د. غدير الشيخ
بعد استعراض مفهوم الربا والنتائج المترتّبة على هذه المعاملة المالية في التدوينة السابقة، تلقّيتُ أسئلة عديدة حول أثر الربا على الاقتصاد، خاصة وأن جميع اقتصادات العالم تتعامل بالربا، فرأيت أن أتحدث عن هذه اللعنة الاقتصادية في تدوينتي الاتية.. وسألخّص الأثر ببضع نقاط، علّني أصل إلى المبتغى، وأحقق المنشود..
التضخم:
إن الربا يجعل عملية التحكم بحجم النقد أمر غير وارد اطلاقاً، مع أنه ومن المعروف أن إصدار النقد هو من مسؤولية الدولة، ويقوم البنك المركزي بإصدار النقد وفقاً لحاجة الاقتصاد، وضمن معايير هامة تقي الاقتصاد من مغبّة التضخم (ارتفاع المستوى العام للأسعار)، بما يعرف بأدوات السياسة النقدية. ولا شك بأن التضخم الذي يتولّد من خلال الربا، إنما ينشأ دون رقابة الدولة لأن المضاعف الذي يعمل على أساسه خلق النقد في البنوك التجارية، هو إضعاف القيمة التي تم اقراضها فعلاً. ويعاني الاقتصاد العالمي من التضخم من ناحيتين:
الأولى: ارتفاع المستوى العام للأسعار، وتعتبر أسبابه متنوعة وقد لا يمكن السيطرة عليه، كارتفاع أسعار عناصر الإنتاج الذي يعمل على ارتفاع أسعار السلع النهائية، وقد يكون بسبب ندرة عنصر إنتاجي معين، أو سلعة نهائية معينة مما يزيد الطلب عليها ويقل العرض منها مما يؤدي إلى ارتفاع سعرها، وغيرها العديد من الأسباب.
أما الناحية الثانية: تتمثل في التضخم الناشئ عن الربا، إذ تعمل البنوك على إقراض النقود مقابل سعر فائدة، ومن خلال آلية المضاعف، فإن هذه المبالغ المقترضة ستتضاعف في الاقتصاد، مما يزيد عرض النقد في الاقتصاد وبالتالي انخفاض القيمة الشرائية للنقود. وقد تعدت نسبة التضخم في الدول العربية حاجز الـ 10 بالمئة في 2017م، في مصر مثلاً 34 بالمئة، وفي السودان 25 بالمئة، وفي سوريا 579 بالمئة، وفي اليمن 30 بالمئة، وفي ليبيا 27 بالمئة، وفي الجزائر وتونس 7 بالمئة.
عدم امتزاج عناصر الإنتاج أو القيمة المضافة:
إذ أن رأس المال (كعنصر من عناصر الإنتاج) يصبح غير متمازجاً مع عناصر الإنتاج الأخرى (الأرض، العمل، التنظيم) لأنه ومن خلال الربا أصبح عنصراً مستقلاً عن باقي العناصر، إنما يربح بذاته بعيداً عن السلع والخدمات (النقد يباع أو يؤجر ويولد نقد وهكذا)، وهذا ما يجعل الاقتصاد العالمي الان اقتصاداً مالياً قائماً على المال والمشتقات المالية، أما الاقتصاد المنشود، وهو الاقتصاد الإسلامي يعتبر اقتصاداً حقيقياً قائماً على بيع وشراء السلع والخدمات.
سوء توزيع الثروة:
ويعمل الربا على سوء توزيع الثروة، لأن فئات الفائض والذين يمتلكون أموال فائضة عن حاجتهم ويقومون بإيداعها لدى البنوك، هم بطبيعة الحال من الطبقة ان لم تكن غنية، فإنها ليست بالفقيرة، أما فئة العجز -الذين يحتاجون المال- ويقومون باقتراضه من البنوك، هم من الفقراء أو على الأقل المحتاجون للمال. وفي معاملة مثل معاملة الربا، فإن فئات العجز تأخذ من فئات الفائض مالاً وتردّه بأكثر من القيمة الفعلية التي تم اقتراضها، مما يعني بأن فئات العجز بقيت فئات عجز، وفئات الفائض ازدادت فائضاً مالياً، وهو يعبّر عن سوء توزيع الثروة. هذا إن سلّمنا بأن فئات العجز ستعمل على إعادة القرض مع الزيادة بالموعد المحدد، ولكن الواقع يشير إلى أن هذه الفئات لن يتمكن جزء منها من إعادة القرض، مما يترتّب عليه غرامات تأخير تتراكم وتتراكم حتى تُلقي بالمقترض بالحبس، أو تؤدي إلى حجز البنك على ممتلكاته، وفي كل الأحوال فإن الفقير ازداد فقراً، والغني ازداد غنىً.
هذا ونحن نتحدث عن الفائدة البسطة كما يتم تسميتها في البنوك، ولكن الأدهى المعمول به في الواقع هو أن البنوك تتعامل بالفائدة المركّبة، أي أنه سيترتب على المقترض ان يدفع فائدة على المبلغ المقترض وعلى الفائدة المترتّبة عليه، وهكذا، فائدة على المبلغ بالإضافة إلى فائدة على الفائدة. ولنا أن نتخيّل حجم الديْن المترتب على المقترض بعد عدة سنوات. ولقد نشرت صحيفة بريطانية أنه من المتوقع ان يستحوذ 1 بالمئة من سكان العالم على ثلثي ثروة العالم في عام 2030، بما يعادل 305 تريليون دولار أمريكي، بينما يمتلكون اليوم 140 تريليون دولار، وهذا يعني تضاعف حجم الثروة مع هؤلاء الـ 1 بالمئة الأغنى في العالم!
النقود أصبحت تخلق النقود دون أي قيمة مضافة على الاقتصاد، وإنما فقط عملية تراكم النقد، وزيادة عرض النقد والتي ستعمل على مسّ وانخفاض في قيمة النقود الشرائية
النقود أصبحت تخلق النقود دون أي قيمة مضافة على الاقتصاد، وإنما فقط عملية تراكم النقد، وزيادة عرض النقد والتي ستعمل على مسّ وانخفاض في قيمة النقود الشرائية
ولعلّ ما أصاب بعض الدول النامية من تبعيّة اقتصادية ومن ثم سياسية كانت بأهم أداة من أدوات الاقتصاد الرأسمالي وهي الفائدة المركّبة، إذ تعاني بعض الدول من تضاعف حجم القرض الأصلي سنوياً بسبب الفوائد المركّبة وغرامات التأخير! إذ تضاعفت الديون الخارجية للدول العربية بين عامي 2000-2017 ثلاث مرات، إذ كانت في 2000م 143.8 مليار دولار إلى 1.14 تريليون دولار عام 2017م!
المسّ:
عدم استقرار النقد، لأن النقود تصبح ليست معياراً وتخرج عن وظيفتها المتمثلة بأداة للتبادل، وتصبح سلعة تباع أو تؤجر، والإنسان الذي ليس له معيار يكون ضمن نفس المعنى. وما وُجدت النقود عبر الزمن إلا لتكون معياراً للقيمة ووسيلة لتبادل السلع والخدمات، بعد أن كان العالم يعاني من سلبيات نظام المقايضة سابقاً، ولكنه عاد للمعاناة بعد أن فقدت النقود وظيفتها، واستُبدلت هذه الوظيفة بوظيفة جديدة ألا وهي خلق نقود جديدة، دون بيع أو شراء لسلع أو خدمات حقيقية، ومن أهم هذه الأدوات الحديثة: المشتقات المالية. إذاً فإن النقود أصبحت تخلق النقود دون أي قيمة مضافة على الاقتصاد، وإنما فقط عملية تراكم النقد، وزيادة عرض النقد والتي ستعمل على مسّ وانخفاض في قيمة النقود الشرائية، مما سيعمل على التضخم، لأن المبلغ الذي كنت تدفعه لشراء سلعة ما، أصبح غير كافياً لشراء نفس السلعة، لأن قيمة النقود انخفضت.
هل هذا يفسّر "كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ"! تفسيراً اقتصادياً مثلاً!! أو لعلّنا نفهم الان الاختلالات الاقتصادية المزمنة في الاقتصادات العالمية!! هل يمكن أن نعزو السبب الآن لـ "ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا "!! هل نفهم الآن تلك العقوبة الدنيوية التي ترتبت علينا!! مثل: " يَمْحَقُ " و "بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ".
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
التعليقات