اقتباس
وما أهمتني قط هذه المباريات أو الألعاب في الطفولة أو زمن الشباب، ولم تك لي قط أية رغبة -لا ممارسة ولا مشاهدة أو حتى محادثة- في أي نوع من الألعاب؛ فكيف يطيب لي الحديث عنها وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة يا ترى .. !
أوّل ما ينتقل الذهن -لدى ذكر: "المباراة "- إلى "دنيا الألعاب واللاعبين"، وإلى المباريات التي تُقام - من حين لآخر- في مختلف أنواع اللعب .. مثل مباراة: " كرة القدم " أو: "الكريكيت" وغيرهما، وكثيرا ما تعقد هذه "المباريات الرياضية" محلّيٍّا أو إقليميٍّا أو دوليٍّا .. وتُعطى من الأهمية والتغطية فوق ما تستحق، ويُتَعَمَّد إشغال الشباب وتلهِيَتُه بسفاسف الأمور بدلا من معالي الأمور وجلائل الأعمال، حتى صاروا يحتفلون بالفوز في هذه المباريات الرياضية .. وكأنهم فتحوا بلدا، أو شيدوا مجدا، أو وصلوا إلى القمر، أو اقتنصوا النجوم، أو نالوا عزة نادرة، أو حققوا نجاحا خارقا منقطع النظير، أو قاموا بعمل بِكرٍ لم يُسبَقوا إليه، أو بإنجاز فريد في دنيا العلم (science والتكنولوجيا، والاختراع والاكتشاف، وحتى بات المتميزون في الألعاب (وفي السنيما أيضا) يسمَّون : نجوما و أساطير وأبطالا، يُحتفٰى بهم مثل الفاتحين !
وما أهمتني قط هذه المباريات أو الألعاب في الطفولة أو زمن الشباب، ولم تك لي قط أية رغبة -لا ممارسة ولا مشاهدة أو حتى محادثة- في أي نوع من الألعاب؛ فكيف يطيب لي الحديث عنها وأنا في ذيل الكهولة وبادئة الشيخوخة يا ترى .. !
فما لي وللحديث في الألعاب والمباريات الرياضية.. فلها رجالها.. ولكل فن رجال .. ولكل ساحة أبطال .. وكل مُيَسَّر لِما خُلِق له ..
خلق الله للحروب رجالا *** ورجالا لِقصعة وثريد
فلا أتحدث اليوم عن المباريات الرياضية أو عن المسابقات في الألعاب التي تنوعت أشكالها وتعددت أنواعها، فالدنيا تفننت فيها تفَنُّنَها في المرافق الأخرى من الحياة .. وإنما أتحدث اليوم عن نوع فريد من المباراة ..
إي والله! إنها مباراة فريدة فذة لا صلة لها -لا قريبة فضلا عن بعيدة- بهذه المباريات المعروفة .. فبينما الأخيرة عبارة عن القفز والركض، والجري والسعي، والضجيج والصفير، والضوضاء والغوغاء، والضحك والإضحاك، وربما الاستهزاء والتندر، (وأحيانا يتحول الملعب إلى ساحة جدال وعراك وقتال، قد تزهق فيها الأرواح و تسفك الدماء) .. وما إلى ذلك من الحركات البهلوانية التي لا تخفى على أحد ..
أما المباراة التي أفردت هذا المقال بذكرها .. فإن أبرز ما فيها: الجِدّ والوقار، والسكينة والطمأنينة .
إنها مباراة مكانها بيت الله .. والمتسابقون فيها ضيوف الرسول -صلى الله عليه وسلم-(١) ، والمشرفون عليها ملائكة الرحمن. من هنا .. فإنها أكرم مباراة وأشرفها وأطهرها .
ثم هذه المباراة التي أتحدث عنها الآن .. ليست لها مواعيد أو مواسم خاصة .. بل إنها مباراة يومية .. يمكن أن تراها قبيل الصلوات أو بعدها..
أخي القارئ الكريم! إذا سنحت لك الفرصة لأداء صلاة في مسجد فيه حلقات القرآن الكريم ندوة العلماء، رأيت منظرا يمتع روحك، ويقر عينك، ويثلج صدرك، ويجعلك تتفاءل وتستبشر بمستقبل الإسلام..
ترى مئات من الشباب - من طلاب التحفيظ يتلون في خشوع وتدبر كتاب الله .. قرآن الفجر .. (إن قرآن الفجر كان مشهودا).
نعم. ترى المساجد - على سعتها - مملوءة – بحلقات التالين للقرآن الكريم .
إنه منظر منعش للروح، مفرح للقلب، عظيم الأثر والوقع على حس الرائي .. وهو ينظر إلى هذه المجموعات الشبابية المقبلة على القرآن الكريم .
منظر يوهم كأن هنا مباراة -بين طلاب التحفيظ- في تلاوة كتاب الله -عز وجل- .
فياله من منظر رائع إيماني مهيب يُتمَتَّع برؤيته، ولا يوصف ببلاغة بليغ، أو بفصاحة فصيح، فالمشاعر تُحَس ولا تُبيّن .. وتُقرأ آثارها على الوجوه، ويعجز القلم عن تحبيرها على الطروس !
إن الناظر إلى هذه التجمعات القرآنية المباركة، وإلى هؤلاء الشباب الطاهر النقي التقي -من طلاب التحافيظ - المقبل على كتاب الله، لا يلبث أن يستشعر أن هذا الجو الإيماني القرآني امتداد للأجواء القرآنية المباركة، التي نملأ عيوننا بمناظرها الخلابة في الحرم المكي والمسجد النبوي كلما نسعد بزيارتهما .
وكذلك هنا -في مساجد أخرى - منظر آخر، لحري - كذلك - بأن نقف عنده، ولا يقل روعة وجمالا وأثرا على الناظر، واستمطارا لرحمة الله وجوده وكرمه .. من المنظر السابق .
إنه منظر مئات الأيدي المرفوعة إلى الله -قبيل صلاة المغرب .. ويوم الجمعة بصفة أخص- وأصحابُها يسألون الباري جل وعلا -في إلحاح وتضرع- الرحمة والمغفرة والرضوان، وحسن النية في طلب العلم، والخير والبركة فيه، والتوفيق لما يحب ويرضى، وتحقيق أمنياتهم .
إن هذه الوجوه النيرة المشرقة بضياء الإيمان، وهذه الألسنة الرطبة بذكر الله وبتلاوة القرآن، وهذه الجباه الساجدة، والظهور والرؤوس الراكعة، وهذه الأيدي الطاهرة المتوضئة المرتفعة إلى السماء، الضارعة إلى الرب .. إنّ كل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل -أولا- على توفيق أصحابها من الله، وعلى كونهم سائرين على طريق الصلاح والهداية إن شاء الله، وعلى أن دور التحفيظ أبناءها -مع العلم- ما هو خير من العلم .. وهو: الصلاح والتقى، والتخلقَ بأخلاق القرآن، والتأسي بالسلف الصالح، وعلى أن تربية هؤلاء الطلاب تتم على أعين المعلمين المنيرين والمربين الواعين والموجهين الصالحين المخلصين، وعلى أن هذه الحياة الصالحة المقضية في العبادة والطاعة ستضمن لهم -إن شاء الله- صحة المسار، والاستمرارَ -في المستقبل أيضا- على الطريق، والثباتَ على الجادة، والالتزام بما أخذوا به أنفسهم من المواظبة على العبادات والسباق إلى الأعمال الصالحات .
"من شب على شيء، شاب عليه". من هنا .. فإن العيش السعيد الآمن ينتظر هؤلاء الشباب .. وعدا من الله : (من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) .
نرجو أن هؤلاء الشباب الصالح - من طلاب التحافيظ سيكونون إن شاء الله جزءًا من الطلائع المؤمنة، المُؤَمِّنة للمستقبل المشرق للإسلام، الذي تتطلع إليه الأمة المسلمة كلها .
وندعو الله -سبحانه- أن يحفظ هذه القلاع الإسلامية العظيمة.
وبعد. فهذه سطور فاض بها القلم على طبق من حب واعتزاز .. تسجيلا أو تصويرا لواقع حي، فما أظهرت شيئا كان مستورا، أو بحت بسر كان خافيا على الناس .. وإنما هي ظاهرة معروفة تسرني وتسر كل من يراها .. وكانت نفسي تحدثني بالكتابة فيها من زمان، فهي لجديرة بالإشادة والتنويه، وبالاحتذاء والتقليد، والحمد والشكر لله تعالى عليها .
التعليقات