اقتباس
إن مأساة مسلمي بورما تكشف معاناة مسلمي الأطراف الذين يدفعون ثمن ضعف قلب العالم الإسلامي وتفككه، ويتعرضون وحدهم للتعصب الديني الذي يتصاعد، ويستضعف الأقليات المسلمة التي أصبحت معزولة ومحاصرة بعد عمليات التقسيم والتفتيت التي قامت بها القوى الاستعمارية خلال..
ما يتعرض له مسلمو الروهينجا في بورما من جرائم القتل والإبادة والتهجير بالقوة؛ يذكرنا بما تعرض له الهنود الحمر في أمريكا على يد الرجل الأبيض، وإذا كانت إبادة الأمة الهندية لم يسمع بها العالم إلا بعد حدوثها بعشرات السنين بسبب انعدام وسائل الاتصال فإن إبادة مسلمي أراكان تتم وسط صمت وتواطؤ دولي رغم وجود وسائل الاتصال التي تنقل المأساة بالصوت والصورة!
إن مأساة مسلمي بورما تكشف معاناة مسلمي الأطراف الذين يدفعون ثمن ضعف قلب العالم الإسلامي وتفككه، ويتعرضون وحدهم للتعصب الديني الذي يتصاعد، ويستضعف الأقليات المسلمة التي أصبحت معزولة ومحاصرة بعد عمليات التقسيم والتفتيت التي قامت بها القوى الاستعمارية خلال القرنين الماضيين.
لقد جلب الموقع الجغرافي لأراكان أطماع البوذيين في بورما قديما وحديثا؛ فانتشار المسلمين على الساحل الشرقي لخليج البنغال أعطاهم ميزة استراتيجية جعلت لمملكة أراكان دورا حيويا في مدخل مضيق ملقا الاستراتيجي الذي تمر منه حركة التجارة من وإلى الدول الآسيوية خاصة في وقت الازدهار الإسلامي والسيطرة الإسلامية على المحيط الهندي.
هذه الأهمية الاستراتيجية جعلت الملك البوذي بوداباي في عام 1784م يضم المملكة المسلمة إلى بورما، مستغلا حالة الضعف التي ضربت المسلمين في القارة الهندية، ثم سقطت بورما بعدها بأربعين عاما في قبضة الإنجليز في 1824م واستمر الاحتلال حتى 1948م عندما سلمتها بريطانيا لحكومة بورما البوذية شريطة أن تمنح العرقيات حق الانفصال إذا أرادت خلال 10 سنوات وهذا ما لم يحدث.
وكما كان موقع أراكان وبالا عليها فإن الموقع الجغرافي لبورما (تم تغيير اسمها إلى ميانمار عام 1989) جعل منها دولة مهمة جدا في الصراع الدولي، ففي الحرب العالمية الثانية كانت هي طريق الإمداد الاستراتيجي لتقديم المساعدات للصين عندما أغلقت اليابان كل الموانئ في بحر الصين، واستثمر الجيش البورمي هذه الأهمية والتنافس الدولي على ميانمار في ابتزاز كل الأطراف لتثبيت أقدامه والإمساك بزمام السلطة.
أهمية بورما ومعضلة مضيق ملقا:
خلال العقود الثلاثة الأخيرة ركزت الاستراتيجية الأمريكية على "تطويق الصين" من خلال الهيمنة على المنطقة الآسيوية والسيطرة العسكرية على بحر الصين، وارتكزت الاستراتيجية الأمريكية على اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، بالإضافة إلى التعاون مع الفلبين وبقية الدول الآسيوية، وفرضت أمريكا طوقا ثانيا من خلال أستراليا ونيوزيلاندا العضوان في الحلف الأنجلوساكسوني البروتستانتي الذي يضم معهما إنجلترا وكندا والولايات المتحدة، وهذا الحلف الخماسي هو الذي يقود الغرب من أكثر من قرنين ويهيمن على العالم.
نقطة القوة الأهم للولايات المتحدة لتطويق الصين هي السيطرة على مضيق ملقا الذي يمر بين ماليزيا وإندونيسيا الخاضعتان للنفوذ الأمريكي، ويربط بين المحيطين الهندي والهادي، وهو الطريق الملاحي الحيوي الذي يربط الصين بالعرب وأفريقيا وأوربا، ويمر منه 80% من واردات الصين من النفط، و40% من تجارة العالم.
يعد مضيق ملقا الذي يصل طوله 800 كم حنجرة الصين، حيث تمر منه السفن التي تحمل النفط والغاز والمواد الأولية، ومنه تخرج السفن المحملة بالبضائع، وأي إغلاق للمضيق من جانب أمريكا سيؤدي إلى اختناق الصين وإصابتها بالشلل.
وللقفز خارج الطوق الأمريكي ولمواصلة الصعود نحو الزعامة العالمية بدأت الصين البحث عن بدائل أخرى لتجنب الحصار العسكري، فكان التخطيط للوصول إلى المحيط الهندي، وهنا ظهرت أهمية بورما بالنسبة للصين.
تحركت الصين مبكرا وأبرمت اتفاقات تعاون في عام 2007 مع قادة الجيش البورمي أهمها إنشاء خط أنابين لنقل الغاز بطول 2806 كم وآخر لنقل النفط بطول 771 كم من ساحل أراكان على خليج البنغال إلى غرب الصين وتدشين طريق بري وخط للسكك الحديدية لاختصار الوقت والمسافة والتغلب على "معضلة ملقا"، وقدمت الصين الكثير من المساعدات للنظام العسكري وأنفقت المليارات على البنية الأساسية في ميانمار كما ولو كانت ولاية تابعة للصين.
وفي سعيها للتوسع في المحيط الهندي لم تكتف الصين بعلاقتها الاستراتيجية مع بورما؛ فتمددت إلى بحر العرب وتعاونت مع باكستان العدو اللدود للهند المتحالفة مع الولايات المتحدة، وقدمت القروض والمساعدات للحكومة الباكستانية وحصلت على امتيازات متعلقة بتطوير ميناء غوادر الباكستاني، ورصدت 55 مليار دولار لمشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني والذي يشمل خطوط أنابيب لنقل النفط والغاز وطريق بري لربط الصين بالمحيط الهندي.
ولكسر الحصار البحري الأمريكي نهائيا والاستغناء عن مضيق ملقا هناك تصورات وخطط صينية لشق "قناة كرا" جنوب تايلاند تربط بين خليج البنغال وبحر الصين طولها 35 كم بتكلفة 38 مليار دولار، وهذه القناة لو تم البدء فيها قد يكون ضحيتها المسلمون الذين يتركزون في جنوب البلاد!
الموقف الأمريكي والغربي:
تتسم خطط التحرك الصيني في المحيط الهندي بالسرعة والقوة وهذا جعل الأمريكيين غير قادرين على مجاراة المخططين الصينيين؛ ولكن الولايات المتحدة تحركت في اتجاهين:
الأول: تحفيز الحليف الهندي على التوسع لتحجيم النفوذ الصيني المنافس.
والثاني: العمل لتقوية المعارضة المدنية في بورما للوصول إلى السلطة، وهدم بنية النظام العسكري الحاكم بما يجعل النظام الديمقراطي المدعوم من الغرب هو الأداة لتقليص الوجود الصيني.
حاولت دول الغرب اللجوء إلى خيار العقوبات والخنق الاقتصادي والسياسي لإضعاف النظام العسكري ولكن هذا الخيار فشل بسبب الدعم الصيني، وعندما ذهبت أمريكا والغرب إلى مجلس الأمن عام 2007م لانتزاع قرار بإدانة المجلس العسكري اصطدموا بالفيتو الصيني الروسي المشترك، فعادوا إلى المساحة المتاحة وهي التغيير السياسي ودعم حركة الاحتجاج المدني والرهان على الوقت.
لم يبق أمام أمريكا والغرب من أدوات لخنق الصين في بورما غير دعم الحركة السياسية بقيادة أون سان سوتشي ضد الحكم العسكري لتوصيلها إلى الحكم فضغطت أمريكا لإجراء الانتخابات وضرورة الاعتراف بها، وليس إلغائها كما حدث في عام 1990، فساندوا سوتشي وأعطوها جائزة نوبل عام 1991، وزار أوباما ميانمار في 2012 وضغط الغرب على العسكريين بالعقوبات والحصار الخارجي وتمويل المعارضة الداخلية حتى اضطروهم إلى التنازل بعد أن رتبوا الأوضاع وجعلوا مفاتيح ومفاصل الدولة في أيديهم.
وبناءً على صفقة مع الأمريكيين تمد رفع العقوبات الاقتصادية، وإلغاء الحظر على الشركات الأمريكية للتعامل مع بورما مقابل موافقة قادة الجيش على إجراء الانتخابات والاعتراف بالنتيجة مع احتفاظ العسكريين بالوزارات السيادية التي تضمن لهم استمرار التحكم في القرار حتى بعد ترك منصب الرئيس ورئاسة الوزارة.
لم تمانع الصين في التنازل الشكلي للمعارضة المدنية والاتفاق الذي يعيد الهدوء السياسي ويوقف حركة الاحتجاج في الشارع طالما لا يؤثر على المصالح الصينية، خاصة إن اتفاقات التعاون بين الصين وبورما مدتها 30 عاما، وليس من حق الحكومة المنتخبة تغييرها أو تعديلها.
دوافع الإرهاب البوذي:
يعيش في بورما مسلمون من عرقيات مختلفة يذوبون وسط البوذيين في الولايات الأخرى لكن المذابح موجهة إلى مسلمي أراكان لعدة أسباب أهمها الآتي:
1- إنهاء وجود المسلمين تماما حتى لا يطالب الروهينجيا بحقهم في استعادة مملكة أراكان، والتخلص نهائيا من فكرة المطالبة.
2- ظهور النفط والغاز في المياه الضحلة والعميقة أمام سواحل أراكان وهذا يعطيهم حقوقا في التوظيف والمشاركة في الثروة المستخرجة من أراضيهم، مما يزيد من قوتهم ويعطيهم أهمية في المشروعات القادمة.
3- خشية حكام ميانمار من استخدام المسلمين مستقبلا من قبل أمريكا والغرب في هذه المنطقة الاستراتيجية وتسليحهم للضغط على الحكومة البورمية، وهذا المبرر المزعوم يقدمه النظام العسكري للجانب الصيني لتبرير الإبادة والتهجير، ولكن هذا الزعم غير حقيقي لأنه كان ممكنا في فترات سابقة منذ خروج البريطانيين ولكن المسلمين فضلوا الصبر وانتظار حق تقرير المصير بشكل سلمي.
4- تأكد النظام العسكري أن الروهينجيا من مسلمي الأطراف الذين لن يدافع عنهم أحد من المسلمين، فلا توجد كيانات أو روابط إسلامية تمثل العالم الإسلامي تتصدي لإنهاء الوجود الإسلامي في أراكان.
5- ضمان عدم الإدانة الدولية بسبب الحماية الصينية في مجلس الأمن، وبسبب إقبال القوى الدولية - مع اختلاف أهدافهم - لاسترضاء الحكم العسكري للأهمية المتصاعدة لميانمار في الصراع بين الصين والولايات المتحدة.
6- استعادة النظام العسكري الشعبية التي افتقدها في صراعه مع المعارضة، باستمالة الكهنة البوذيين المتعصبين الذين يقودون الحراك الشعبي، وتحقيق مطالبهم التي في مقدمتها طرد مسلمي أراكان ومنها تجريم تغيير الدين واعتناق الإسلام الذي ينتشر وسط العرقيات الأخرى.
الصين وقدرتها على الحل:
الصين مفتاح الحل، فهي راعية البوذية في العالم، وهي الدولة المهيمنة على شرق آسيا، ووجودها في ميانمار يجعلها القوة المؤثرة على النظام العسكري الحاكم، ولذلك فان أقرب طريق لوقف الإبادة وإنقاذ مسلمي الروهينجيا عبر بكين، ولكن هذا يقتضي التحرك من خلال كيان يمثل الدول الإسلامية مثل منظمة التعاون الإسلامي، أو من خلال جهد مشترك للدول الإسلامية الكبرى التي ترتبط بعلاقات جيدة مع الصين.
وهذا التدخل في الشأن الداخلي لبورما ليس الأول من نوعه؛ فهناك قضايا لأقليات أخرى على الحدود مع الصين والهند وتايلاند حيث توجد أعراق تسعى للانفصال، ولها جيوش وميليشيات مسلحة خاضت حروبا ضد الجيش البورمي، وقد تدخلت دول الجوار بجانب الأعراق المرتبطة بها ونجحت في وقف إطلاق النار والوصول إلى اتفاقات لحفظ الحقوق والتعايش في سلام.
دعوة البعض للتوجه غربا واللجوء إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن ستصطدم بالفيتو الصيني؛ كما أن الغرب في بورما طرف في الصراع وليس جهة محايدة، وعندما يتدخل يستخدم القضية كورقه في الصراع، وليس للدفاع عن الضحايا وحقوق الإنسان.
القوة تنتقل الآن شرقا؛ فالصين هي القوة الصاعدة، لزعامة العالم، ويتميز الصينيون بأن أهدافهم تجارية واقتصادية، وليس لهم ميول استعمارية، ورغم موقفهم من الأقلية المسلمة في الداخل فإنهم لا يعادون المسلمين في العالم، ومن المصلحة أن يتعامل العرب والمسلمون معها ككيان موحد وليس فرادى لتعظيم المكاسب للطرفين.
عدم تحرك العالم الإسلامي اليوم لإنقاذ مسلمي أراكان سيشجع دولا أخرى لتكرار الجريمة مع مسلمين آخرين في أطراف العالم الإسلامي التي تدفع ثمن ضعف قلب الأمة، بل سيؤدي هذا الاستسلام والهروب إلى توسع المذابح داخل القلب نفسه، بوتيرة أكثر وأفظع مما نراه الآن في بعض البلدان العربية، حيث تتم الإبادة والتهجير بقرارات دولية وليس بالغدر والتواطؤ كما يحدث في بورما.
التعليقات