الله عنه -، أن رجُلًا سألَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن صِيامِ يوم عاشُوراء، فقال: "إني أحتَسِبُ على الله أن يُكفِّرَ السَّنةَ التي قبلَه".
وأضاف فضيلته: إن في صَومِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يوم عاشُوراء، وفي صَومِ مُوسَى -عليه السلام- مِن قبلِه شُكرًا لله تعالى على ما مَنَّ به مِن نصرِ مُوسَى وقومِه، وإغراقِ فِرعون وقومِه دلالةً بيِّنةً على أن الشُّكرَ لله رب العالمين على عُموم نعمِه، وتتابُع فضلِه، ومَزيدِ إحسانِه إنما يكونُ بطاعتِه -سبحانه-، والقِيام بأمرِه ونهيِه. فبذلك تُستدامُ النِّعَم، ويُرجَى المزيدُ الذي وعَدَ الله الشاكِرِين لأنعُمِه بقولِه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
وختم الشيخ خطبته بالتحذير من بدع يوم عاشوراء وبيان مراتب الصوم فيه، فقال: فاحرِصُوا -يا عباد الله- على شُكر المُنعِم على نعمِه، بالعمل على مرضاتِه بطاعتِه وطاعةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، وبالحذرِ مِن كل دَخيلٍ مُختَرَعٍ لا أصلَ له في كِتابِ الله ولا في سُنَّة رسولِه -صلى الله عليه وسلم-، ومِن ذلك: الاكتِحالُ في يوم عاشُوراء، والاختِضابُ، والاغتِسالُ فِيه، فكلُّ ما رُوِي في ذلك موضُوعٌ لا يصِحُّ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، كما بيَّنه الإمامُ الحافظُ ابنُ رجَب وغيرُه مِن أهل العلمِ بالحديثِ. وفيما صحَّ عنه -صلواتُ الله وسلامُه عليه- غُنيةٌ وكِفايةٌ عن كل موضُوعٍ مُختلَقٍ مكذُوبٍ، أو باطِلٍ لا أصلَ له.
فاتَّقُوا اللهَ -عباد الله-، وصُومُوا مع يوم عاشُوراء يومًا قبلَه أو يومًا بعدَه؛ فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لئِن بقِيتُ إلى قابِلٍ لأصُومنَّ التاسِعَ" (أخرجه الإمامُ مُسلم في "صحيحه").
وذكرَ الإمامُ ابنُ القيِّم -رحمه الله- أن مراتِبَ صَومِه ثلاث: أرفعُها: أن يُصامَ يومٌ قبلَه ويومٌ بعدَه. وتلِيهَا: أن يُصامَ يومٌ قبلَه، وعليه أكثرُ الأحاديث. والثالثة: أن يُصامَ عاشُوراء وحدَه، لكن كرِهَ الإمامُ أبو حنيفة -رحمه الله- إفرادَ عاشُوراء بالصِّيام.
المدينة المنورة:
ألقى فضيلة الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من الفتن والزهد في الدنيا"، والتي تحدَّث فيها عن الأمر الإلهي بوجوب الاجتماع والائتلاف ونبذ الخلاف والتنازُع بين المُسلمين، ثم عرَّج على التحذير من الفتن عامَّة، كما بيَّن فضلَ الزُّهد في الدنيا وأهميتَه، وكل ذلك في ضوء الكتاب والسنة.
واستهل فضيلته خطبته بالوصية بتقوى الله تعالى، فقال: اتقوا الله فإن تقواه أربح بضاعة، واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه.
وأضاف الشيخ: إن الشرعَ المُقدَّس أمرَ بالاجتِماع والاتِّفاقِ، ونهَى عن الاختِلافِ والافتِراق؛ حِفظًا للدين الإسلاميِّ الذي لا تقُومُ الحياةُ إلا به، ولا تُنالُ الجنةُ إلا بالعمل به، وحِفظًا للمُجتمع مِن التصدُّع والتخلخُل والفوضَى، والتنازُع والبغيِ والفسادِ، ووِقايةً مِن التصادُم والتنابُزِ والبغضاء والتطاحُن، وحِمايةً للمصالِح والمنافِع والحُقُوق الخاصَّة والعامَّة، وتحقيقًا للأمنِ والعدلِ والاستِقرار.
وقال حفظه الله: التماسُكُ والاجتِماعُ، والترابُطُ والتوافُقُ، والتكافُلُ والتراحُمُ، ومُناصَرةُ الحقِّ، ونَبذُ الخِلاف، ونَبذُ التفرُّق حِصنٌ يَأوِي إليه المُجتمع، ومَوئِلٌ يسَعُ النَّاسَ، ومأمَنٌ للجميع، وقُوَّةٌ للدين، وحِفظٌ لمنافِعِ الحياة الدنيا، وحرزٌ مِن الفتن المُضِلَّة، وسلامةٌ وعافِيةٌ مِن كَيدِ الأعداء وضرَرهم. وكما أمَرَ الله -تعالى- بالحِفاظ على ترابُط المُجتمع وقوَّته وتراحُمه، نهَى عن التقاطُع والتدابُر، والشِّقاق والاختِلاف والفوضَى، وفتحِ بابِ الشرِّ.
وقال وفقه الله: ومِن وصايا النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- النافِعة التي تضمَّنَت أوامِرَ التعاضُد والتلاحُم والاجتِماع، ونهَت عن الفُرقة والاختِلاف والابتِداع، فجَمَعَت الدينَ والدنيا: قولُه -صلى الله عليه وسلم- لأصحابِه: "أُوصِيكُم بتقوَى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكُم عبدٌ؛ فإن مَن يعِش مِنكم فسيَرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكُم بسُنَّتي وسُنَّة الخُلفاء الراشِدِين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإيَّاكُم ومُحدثات الأمُور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة" (رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ").
وأوضح الشيخ أنه: كما نهَى الشرعُ المُقدَّسُ عن الفتن عامَّة، وحذَّر مِنها لضررها، حذَّر مِن فتنٍ خاصَّة تضُرُّ صاحِبَها وتضُرُّ العامَّة؛ فقد حذَّر الشرعُ مِن أن يشُذَّ الفردُ عن الجماعة. عن أبي هُريرة -رضي الله عنه-، عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن فارَقَ الجماعةَ شِبرًا فقد خلَعَ رِبقةَ الإسلام مِن عُنقِه" (رواه أبو داود).
وقال حفظه الله: ومما حذَّر مِنه الإسلام: الافتتانُ بالدنيا، وإهمالُ أعمال الآخرة ونسيانُها، والفلاحُ والفوزُ هو العملُ للآخرة؛ لأنها الباقِيَة، والعملُ بإصلاح الدنيا وعُمرانها بكل نافِعٍ ومُفيدٍ يُعِزُّ الدين، ويَفِي بحاجاتِ المُسلمين، ويُعِفُّ المرءَ المُسلمَ عن ذُلِّ المسألة، ويبسُطُ يدَه في النَّفقَة في أبوابِ الخيرِ.
والإقبالُ على الدنيا بجَمع حُطامِها مِن حلالٍ وحرامٍ وبالٌ على صاحِبِها، وأضرارٌ وشرٌّ على المُجتمع، وجَمعُها بالاعتِداء على حقِّ الآخرين وظُلمِهم في حُقُوقِهم وأموالِهم يُفرِّقُ الكلمة، ويُوهِنُ الروابِطَ والصِّلات. والتنافُس عليها بحِرصٍ وشُحٍّ وخُصومةٍ يقُودُ إلى تباغُضِ القُلُوبِ وتنافُرِها وتناكُرِها.
وبيَّن الشيخ أن الدنيا هي التي صدَّت الأكثرَ مِن الناس عن دينِ الله -تعالى- بزُخرُفها وملذَّاتِها وشهوَاتها ومتاعِها،
وأولُ خِلافٍ في الأمة خُروجُ المُنافقِين على الخليفة الراشِد عُثمان -رضي الله تعالى عنه-، ودافِعُ هذا الخُروج حُبُّ الدنيا، كما هو ثابِتٌ ومُدوَّنٌ في التاريخ، طمعًا في مناصِبِ الدنيا، فما نالُوا إلا ترَحًا وخِزيًا وحِرمانًا وبُغضًا، وهلَكُوا واحِدًا واحِدًا على سُوءِ حالٍ - والعِياذُ بالله -.
وأوضح فضيلته أنه في هذا الزمانِ البعيدِ العهدِ بالنبوَّة صارَت الدنيا فتنةً للكثير؛ فالخِصامُ فيها، والتواصُل والمُؤاخاةُ لمنافِعِها، والتوافُقُ على مصالِحها، والتباغُض والتقاطُع والتهاجُر عليها، ومقادِيرُ الناسِ بموازِينِها، فصارَت سببًا في اختِلافِ الأهواء، وقلَّ الحُبُّ في الله -تعالى-. قال ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: "وقد صارَت عامَّةُ مُؤاخاةِ الناسِ اليوم على أمرِ الدنيا، وذلك لا يُجدِي على أهلِه شيئًا" (رواه ابنُ جرير).
والوِقايةُ مِن شرِّ فتنةِ الدنيا: أن يعلَمَ المُسلمُ قَدرَها عند الربِّ -جلَّ وعلا-، فهو أعلَمُ بها، ثم الزُّهد مِن أسبابِ الوِقايةِ مِن الخُصُومات والمُنازَعات، والزُّهد هو الزُّهدُ في الحرام وتركُه، والقناعةُ بما آتاك الله، والعملُ للآخرة والرغبةُ إليها، وعدمُ الرُّكون إلى الدنيا وعدمُ الاطمِئنان إليها، وأن تمنَعَ نفسَك عما في أيدِي الناس، وألا تحسُدَ أحدًا على ما آتاه الله.
وختم الشيخ خطبته بالتحذير من زلات اللسان فقال: إن مما حذَّر مِنه الإسلام: زلَّات اللِّسان ومُهلِكاته؛ فإن القولَ والكتابةَ الباطِلةَ تُفرِّقُ الصفَّ، وتُشتِّتُ الشَّملَ، وتُخالِفُ بين الوُجوه، وتُشعِّبُ الأهواء، وتُضِلُّ عن الحقِّ، وتُوسِّعُ الخِلاف. ولما حذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِن الفتن، بيَّن أكثرَ مِن مرَّة أن القولَ بالباطِلِ فيها هلاكٌ، فقال: "اللِّسانُ فيها أشدُّ مِن وَقعِ السَّيفِ" .
التعليقات