عناصر الخطبة
1/ كثرة التفرق والتمزق بين الدول الإسلامية 2/ من معالم العبادة والطاعة عند أهل السنة والجماعة 3/ مسالك الطغاة والمنافقين في الصد عن سبيل الله 4/ الجهاد قائم إلى يوم القيامة 5/ خسارة من باع دينه بدنيا فانية 6/ ذم الحيل والمحتالين على الشرع 7/ تنوع محاولات الكافرين الإسلام.اهداف الخطبة
اقتباس
مَغبُونٌ مَن بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنيَاهُ, وأَشَدُّ مِنهُ غَبنَا: مَن بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنيا غَيرَهُ؛ إذْ إنَّهُ كفَقيرِ نَصَارَى, لا دُنيا, ولا آخِرَة, والـمَرءُ مَا دَامَ ذا عَقلٍ مُحَاسَبٌ على كُلِّ ما يَصدُرُ عَنه, لا يُغني آمِرٌ عن مَأمُورٍ شَيئا, نَعم, يُضَاعَفُ جُرْمُ الآمِرِ لأمرِهِ, لكنَّ الـمُبَاشِرَ يُوفَّى وِزْرَهُ كَامِلا (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا)، فَقَبلَ أنْ تَمتَثِلَ أَمرَ مَن فَوقَك, قِفْ, وانظر: فإنْ أَمَرَكَ بِمَا لا مَعصِيَةَ فيه, فامتِثَالُكَ أَمرَهُ طَاعَةٌ تُثَابُ عَليها, وأمَّا إنْ كانَ إنِّمَا يَأمُرَكَ بمَعصِيَة, فأنَّىَ بِنَفسِكَ عن أسبَابِ سَخَطِ اللهِ, فإنَّ أحداً لنْ يَحُولَ بَينَكَ وبينَ عَذابِهِ, وإنْ أفتَاكَ النَّاسُ وأَفتَوك.
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ أَبَانَ الـمَطلُوب, وحَظَرَ جَانِب الـمَرهُوب, ومع هذا فهو يُقَلِّبُ القلوب, ولا غَرو؛ فربُّكَ عَلاَّمُ الغيوب, الـمِنِّةَ على مَن هَدَى, والـمُوتُورُ مَن عَلَّقَ دِينَهُ حَادِثَاتِ الخُطُوب, وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه, وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد:
فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، سُوقٌ لا تَعرِفُ الكَسَاد, أَهلُهَا أَربَحُ زَارِعٍ عِندَ حُلُولِ الحَصَاد, أَفلَحَ مَن عَاشَهَا, قبلَ أنْ يأتِ على النَفَسِ النَفَاد.
معاشر المسلمين:
في ظِلِّ الفَصلِ القَسريِّ بينَ أعضَاءِ الجَسَدِ الواحد, الذي فُرِضَ على أُمَّةِ الإسلامِ فَرضا, باتفاقية (سايكس – بيكو) ثَمَّةَ تَصريحَاتٌ تَبعَثُ على العَجَب, ومَواقِفُ تُلحِقُ بأهليهَا الرِيَب؛ إذْ غَدَى كُلُّ صَاحِبِ مَصلَحَةٍ مِن الفَصلِ يُنَظِّرُ لَهُ, ويُشَرعِنُهُ, هذا بقوةِ السُلطَان, وذاكَ بتأويلِ نُصوصِ اللُحمَة, وتَقييدِهَا بِقُيودٍ ما أنزَلَ اللهُ بِهَا مِن بُرهَان.
ومع كُلِّ هذا تَبقَى القاعِدَةُ: أنَّ اللهَ لم يَتَعبَّدْنَا بأهواءِ الرِجَال, وإنِّمَا باتِبَاعِ نُصوصِ السُنَّةِ, وامتِثَالِ آيِّ الكِتَاب, فلِئن كانَ مَن كانوا قَبلَنَا قد (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة: 31]، بِطَاعَتِهِم لَهُم في قَلْبِ الـمَعَايير, فالـمَحَجَّةُ لَدَينَا أهلَ الإسلامِ واضِحَة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ)؛ أنتم فِيمَا بَينَكُم, أو فِيمَا بَينَكُم وبينَ وُلاَةِ أَمرِكُم (فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 59]، لا إلى أهواءِ رَئيسٍ, ولا مَرؤوس.
ومع اتِضَاحِ الـمَيسَم, فَثَمَّةَ أُنَاسٌ جَعَلُوا الشَرعَ عِضِين, يَقبَلُونَ مِنهُ مَا وَافَقَ أهوائَهم, ويَرُدُونَ مَا خَالَف, مُتَبِعِينَ في ذلِكَ نَهجَ القَوم (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النساء: 150].
وَرَدُّ الحَقِّ, أو مُحَاوَلَةُ تَشويههِ حِفَاظاً على الـمُكتَسَبَات, ليسَ وَلِيدَ اليوم, وإنِّمَا هي سَبيلٌ قَدِيمَةٌ بِقِدَمِ الهَالِكين:
فذَاكَ إبليس يَأبى السجودَ؛ حِفَاظاً على جَلالَةِ القَدْرِ التي يَرَى في السجُودِ إذهَاباً لَهَا (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف: 13].
وعِلْيَةُ قَومِ نُوحٍ يَأبَونَ عليهِ الإسلامَ؛ لأنَّهم يَرونَ فيهِ مُسَاواةً بينَهُم وبينَ السَوَقَة (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء: 111].
وتَبدُو الصُورَةُ أكثَرُ وُضُوحَاً في سَببِ كُفرِ ثَمُود (قَالَ الْمَلَأُ) والـمَلأُ عِلْيَةُ القَومِ (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [الأعراف: 75- 76].
وذَاكَ فِرعَونُ يَتَظَاهَرُ بالشَفَقَةِ على الصَالِحِ العَامِّ سَبَباً لِكُفرِهِ (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]، مُخفِياً ورائَهَا سببَ الكُفرِ الحَقيقي, ألا وهوَ الحِفَاظُ على مُكتَسَب (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24]، وحَاشِيَتَهُ يَتَزَلَّفُونَ إليهِ بِتَلَمُّسِ هَواهُ (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف: 127].
وبَنُو إسرائيلَ مِن بَعدِهِم يَرُدُونَ أَمَرَ نَبِيهِم, ويَرفُضُونَ الانقيَادَ لِمَلِكِهِم بحُجَّةِ: أنَّهُم قد أُوتُوا مِن الدُنيا مَا لم يُؤتَ, وبالتالي فهُم أَحَقُّ بالـمُلْكِ مِنهُ (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) [البقرة: 247].
وهؤلاءِ عِلْيَةُ قُريش, يَأنَفُونَ مِن الدَخُولِ في الإسلامِ؛ لأنَّهُم يَرَونَ في اتِبَاعِ مَن هُوَ دُونَهُم في الـمَكَانَةِ تَنَقُصَاً مِن أقدَارِهِم, فآثَرُوا الكُفرَ حِفَاظاً عليها (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31].
بَلْ هذا الـمِسوَرُ بنُ مَخرَمَةَ يَسألُ خَالَهُ أبا جَهلٍ: "هل كنتم تَتَهِمُونَ مُحَمداً بالكَذِبِ قبلَ أنْ يَقولَ ما قال؟" فقالَ: "يا ابنَ أُختِي, واللهِ لقد كانَ مُحمدٌ فِينَا وهوَ شَابٌ يُدعَى بالأمين, فما جَرَّبنَا عليهِ كَذِبَاً قَط, قالَ: يا خَال, فما لَكُم لا تَتَبِعُونَهُ؟! فقالَ: يا ابنَ أُختِي, تَنَازَعنَا نحنُ وبَنو هَاشِمٍ الشَرَف, فأطعَمُوا وأَطعَمنَا, وسَقَوا وَسَقَينا, وأَجَارُوا وأَجرنَا, حتى إذا تَجَاثَينَا على الرُكَبِ كَفَرَسَي رِهَان, قالوا: مِنَّا نَبيٌ, فمتى نُدرِكُ مِثلَ هذا؟!"
ومِثلُهُ في الهَالِكِين: عَامِرُ بنُ الطُفَيل -سَيِدُ هَوَازِنَ, وغَطَفَان- قالَ في سَببِ إصرَارِهِ على الكُفرِ: "واللهِ لقد آليتُ أنْ لا أنتَهِي حتى تَتَبِعَ العَرَبُ عَقِبِي, أفأنا أَتَبِعُ عَقِبَ هذا الفتَى مِن قُريش؟!!".
بَل أشهَرُ شَخصِيَةٍ عُرِفَتْ بالنِفَاقِ في التَاريخِ الإسلامِي -عبداللهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلَول- كانَ سَبَبُ نِفَاقِهِ: مَنزِلَةً كَادَ أنْ يَنَالَهَا, غيرَ أنَّ اللهَ أذهَبَهَا بالإسلام, ففي الصحيحينِ مِن حَديثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قالَ للنَبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا شَكَى إليهِ بَعضَ صَنِيعِ عبداللهِ بنِ أُبَيِّ: "أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ، فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ البَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ وَيُعَصِّبُوهُ بِالعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ" فَكَم مِن ابنِ سَلُولٍ بَينَنَا, يُظهِرُ الإسلامَ وهو يَكِيدُ لَهُ الليلَ والنَهَار؛ حِفَاظَاً على سُلطَانٍ, أو جَاهٍ, أو مال؟!! وكُلُّ امرئٍ على نَفْسِهِ بَصِيرَة.
وأَشَدُّ مِن هذهِ الصُوَرِ قُبحاً, أنْ يَكَونَ حَربُ الدِيْنِ مِمَن يُظهِرُ الدِيَانَةَ؛ رَغبَةً في مَطمَع, أو حِفَاظاً على مُكتَسَب, ومِن قَبلُ قَالَ اللهُ عن بَعضِ مُقَدَّمِي أهلِ الكِتَاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فيَا سُبحَانَ الله, أحبارٌ ورُهبَان, ومع هذا يَصُدُونَ عن سبيلِ الله! لِمَاذا؟ لأنَّ هذهِ أسهَلُ طَرِيقَةٍ للحُصُولِ على الـمَال (لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة: 34].
وبالجُملَة: فَكُلُّ دَعوَةٍ إلى الحَقِّ تَجِدُ أَلَدَّ أعدَائِهَا: هم أُولئِكَ الـمُستَفِيدُونَ مِن البَاطِل (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) [سبأ: 34].
أقولُ هذا القول, وأستغفرُ اللهَ لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ ما مُزنٌ في الآفَاقِ حَل, والحَمدُ للهِ ما وَدْقٌ مِن ثَنَايَاهُ هَل, والحَمدُ للهِ ما انهَمَلَ غيثٌ, وما كانت سُقيَاهُ طَل, وصلى اللهُ وسَلَّمَ على عَبدِهِ ورسولِهِ محمد, وعلى آله وصحبه والتابعين, ما أشرَقَتْ شَمسٌ, وما فَاءَ ظِلُ..
أما بعد: أهلَّ الإسلام.. ثَمَّةَ أَربَعُ إشَاراتٍ مُتَمِمَات:
الأولى: جاءَ في صحيحِ مُسلِمٍ مِن حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»؛ فهذا خَبَرٌ مِن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ الجِهَادَ لا يَخلُو مِنهُ الزَمَان, وإنْ خَلا مِنهُ مَكَان, والخَبَرُ هو مَا يُقَاسُ بالصدقِ, والكَذِب, فَقَبْلَ أنْ تَزعُم: أنْ لا جِهَادَ في الأرضِ اليَومَ البَتَّة, اقصِر إشفَاقاً على نَفْسِك؛ لأنَّكَ بِزَعمِكَ هذا, تُكَذَّبُ رَسُولَ اللهِ في خَبَرِهِ.
الإشَارَةُ الثانية: مَغبُونٌ مَن بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنيَاهُ, وأَشَدُّ مِنهُ غَبنَا: مَن بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنيا غَيرَهُ؛ إذْ إنَّهُ كفَقيرِ نَصَارَى, لا دُنيا, ولا آخِرَة, والـمَرءُ مَا دَامَ ذا عَقلٍ مُحَاسَبٌ على كُلِّ ما يَصدُرُ عَنه, لا يُغني آمِرٌ عن مَأمُورٍ شَيئا, نَعم, يُضَاعَفُ جُرْمُ الآمِرِ لأمرِهِ, لكنَّ الـمُبَاشِرَ يُوفَّى وِزْرَهُ كَامِلا (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر: 38]، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة: 166]، فَقَبلَ أنْ تَمتَثِلَ أَمرَ مَن فَوقَك, قِفْ, وانظر: فإنْ أَمَرَكَ بِمَا لا مَعصِيَةَ فيه, فامتِثَالُكَ أَمرَهُ طَاعَةٌ تُثَابُ عَليها, وأمَّا إنْ كانَ إنِّمَا يَأمُرَكَ بمَعصِيَة, فأنَّىَ بِنَفسِكَ عن أسبَابِ سَخَطِ اللهِ, فإنَّ أحداً لنْ يَحُولَ بَينَكَ وبينَ عَذابِهِ, وإنْ أفتَاكَ النَّاسُ وأَفتَوك.
أمَّا الثَالِثَة: فقد قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحِمَهُ اللهُ- في الفَتَاوى الكُبرَى, في مَعرِضِ حَدِيثِهِ عن إبطَالِ الحِيَل: " الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: ..., قَولُ الرَسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا ...» -وذكر مِمَّا يدخُلُ فيه-: "اسْتِحْلَالُ الْقَتْلِ بِاسْمِ الْإِرْهَابِ الَّذِي يُسَمِّيهِ وُلَاةُ الظُّلْمِ سِيَاسَةً وَهَيْبَةً وَأُبَّهَةَ الْمُلْكِ ..., فإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْخُمُورَ وَالرِّبَا وَالسُّحْتَ وَالزِّنَا وَغَيْرَهَا بِأَسْمَاءٍ أُخْرَى مِنْ النَّبِيذِ وَالْبَيْعِ وَالْهَدِيَّةِ وَالنِّكَاحِ، وَمَنْ يَسْتَحِلُّ الْحَرِيرَ وَالْمَعَازِفَ؛ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ فِعْلُ أَصْحَابِ الْحِيَلِ، فَإِنَّهُمْ يَعْمِدُونَ إلَى الْأَحْكَامِ فَيُعَلِّقُونَهَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي لَفْظِ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ يَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ، ..."ا.هـ.
الإشَارَةُ الرابِعَة: تَتَفِقُ غَايَاتِ أعدَاءِ اللهِ في إرَادَتِهِم إطفَاءَ نُورَ دِينِهِ, لَكنَّ وسَائِلَهُم تختَلِف؛ تَبَعاً لِرُؤَاهُم في الحِفَاظِ على الـمُكتَسَبَاتِ في الصَفِّ الإسلامِي, مِن عَدَمِهِ: فمِنهُم مَن يُجَاهِرُ بالعَدَاوة, ومِنهُم مَن يَعمَلُ في الخَفَاء, وكِلا الفَريقَينِ مَوعُودٌ مِن اللهِ بالخَسَار, لَكِنَّمَا رَدُّهُ سُبحانَهُ على الـمُجَاهِرينَ أَتى حَازِمَاً صَريحا, وأمَّا الـمُستَخفُونَ فجاءَ الرَدُّ عليهم بطَريقَةٍ تَزرَعُ في نُفُوسِهِم دَوامَ القَلَق, فقالَ عن الـمُجَاهِرين: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) فكانَ الرَدُّ (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة: 32] فجميعُ الخَيَارَاتِ مَرفُوضَةً صَرَاحَةً, إلا خَيَارُ إِتمَامِ نُورِ اللهِ.
وحَكَى عن الـمُستَخفِينَ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ) فهُم يَتَعَمَّدُونَ وسَائِلَ لا تَظهَرُ مِنها العَداوة, لكنَّ غَايَتَهَا إطفَاءُ نُورِ اللهِ, فجاءَ الرَدُّ عليهم بالجُملَةِ الاسميةِ الدالَةِ على الاستمرار (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) فيَكتَشِفُونَ عِندَ نِهَايَةِ كُلُّ وَسيلَةِ استِخفَاءٍ سَلَكُوهَا للكَيدِ لدِينِ اللهِ, أنَّ الظَفَرَ لِنُورِ الله عليهم.
فحَاذِر أنْ تُحَارِبَ دِينِ اللهِ ولو في الخَفَاء؛ إذْ أنَّ عَاقِبَةَ السَوْءِ سَتَعُمَّكَ أنتَ والـمُجَاهِرَ على حَدٍّ سَواء.
أصلحَ اللهُ الحال, ونفعَ بالمقال, وأجارنا مِن غَلَبَاتِ الهوى, وميلِهِ إذا مَال..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...
التعليقات