اقتباس
وهكذا هي الدنيا، وهذا حالها دومًا؛ كل ما له بداية لابد أن تكون له نهاية، فقد قدِم علينا رمضان بعد أن انتظرناه شهورًا، وما أن دخل حتى انتصف فارتحل! وتلك عادته كل عام، بل تلك عادة الزمان؛ نحن اليوم أحياء ننعى آباءنا وأجدادنا، وغدًا نحن أموات ينعانا أولادُنا وأحفادُنا... وما زالت تلك الدورة والحكاية تتكرر منذ أن أُهبط آدم على الأرض، وستظل تتكرر إلى أن تقوم الساعة...
أين هي أعمارنا التي مضت؟ هل بقي منها شيء؟ وهل يرجع إلينا منها شيء؟ وهل نشعر الآن منها بشيء؟... لقد سألت أناسًا تجاوزوا الستين والسبعين من أعمارهم: كيف كانت أعماركم التي ولت؟ فأجابوني: والله لكأنها ساعة؛ مرت في لمح البصر، سنون متعاقبة متتابعة متلاحقة متسارعة، فكأنها ومضة أو لمحة أو خطرة خطرت بالبال ثم اضمحلت وانمحت!
وعن وهب بن منبه: أن نبي الله نوح -عليه السلام- عاش ألفًا وأربعمائة سنة، وقيل: وستمائة، فقال له ملك الموت: يا أطول الأنبياء عمرًا كيف وجدت الدنيا؟ قال: كَدَارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر"(تفسير القرطبي، والسمعاني، وغيرهما)، فكيف بنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن أعمارنا: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)؟!
وهكذا هي الدنيا، وهذا حالها دائمًا؛ كل ما له بداية لابد أن تكون له نهاية، فقد قدِم علينا رمضان بعد أن انتظرناه شهورًا، وما أن دخل حتى انتصف فارتحل! وتلك عادته كل عام، بل تلك عادة الزمان؛ نحن اليوم أحياء ننعى آباءنا وأجدادنا، وغدًا نحن أموات ينعانا أولادُنا وأحفادُنا... وما زالت تلك الدورة والحكاية تتكرر منذ أن أُهبط آدم على الأرض، وستظل تتكرر إلى أن تقوم الساعة...
فهذه عبرة وموعظة يثيرها في أنفسنا كل عام سرعة انقضاء رمضان؛ إنها "عبرة الزمان".
***
ولأن الزمان راحل مولٍ لا محالة، فإن ما يهمنا ألا يرحل إلا وقد حمل معه زادنا إلى الآخرة، فهذا رمضان قد ولى والقلق يملأ المؤمنين؛ هل تُقُبِل منا أم لا؟! ولقد "كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده وهؤلاء الذين: (يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60]... وهذا عبد العزيز بن أبي رواد يقول: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا".
يقول معلى بن الفضل: "كانوا يدعون الله -تعالى- ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم"، فكان العام كله لهم رمضان، ويقول يحيى بن أبي كثير: "كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلًا".
ووضع مالك ابن دينار قاعدة تقول: "الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل"(ينظر: لطائف المعارف لابن رجب).
نعم، نعم، إن المهم هو القبول، فكم من أعمال تُرد على صاحبها ولا تُتقبل، وعلامة القبول هي: "الخوف من عدم القبول"، فلما قرأت أم المؤمنين عائشة قول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)[المؤمنون: 60]، سألت النبي -صلى الله عليه وسلم-: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ فقال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 61]"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
***
وعلامة أخرى من علامات القبول هي: المداومة على الطاعة، وأول اختبار لتلك المداومة على الصيام هي صيام ست شوال، فعند مسلم: "من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر"(مسلم)، ثم صيام الاثنين والخميس، فقد سأل ربيعةُ بن الغاز أمَ المؤمنين عائشةَ -رضي الله عنها- عن صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأجابت: "كان يتحرى صيام الاثنين والخميس"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وكذلك صوم الأيام الثلاثة البيض، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر"(متفق عليه).
ويروي القاسم بن محمد، عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الأعمال إلى الله -تعالى- أدومها، وإن قل"، قال: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته... وعنها أيضًا أنها قالت: "كان أحب العمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يدوم عليه صاحبه"... وسأل علقمةُ أمَ المؤمنين عائشة فقال: يا أم المؤمنين كيف كان عمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ هل كان يخص شيئًا من الأيام؟ فقالت: "لا، كان عمله ديمة"(متفق عليها)... ثم علامات القبول بعد ذلك كثيرة متعددة.
***
والعكس بالعكس، والضد بالضد؛ فإن من علامات عدم قبول الأعمال الصالحات: الانقطاع عنها، والنكوص والانتكاس، وقد قالوا: "ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل"، وعن عبد الله بن سرجس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور..."(رواه مسلم)، والمراد بالحور بعد الكور: الضلالة بعد الهدى، والفساد بعد الصلاح، والهبوط بعد الصعود، والتدني بعد الترقي، والنقص بعد الزيادة!
وإن من يفعل ذلك فهو كتلك المرأة التي عاب القرآن الكريم صنيعها، وحذرنا أن نكون مثلها؛ حين قال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا)[النحل: 92]، قال عبد الله بن كثير، والسدي: "هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئًا نقضته بعد إبرامه"(تفسير ابن كثير)، وقد ترقينا مع الله -عز وجل- في رمضان، واعتدنا على فعل الخيرات وعلى اتقاء المنكرات، فحري بنا أن نثبت ولا نتزلزل، وأن نداوم فلا ننقطع.
***
وإننا لم نأت ها هنا بجديد ولا بغريب ولا بعجيب، وما فعلنا إلا أن أكدنا على قضية كبرى، وأمر إلهي جليل فيه النجاح والفلاح والفوز، ذلك الأمر يقول: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99]، وعليه عقد الخطباء الخطب، وكان منها ما يلي:
التعليقات