عناصر الخطبة
1/بطلان العمل بالديانات السماوية السابقة 2/من مزايا الإسلام على جميع الأديان 3/شمولية المنهج الرباني وصور منها 4/ثلاثة معايير شرعية لاستمرار أي دعوة.اقتباس
من مزايا الإسلام: الشمول في المنهج الرباني، إذ يستقطب كل حاجيات البشر، ويستوعب كل مصالحهم الدينية والدنيوية؛ فهو يتناول النّفس البشرية بالإصلاح، وشؤون الأسرة بالتربية، ومشاكل المجتمع بالتنظيم، ويتناول...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: لقد كان ميلاد البشريّة مقرونا بميلاد عقيدتها، وكلما مضت في سيرها عبر العصور المتلاحقة مضت معها عقيدتها في ذلك الطريق الطويل، يهديها نور النبوات ورسالات السماء إلى رحاب الحق ومحراب الإيمان، ويذكي فيها نور الفطرة التي فطر الله الناس عليها مصداقا لقوله -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم: 30].
إن الدين هو الذي يعرّف الفطرة بربها، ويكشف لها حقائق نفسها، وأسرار الكون المحيط بها، لكن الشياطين كانت تضلّ الناس عن الدين القويم؛ فتدخل أيدي التحريف للرسالات السابقة تارة، ويطال التغيير العقائد تارة أخرى، وفي الحديث القدسي؛ يقول اللَّـه -تعالى-: "إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا"(رواه مسلم)؛ ولذا فكانت رسالة الإسلام خاتمة الرسالات المحفوظة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين والمرسلين.
إن الأديان السماوية من وضع رباني اتّسمت بالكمال، وبُرّئت من النقص، غير أن بعضها دخله التّحريف والتّبديل كالدّيانة اليهودية والنصرانية, ولم يسلم من ذلك إلا شريعة الإسلام التي احتفظت بربانيتها بحفظ الله -تعالى- لها: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9]؛ وكانت هذه أول مزية من مزايا الإسلام؛ لأن الله -تعالى- قد ضمن لهذه الرسالة هذا الحفظ, وبالتالي الدوام والصّلاحية المطلقة والظّهور إلى قيام الساعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"(رواه مسلم).
أيها المؤمنون: تميز الإسلام بخصائص ومزايا على الأديان قاطبة, لا توجد في غيره؛ فمن ذلك:
حفظُ خصيصة الربانية فيه، وتعدّ هذه المزية مصدرا ًعامّاً لمزايا الإسلام على جميع الأديان؛ فهو تشريع رباني يستمد عقيدته وأحكامه وأخلاقه من رب العالمين، يسمو بالإنسان ويحقّق مصالحه، ويقيم العدل وينشر الرّحمة والأمن، ويدعو إلى التوحيد الخالص الذي لا يقبل الله التدين بسواه.
وهذه الرّبانية تحفظ التشريع من الاهتزاز والتأرجح، والتّغيير والتّبديل، والاختلاف والتّباين، إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا ًكثيراً؛ كما هو الشّأن في بعض التّشريعات السماوية التي حرّفها أهلها وغيّروا ما فيها حسبما أملته عليهم أهواؤهم؛ كما قال -تعالى-: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة:75], وقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)[البقرة: 79].
وكذلك الشّأن -أيضاً- في القوانين الوضعية التي وضعها البشر، بعقولهم القاصرة عن إدراك حاجات الناس وما يصلحهم حقيقة, لا تلبث هذه القوانين أن ينكشف خطؤها بمرور الزمن، ويتّضح للعيان قصور عقول من وضعها, وكم من قوانين وضعية أقرت ثم عدلت وغيرت وألغيت في النهاية لعدم صلاحها ونفعها!.
لكنّ الإسلام ربانيا في وحيه, أصيلا في نبعه، مُحكماً في آياته، كاملاً في تشريعاته؛ فضمنت له هذه الربانية الخلود والبقاء، والدوام والاستقرار؛ فلم يعرف التّغيير والتّحريف أبداً.
ومن مزايا الإسلام: الشّمول في المنهج الرباني، إذ يستقطب كل حاجيات البشر، ويستوعب كل مصالحهم الدينية والدنيوية؛ فهو يتناول النّفس البشرية بالإصلاح، وشؤون الأسرة بالتربية، ومشاكل المجتمع بالتنظيم، ويتناول الشمول العلاقات الدولية والإنسانية، وعلى الخصوص وحدة الأمّة الإسلامية وأخوتها وعلاقتها بغيرها من الدول في حالتَي السّلم والحرب.
ولشمول المنهج الرباني صورٌ منها:
الشمول نظام الحكم في الإسلام؛ فهذا النظام مبني على أساس العدل والشورى والمساواة بين العباد, وعلى جلب المصلحة ودرء المفسدة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الحاكمية في هذا النظام لله، وأن مصدر التشريع هو الكتاب والسنة؛ كما قال -تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء:59].
ومنها: تناوله لكليات الدين الخمس التي فرض الإسلام المحافظة عليها في تشريعاته وأحكامه, وهي: الدين والنفس، والعقل، والمال، والعرض؛ فالإسلام شريعةٌ كاملةٌ، شاملةٌ لألوان النّشاط البشري، وهذه سمةٌ أصيلةٌ من سماته، تنفردُ بها شريعتنا الغرّاء إذا قورنت بالنّظم الأخرى, فالشمول في الشريعة الإسلامية يعالج كل شؤون الحياة الإنسانية؛ فليس هناك من خيرٍ إلاّ دعا إليه، ولا من شرٍّ أو محظورٍ إلا نهى عنه ومنعه, وفي الحديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ شَيْءٌ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ, وَلَيْسَ شَيْءٌ يُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا نَهَيْتُكُمْ عنه".
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
عباد الله: ومن مزايا الإسلام على الأديان التوازن، وهو تحقيق الانسجام بين الإنسان وبين الكون، وتحديد العلاقة بين العبد وربه، والتزام هذا العبد أساس العبودية لله يعبده ولا يخضع لغيره.
ومن لوازم هذا التّوازن أن الدين وسط؛ جامع بين حقوق الروح والجسد, يوصي الإنسان بأن يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته؛ كما يعني أن الإسلام دينٌ ودولةٌ، شرع للناس ما يحفظ دينهم ودنياهم، ومعاشهم ومعادهم، وأن الدين في أحكامه وتطبيقها يربط النيّة بالعمل، والسرّ بالعلن، والمظهر بالمَخبر، ويوصي المؤمن بأن يحافظ على هذا التوازن في العسر واليسر، والرضا والغضب والشدة والرخاء.
وأن الإسلام دين يسرٍ لا حرج فيه ولا إرهاق؛ فهو إذ يكلف المسلم فهو يوازن بين قدراته البشرية وبين ما يتحمله من التّكاليف الشرعية، ويراعي ضعفه وطاقته، وقد رُوعي في سير التّكاليف الشرعية البساطة وعدم التعقيد؛ حتى تكون في متناول جميع المكلفين, فالتوازن يتصل بالشمول لأن شمول المنهج الرباني يقتضي أن يكون متوازناً لا شطط ولا غلوّ، ولا إفراط ولا تفريط.
عباد الله: إن شريعة الإسلام خاتمةٌ للشرائع السابقة، لا تبلى أحكامها بالتقادم، ولا تتغيّر في أصولها ومبادئها، بل تبقى ثابتةً دائمةً محفوظةً من التبديل، معصومةً من الزّيغ والباطل، صالحةً لكل زمان ومكان, ولكل الناس على اختلاف بيئاتهم، وأنظمتهم وعاداتهم، ومللهم ونحلهم، وشعوبهم ومجتمعاتهم, ألسنتهم وألوانهم.
وديمومة هذا الدين جاءت مما حباه الله من مرونة في أحكامه القابلة للتطبيق دون تكلف ولا حرج، وهو مع هذا قد فتح باب الاجتهاد في النوازل؛ فشرعت الأحكام بنصوص صريحة في مواضع، وأحاطت مساحة الاجتهاد بقواعد كلّية، منها: جلب المصالح، ودرء المفاسد، وسدُّ الذرائع، وفتحها حسب الحاجة، ومقاصد عُليا مرسيةً لدعامات العدل واليُسر والعفو وغيرها.
ولكي تتحقّق لدعوةٍ مّا خلودها وبقاؤها، وتكون صالحةً لكلّ زمانٍ ومكانٍ، يجب أن تتوفّر لها ثلاث صفاتٍ:
الأولى: عمومها؛ أي توجه خطابها لجميع البشر بحيث لا يختص بها قوم دون آخرين، ولا عصرٌ دون عصرٍ.
الثانية: موافقة أحكامها ومراميها لصريح العقل، وعدم مناقضتها له.
الثالثة: اعتبار مقاصدها للصّالح العامّ والخاصّ، والإرشاد إليه عن طريق أصولها ودلائلها الخاصة.
ولا توجد شريعةٌ من الشرائع السّماوية أو النظم الوضعيّة استكملت هذه الصفات؛ كما استكملها الشرع الإسلامي الحنيف؛ فقد أعطانا الشّارع أصولاً أبديّة، وهدانا إلى مقاصد تشريعيّة تفتح لنا آفاق التوسّع في معرفة الأحكام، كلما حدث حادثٌ أو جدَّ موضوعٌ.
وها هي ذي الأيّام تلو الأياّم منذ فجر الدعوة وهي تؤكد صلاحيتها، وتثبت للنّاس صدقها وفعّاليتها، فلا يوجد مجتمعٌ يَأخذ بها إلاّ ويزدهر، ولا يمرّ زمنٌ ولا عصرٌ إلا وتزداد قوتها وحاجة الناس لها، كيف لا والله -عز وجل- هو الذي أكملها وأتمّها، ورضيها ديناً لعباده إلى قيام الساعة؛ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
التعليقات