عناصر الخطبة
1/ صفة عيش النبي صلى الله عليه وسلم 2/ دروس وعبر في غلاء الأسعاراقتباس
ولئن شكى من قلَّ ماله غلاءَ الأسعار وصعوبةَ المؤنة فلينظر ما في ضمن ذلك من الألطاف والسعة والرخص في نواحٍ أُخَرَ أكثر مما غلا؛ فكم لله من خيرات وبركات ربانية، وكم له من أسرار وألطاف ظاهرة وخفية؛ (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده سبحانه، ونثني عليه الخيرَ كلَّه، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يَفجره. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ما أرسله الله إلا رحمةً للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. أما بعد: فإن أحسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ"إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ" (رواه البخاري:7277).
أتدري مَن أعظم رجُل، له عليك فضلٌ أعظمُ من فَضل والديك الكريمين؟ أليس هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟! بلى؛ فإنه لولا منَّة ربنا ببعثة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- لكنا حيارى في دياجير الظلمات: (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [الطلاق:11].
فاللهم اجعل حبك، وحب رسولك أحب إلينا من نفوسنا وأهلينا، ومن الماء البارد. اللهم برحمتك: اجعلنا من جلساء نبيك في جنتك.
أيها المؤمن المحب لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: هل اشتقتَ إليه؟ وهل تريد وصفًا لحبيبك -صلى الله عليه وسلم-؟ هل تعرف كَيْفَ كَانَ عَيْشُه -صلى الله عليه وسلم-؟ إذًا خذ هذه المواقف التي نقلتها لنا أعلم نسائه به.
وأما عيشته فقد قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- لِعُرْوَةَ بنِ الزبيرِ: ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ، ثُمَّ الْهِلاَلِ، ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَارٌ. فَقال: يَا خَالَةُ! مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ.. وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا (رواه البخاري، ومسلم).
وقَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ. قِيلَ: مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ؟ فَضَحِكَتْ. ولَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي؛ (رواه البخاري، ومسلم).
ولما ذَكَرَ عُمَرُ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي، مَا يَجِدُ دَقَلاً يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ؛ (رواه مسلم).
ولقد نَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً! فَقَالَ: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"؛ (رواه الترمذي، وحسنه). فرآه عُمَرُ وقد أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ، يقول: فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكَ؟" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ! فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟" فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: "أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (رواه البخاري، ومسلم).
نعم؛ لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- لا يريد الترف والإرفاه، ولا يبالي بالدنيا، ولا يخاف على نفسه الفقر، ولا يخافه على أمته، إنما يخاف عليهم من ضده. فحين قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، سَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: "أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ!" قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "فَأَبْشِرُوا، وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ. وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ" (رواه البخاري، ومسلم).
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس- وتفكروا في نعمه واشكروه، واذكروا آلاء الله وتحدثوا بفضله ولا تكفروه، فإن أصابكم وابتلاكم فاصبروا، فلنكن عند السراء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين.
الخطبة الثانية:
فإن ثمت حدثاً هو حديث الناس هذه الأيام في كثير من مجالسهم، ألا وهو عما قدره الله وقضاه من غلاء مترقب للأسعار لبعض الضروريات والكماليات؛ فلنقِف مع هذا الحدث بالحديث عن نقاط، منها:
1- أن نعلم أن غلاءَ الأسعار إنما هي مصائب ما وقعت إلَّا بما كسبت أيدينا، وهذا لابد أن يقال ويستقر في الأذهان، وإن ضاق بعض الناس ذرعاً بهذا الكلام، لكنها الحقيقة التي قال الله عنها: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير) [الشورى:30].
واللهِ لقد تمادينا في المعاصي، والله يغار على أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب. قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ"؛ (رواه البخاري).
2- ما دام أن غلاء الأسعار عقوبة وقعت بسبب ذنوبنا، فلنسأل ما الذنب المباشر الذي يكون سبباً لهذه العقوبة؟ إنه سبب بيَّنه الذي لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ" وذكر من الخمس قولَه: "ولَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ"؛ (رواه ابن ماجه بسند حسن).
وليس المراد بنقص المكيال والميزان في البيع فحسب؛ بل يدخل فيه كل ما تعامل به غيرك في الحقوق التي لك على الناس، والتي عليك لهم، والواجب أن يكون للمرء معيار واحد، وهو الميزان العدل مع من يحب ومن يبغض.
3- يأسف بعض الناس كثيراً لهذا الغلاء في بعض السلع، ويزيد حزنه على ويكون جُلَّ حديثه، في حين إن تأسفه ذلك لا يعادل ولا يقارب فيما لو فاته سبيل من الخير، فهو:
فطِنٌ بكل مصيبة في ماله *** وإذا يُصاب بدينه لم يشعرِ
4-ولئن شكى من قلَّ ماله غلاءَ الأسعار وصعوبةَ المؤنة فلينظر ما في ضمن ذلك من الألطاف والسعة والرخص في نواحٍ أُخَرَ أكثر مما غلا؛ فكم لله من خيرات وبركات ربانية، وكم له من أسرار وألطاف ظاهرة وخفية؛ (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأعراف:69].
5- ثم إن المرء إذا رأى بلداناً وتأمل أزماناً مرت بها كروب وخطوب من الجوع والمسغبة والغلاء الفاحش هان عليه كل ما يلقى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) [الروم:42]؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار، وسلوا الأجداد، الذين اصطلوا بنارِ الجوع، ولهيبِ الظمأ، دهراً طويلا، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطريق في وضحِ النهار.
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، يا منان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم: نسألك أن تجعل أيامَنا عامرة بالإيمان، والأمن، والقناعة برزقك.
اللهم أسبغ علينا نعمك وارزقنا شكرها. اللهم أصلح إمامنا وولي عهده ورعيتهم، ويسر للمسلمين الهدى، ويسر الهدى لهم؛ إنك جواد كريم رؤوف رحيم.
التعليقات