عناصر الخطبة
1/أهم غايتين من شهر الصيام 2/من ثمرات الصيام 3/صور من الخلل في شهر رمضان 4/ شهر رمضان مدرسة إيمانية لتربية دائمة 5/كثرة صور الانفصام بين صيام النهار وتفريط الليل 6/خطورة تضييع الصلوات المفروضة.اقتباس
صِرْنا لا ننكر وجود امرأة ورجل في وضع الزوجين، وَنَصِف الرجل بأنه ممثل محترم والممثلة بأنها قديرة، وصرنا لا ننكر أن تظهر المرأة حاسرة الرأس كاشفة الشعر والرقبة والذراعين والساقين، تعودنا ما يسمى بالحب قبل الزواج، واختلاط المرأة بأصدقاء زوجها، وسفرها مع خاطبها، تقبّلنا كل هذا على أساس أنه تمثيل...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الرحيم الرحمن، أمّننا بالإيمان، وسلّمنا بالإسلام وأنزل لهدايتنا القرآن، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، أفاض علينا بالجود والإحسان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنة الرضوان.. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين: فأكثر ما يُدْخِل الناس الجنة تقوى الله وحُسْن الخلق؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق.
وهذان هما الغايتان من شهر الصيام، فمن صام حقًّا فقد حقَّق التقوى وتحلَّى بالخُلُق الأسمى
رمضان بروحانيته وعباداته وتفاصيل لحظاته يبني في القلوب معالم التقوى، يربي على خوف الله ومراقبته والحياء منه واستشعار عظمته.
في منتهى الحر، وغاية العطش؛ يخلو الصائم بلا رقيب ولا حسيب من البشر؛ فلا يجرؤ على أن يُدْخِل جوفه نقطة ماء؛ فما السر يا ترى؟، إنها تقوى الصيام.
يستنشق ويتمضمض ويدخل الماء فاه، وبإمكانه أن يصل إلى جوفه دون أن يشعر به حتى جليسه لكنه لا يفعل؛ خوفًا من الله، وتلك مدرسة التقوى.
في رمضان تراويح وقيام وتلاوة للقرآن وجود وإحسان ورقة في القلب وخشوع في الجوارح وتلك هي التقوى.
يدع العبد ملذاته وشهواته نهار رمضان ثلاثين يومًا، رغم تعلق قلبه بها، لا لشيء إلا لأن الله قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)[البقرة:183]، وتلك هي التقوى.
يتحفظ الصائم من الخوض في أعراض الناس، ويتجنّب الكلام في مثالبهم، ويظهر ذلك في عفة لسانه وتجنّبه لمجالس اللغو والرفث، وإن سابَّه أحد أو شاتمه أعرض، وقال: "إني امرؤ صائم"، وتلك هي التقوى.
كم ترى في رمضان من صور البذل والعطاء والجود والإحسان والعفو والصفح عن المسيئين والتنازل عن الحقوق ابتغاء مرضاة الله، وتلك هي التقوى.
إذن فأكثر ما يُدْخِل الناسَ الجنةَ شهرُ رمضان لمن صامه حقًّا وحقق التقوى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة:183].
ومع ما في رمضان من دروس في الأخلاق والتقوى وتربية على العبودية لله، وتعويد على الطاعة، وتقريب للقلوب إلى علام الغيوب، وربط النفوس بالدار الآخرة؛ إلا أنك ترى صورًا من الخلل تنبئ عن عدم تحقيق التقوى، وأن رمضان كان مجرد إمساك عن الطعام والشراب والشهوات لساعات.
حلّق في عالم فئة تصوم رمضان؛ فإذا ما أفطرت على المباح أتبعته بنقض غزلها وإفساد طاعات النهار بأوزار الليل، ترى أحدهم مسمرًا عينيه فاغرًا فاه ضحكًا وإعجابًا بمسلسلات سامجة مضمونها السخرية بك يا مسلم، والاستهزاء بدينك وهدم ثوابتك، ولمز إخوانك بأسلوب لا تقبله إلا النفوس التائهة التافهة التي فقدت كل معاني الغيرة على الدين، فأين تقوى الصيام؟
أين التقوى عند صائمين تبلدت أحاسيسهم، وماتت الكثير من الفضائل الإسلامية في نفوسهم حتى صاروا يتقبلون أن يروا في الشاشة رجلاً يحتضن بنتاً شابة؛ لأنه يمثل دور أبيها، ونحن يطلب منا أن نأخذ الأمور بعفوية تامة؟!
صِرْنا لا ننكر وجود امرأة ورجل في وضع الزوجين، وَنَصِف الرجل بأنه ممثل محترم والممثلة بأنها قديرة، وصرنا لا ننكر أن تظهر المرأة حاسرة الرأس كاشفة الشعر والرقبة والذراعين والساقين، تعودنا ما يسمى بالحب قبل الزواج، واختلاط المرأة بأصدقاء زوجها، وسفرها مع خاطبها، تقبّلنا كل هذا على أساس أنه تمثيل، وكل هذا متفقون جميعاً على أنه حرام مصادم لأمر الله -عز وجل-، وأبناؤنا يتلقفون ذلك على أنه حقائق يجب أن تكون فيتربون على قلة الحياء منذ الصغر. فأين أثر التقوى؟!
نصوم رمضان ونمسك عن الطعام والشراب؛ خوفًا من الله، لكن ما بال فئة لا تركع مع الراكعين، ولا تنافس في العبادات مع المتنافسين، ولا تسابق إلى الجنة مع المتسابقين؛ فما أثر الصيام علينا؟
إن رمضان مدرسة دائمة لتربية دائمة، تُربّي على جمال الأخلاق وحسن التعامل، فما بالنا جعلنا من الصيام وقتًا للعبوس وسوء التعامل واحتقان النفوس؟!
لماذا فقدنا الابتسامة في نهار رمضان وكأنها من المفطرات، ولماذا نرى صور التبرم والتضايق والخشونة في تصرفات السائقين؛ فلا إيثار بل أثرة، ولا هدوء ولا سكينة بل انفعالات وغضب وخصومات ووجوه ترهقها قترة، فأين توجيه الإسلام: "إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ"؟
"إني صائم"، كلمة لا تعني أن تفاخر بصيامك وتعلنه للناس، لكنها رسالة لنفسك أولاً بأنك بصيامك أصبحتَ إنسانًا آخر، إنسانًا يفيض رقةً وحنانًا وإحسانًا، إنسانًا لا يخوض مع الخائضين ولا يجهل مع الجاهلين؛ لأن الصيام رَبَّاه على العفو والغفران وحسن التعامل مع الناس طلبًا لرضوان الله.
"إني صائم"، كلمة تعني أني لست كغيري من البشر؛ فأنا في عبادة الأخلاق والصبر، فلا أجازي السيئة بمثلها، وإنما أعفو وأغفر؛ لأن ربي قال: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور:22].
حينما تجد انفصامًا بين صيام النهار وتفريط الليل، حينما تجد صائمًا يمسك عن الحلال ويفطر على الحرام، حينما تجد صائمًا لا يعرف رمضان إلا بالموائد وقلة الفوائد، حينما ترى من يصوم ولا يصلي؛ فاعلم أن غاية الصيام لم تتحقق، وأن نفوس هؤلاء على التقوى لا تقوى.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
أما بعد: الصيام يبلغكم السلام، ويشكركم على مظاهر التعظيم والاحترام.
الصيام يتذكر من يسأل عن قطرة العين، ومن يتحرج من الغرغرة في نهار رمضان، والصيام لا ينسى مَن تسأل عن تذوق الطعام، ومن تسأل عن التحليل، ومن تسأل عن بقايا من ريح البخور، ومِن حكم مرطّب الشفاه وعن صحة صيام من استيقظ محتلمًا.. أسئلة المستفتين تُشعرك باهتمام الناس بالصيام وحرصهم على الكمال والتمام.
ويأتي الحج وعشره لتجد مَن يسأل عن شعرة سقطت، وعن ظفر انكسر، وعن حصاة في الجمرة لم تسقط، وعن طواف خلا من تقبيل الحجر.. أسئلة تعبر عن الاحترام والحرص على التمام.
وإن المسلم ليسعد بهذه الروح الحساسة تجاه عبادة ربها، ويُسَرّ بتلك المواقف التي ترسم صور الاهتمام ومظاهر الاحترام.. لكن يتألم القلب حينما يجد أن من يسألون عن الغرغرة في الصيام ألسنتهم تلوك اللحوم الميتة، وتفري في أعراض المسلمين، ومن يسألون عن قطرة العين تتدنس أعينهم بالنظر إلى ما حرم الله، ومن تتحرج من تذوق الطعام تخالط الرجال وتخضع في الكلام، ومن يسألون عن شعرة سقطت لا يبالون بحلق اللحى، ومن يسألون عن أثر الاحتلام في الصيام لا يجيبون نداء الله للصلاة والفلاح.
إنَّ دين الله جزء لا يتجزأ، وهو شعائر وأحكام ففيها الواجب والأوجب، وفيها الفرض والمستحب، وفيها الحرام والمكروه، وإن الله لا يقبل نافلة حتى تُؤدَّى فريضة، وليس من دين الله الإغراق في الجزئيات والتفريط في الضروريات.
وإذا كانت الأمة تُظْهِر احترامها وتعظيمها للصيام والحج، فإن السؤال الأكبر: أين تعظيمها لفرض أولى وأهم ألا وهو الصلاة التي لم يكن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرون شيئًا تركه كفر إلا إياها.
كم تتحسر وأنت ترى صفوف المصلين في رمضان تشكو الهاجرين الأصحاء الآمنين، كم تحزن وأنت تعلم أن بجوار المساجد بيوتًا ضمت أجسادًا ما قدروا الله رب العالمين، يسمعون نداءه فلا يجيبونه، وكأن "حي على الصلاة" لا تعنيهم، ولا "حي على الفلاح" تغنيهم؛ فأين تقوى الصيام؟!، وما عذرهم بين يدي الله وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون؟!
قَال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فلو عَلِمَت العَامَّةُ: أنَّ تَفوِيت الصَّلاة كتفوِيتِ شَهر رمضَان باتفاق المسلمين؛ لاجتَهَدُوا في فِعْلِهَا في الوَقت".
فيا حسرة على العباد لو يدركون ما هذه الصلوات، ويا حسرة ثم حسرة على نابتة من أبناء الإسلام تعددت بهم السبل من هنا وهناك، وتفرقت بهم الأهواء، وانغمسوا في التيه من كل صوب، وأضاعوا هذه الصلوات خشوعها ومواقيتها وجمالها (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم:59].
اللهم صلِّ وسلم على محمد....
التعليقات