عناصر الخطبة
1/ مظاهر العبادة في رمضان 2/ انصراف الكثيرين عن صالح الأعمال بعد رمضان 3/ من مواسم الطاعات بعد رمضان 4/ علامات قبول العمل ورَدِّهاهداف الخطبة
اقتباس
واعلموا أن مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعد خُرُوجِهِ مِنْ تَبْدِيلِ نعمةِ الله كفراً، فمَن عزم على معاودة المعاصي بعد رمضان فصيامه عليه مردود، وباب الرحمة في وجهه مسدود.
الحمد لله الذي لا يزول ولا يتغير، سبحانه جعل في تعاقب الليل والنهار عبرة لمن يتذكر. أحمده -سبحانه- وأشكره، وأستغفره وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل في كتابه المبين: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، دعا إلى المداومة على الطاعة بفعله وقوله: "أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل"، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وكل من تمسك بهديه حتى يلقى الله وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله، وأكْثِرُوا من إتْباع الحسنة بالحسنة، فو الله ما أجمل من الطاعة تعقبها الطاعات! وما أجمل من الحسنة تجمع إليها الحسنات! وأكرِمْ بأعمال البر في ترادف الحلقات! إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغب فيها في محكم الآيات، فقال تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46].
عباد الله: إذا كان فعل السيئة قبيح في نظر الإسلام، فما أشنعه وأقبحه بعد فعل الحسنة! فلئن كانت الحسنات يذهبن السيئات فإن السيئات قد يقضمن الأعمال الصالحة.
عباد الله: إنَّ في استدامة أمد الطاعة وفي امتداد زمانها نعيم الصالحين، وأمل المحسنين، وليس للطاعة زمن محدود تنتهي بانتهائه، ولا للعبادة أجل معين؛ بل هي حق لله على العباد يعمرون به الزمان، ويشغلون به فرص الحياة وسويعات العمر.
فالعبد المطيع لله الذي يقطع مرحلة الحياة في عبادة الله هو من أولياء الله المتقين الذين وعدهم الله بعظيم الأجر، وسابغ الفضل، حيث يقول، وهو أصدق القائلين: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [المرسلات:41-44].
ولقد كان شهر رمضان المبارك ميدانا لتنافس الصالحين بأعمالهم، ومجالا لتسابق المحسنين بإحسانهم، وعاملا لتهذيب النفوس المؤمنة، روَّضَها على الفضيلة، وارتفع بها عن الرذيلة، وأخذت فيه دروساً للسمو الروحي، والتكامل النفسي، فجانبت فيه كل قبيح، واكتسبت فيه كل هدى ورشاد، فيجب أن تستمر النفوس على نهج الهدى والرشاد كما كانت عليه في رمضان؛ فنهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعبادة الرب وطاعته يجب ألا تكون قاصرة على رمضان، قال الحسن البصري -رحمه الله-: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت. ثم قرأ: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
عباد الله: كنتم في شهر الخير والبركة تصومون نهاره، وتقومون من ليله، وتتقربون إلى ربكم بأنواع القربات؛ طمعا في ثوابه، وخوفا من عقابه، ثم انتهت تلكم الأيام وكأنها طيف خيال قد قطعتم بها مرحلة من حياتكم لن تعود إليكم، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خير أو شر، وهكذا كل أيام العمر مراحل تقطعونها يوما بعد يوم في طريقكم إلى الدار الآخرة، فهي تنقص من أعماركم، وتقربكم من أجالكم.
تَمُرُّ بنا الأيامُ تترا وإنَّما *** نُساقُ إلى الآجالِ والعينُ تنظُرُ
فَلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مَضَى *** وَلا زائلٌ هذا المــَشِيبُ المـــُكَدِّرُ
عباد الله: إن انقضى موسم رمضان فبين أيدكم موسم يتكرر في اليوم والليلة، خمس صلوات فرضها الله على عباده تدعون إلى حضورها في المساجد لتقفوا بين يدي مولاكم وتستغفروه وتسألوه من فضله.
وبين أيديكم موسم يتكرر كل أسبوع وهو صلاة الجمعة ويوم الجمعة الذي اختص به الله هذه الأمة، وفيه ساعة الإجابة التي لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وبين أيديكم مواسم في جوف الليل وفي وقت الأسحار.
فما بال الكثيرين أخذوا ينصرفون عن صالح الأعمال؟ فبالأمس المساجد مكتظة بالمصلين، والأصوات مدوية بتلاوة الكتاب المبين، بالأمس أُنفقت آلافُ المئين على ذوي القربى والمساكين، بالأمس وقد كنا مرغمين الشيطان بكثرة النوافل أخذ يهتز طربا من تركنا لها، ويتصارع مع النفوس بترك الواجبات، (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6].
وإن تلكم لمأساة كُبرى، وخسارة عظمى، أن يبني الإنسان ثم يهدم، وأن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فأين تلكم القلوب الخاشعة في رمضان، والأعين الدامعة، والألسن التالية، والأيدي المنفقة؟ أين تلكم الأرواح المقبلة على الله؟ أين ذلكم الشعور الفياض في رمضان؟ أفلم تكونوا تعلمون أن رب رمضان هو رب شعبان وشوال؟ ألم تعلموا أنه أخبر عن نفسه سبحانه بأنه مع المحسنين في كل زمان؟ ألم تعلموا أنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا نزولا يليق بجلاله حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: "هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟"؟.
فما هذا الانصراف يا عباد الله؟ ما هذه الرغبة عن الله الذي يحب من عباده المداومة على تقواه؟ فحذارِ يا من سمت وجوههم في رمضان إلى درجات الصالحين، وتنعمت بلذة المناجاة، وانخرطت في سلك الطائعين أن تهدموا ما بنيتم وتبددوا ما جمعتم! حذار يا مَن كان في رمضان تقيا نقيا رحيما أن تحول نفسك شيطانا رجيما. حذار مِن النكوص على الأعقاب، والالتفات عن الله بعد أن أقبلت عليه؛ تائبا من ذنبك، راغبا في رحمته، خائفا من نقمته! حذار بعد أن كنت في عداد الطائعين وحزب الرحمن، وأسبل عليك لباس العفو والغفران، أن تخلعه بالمعصية فتكون من حزب الشيطان! حذارِ أن توقع نفسك في المعاصي؛ فإنها شهوة قصيرة عاجلة، تعقبها حسرة دائمة، ونار حامية.
عباد الله: إن للقبول والربح في هذا الشهر علامات، وللخسارة والرد علامات واضحة يعرفها كل إنسان من نفسه، ففكروا في أنفسكم: مَن كان حاله في الخير والاستقامة بعد رمضان أحسن من حاله قبله من حسن سلوك وابتعاده عن المعاصي فهذا دليل على قبول أعماله الصالحة في رمضان، ودليل على ربح تجارته في رمضان.
ومن كان بعد رمضان كحاله في رمضان أو أسوأ، مقيما على المعاصي بعيدا عن الطاعة يرتكب ما حرم الله، ويترك ما أوجب الله، يسمع النداء للصلاة فلا يحيب، ويعصي فلا يتوب، لا يدخل مع المسلمين إلى بيوت الله، ولا يتلو كتاب الله، لا يتأثر بالوعد والوعيد، ولا يخاف من التهديد، سماعه للأغاني والمزامير، ونطقه قول الزور، وشرابه الدخان والمخدرات والخمور، ومالُه من الرشوة والربا وبيع السلع المحرمة والكذب في المعاملة والغش والفجور، ماذا استفاد هذا من رمضان ومن مواسم المغفرة في رمضان؟ إنه لم يستفد سوى الآثام والخسران، والعقاب والنيران، فيا عظمى الخسارة! ويا فداحة المصيبة! ويا هول العقوبة! نعوذ بالله من العمى بعد البصيرة، ومن الضلالة بعد الهدى.
فاتقوا الله عباد الله، وواصلوا السير إلى الله، فمن زرع وتعاهد زرعه بالسقي حصد،
ومَن زرَعَ الحبوب وما سقاها *** تأوَّهَ نادماً يومَ الحصادِ
اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك في رمضان وفي غير رمضان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الرافع الخافض، يرفع المتقين بطاعته، ويخفض العصاة بخذلانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن مقابلة نعمة التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصي بعد خروجه من تبديل نعمة الله كفرا، فمَن عزم على معاودة المعاصي بعد رمضان فصيامه عليه مردود، وباب الرحمة في وجهه مسدود.
إن هذه الشهور والأعوام والأيام كلها مقادير الآجال، ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعا، وتمضي جميعا، والذي أوجدها وابتدعها باقٍ لا يزول، وباقٍ لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب ومشاهد. قيل لِبِشْرٍ الحافي: إن قوماً يتعبدون الله في رمضان، فإذا انسلخ تركوا. قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان!.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأَلْزِمُوا أنفُسَكم المسلك القويم الذي سلكتموه في رمضان من اجتناب المعاصي، والإكثار من أعمال البر، ومتابعة الإحسان بالإحسان.
وإن من متابعة الإحسان صيام ستة أيام من شوال ندبكم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " من صام رمضان وأتبعه ست من شوال كان كصيام الدهر كله ".
ووجه كون صيام الستة بعد رمضان كصيام الدهر هو أن الله يجزي عن الحسنة بعشرة أمثالها، كما في قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام:160]، فصيام رمضان مضاعف بعشرة شهور، وصيام الست بستين يوما، فحصل من ذلكم أجر صيام سنة كاملة.
عباد الله: إن فضل الله عليكم متواصل، ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها، فإنه لما انقضى شهر رمضان دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكأنما مَن صام رمضان وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك مَن حَجَّ البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من الساعات إلا ولله فيها له عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف، ويتقرب بها إلى مولاه، فاشكروا الله على هذه النِّعَم، واغتنموها بطاعته، ولا تضيعوها بالغفلة والإعراض عنه.
هذا وصَلُّوا -رحمكم الله- على مَن أمَرَكم الله بالصلاة عليه، فقال -عَزَّ مِن قائل حكيم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم على صحابته الطيبين الطاهرين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودَمِّرْ أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائرَ بلادِ المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في مَن خافَكَ واتَّقَاكَ، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين.
اللهُمَّ وفِّقْ وليّ أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبِرِّ والتقوى، اللهمَّ أصلِحْ له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مَرْبَحَاً ومغنما، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريق وسُلَّمَاً.
ربنا آتنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: (إِنَّ اللهَ يأمُرُ بِالعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عليكُمْ كَفِيلَاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل:90-91].
التعليقات