عناصر الخطبة
1/ بيان أن الحكمة المعنية في القرآن هي السنة النبوية 2/ ضلال من يرون الاقتصار على القرآن ونبذ السنة النبوية 3/ اتباع للسنة اتباع للقرآن في الحقيقة 4/ لا يمكن لطالب الحق الاستغناء عن السنة النبوية 5/ النابذون للسنة متبعون لهواهم 6/ تجارب علمية تثبت صحة حديث الذبابة 7/ الاحتفال بأمور بدعيةاهداف الخطبة
اقتباس
ولو كان المسلم غير مطالب إلا بما في القرآن -كما يقوله بعض الجهلة- فلمَ لمْ يكتفِ به أولئك الرجال ويستغنوا به عن وعثاء السفر ومشاقّ الطريق؟! ولكن الأمر أنهم على حق, وأما المبتدعة الجهلة الذين يريدون التحلل من الدين فهم على باطل وضلال.
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوة الإسلام: يقول الله تبارك وتعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ). قال الشافعي -رحمه الله-: سمعت من أرضاه من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول -الله صلى الله عليه وسلم-، وكذا قال الحسن البصري وقتادة وغيرهما قالوا: الحكمة في هذه الآية السنة.
ونحن اليوم نريد أن نعرف مكانة السنة في دين الله ولزوم اتباعها, وأن نعرف ضلال من يرون الاقتصار على القرآن الكريم, فلا يقبلون من أحد أن يقول لهم: هذا حرام أو هذا واجب، إلا إذا أخرج لهم ذلك بالنص من القرآن الكريم، ويزعمون أن الإنسان إذا قرأ القرآن وكان عنده المصحف فهو في غنى عن السنة والأحاديث؛ لأن القرآن بيّن كل شيء، وينسون أن مما بيّنه القرآن اتباع السنة ولزوم طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجهلوا معنى ما يقولون، وضلوا في فهم القرآن نفسه, وبخسوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- حقه، وأهانوا سنته، فخرجوا بذلك عن سبيل المؤمنين، وعن نهج الصحابة والتابعين، الذين هم أعلم الناس بدين الله؛ فإنهم رضي الله عنهم كانوا يعرفون مكانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقًّا، لا بالموالد والبدع, وإنما باتباعه والعمل بسنته، وبالحض على تتبع كل ما ثبت أنه تحدث به, فيأخذونه كما يأخذون القرآن، ويعملون به ويقفون عند حدوده ويلتزمون بما فيه.
قال سعيد بن المسيب -رحمه الله-: إن كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث الواحد. فهل تظن -أيها المسلم- بهؤلاء السلف من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يجهدون أنفسهم في عبث لا داعي له.
ولو كان المسلم غير مطالب إلا بما في القرآن -كما يقوله بعض الجهلة- فلمَ لمْ يكتفِ به أولئك الرجال ويستغنوا به عن وعثاء السفر ومشاقّ الطريق؟! ولكن الأمر أنهم على حق, وأما المبتدعة الجهلة الذين يريدون التحلل من الدين فهم على باطل وضلال.
ومن نبوءاته -صلى الله عليه وسلم- أنه أخبر بوجود ذلك الصنف المتميع الخبيث في أمته فقال: "يوشك أن يقعد الرجل على أريكته، يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله, فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه", ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله". وفي رواية أخرى يضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصفًا آخر لهذا الصنف البغيض يزيده قبحًا فيقول: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه, ألا إني أوتيت القرآن ومثله، ألا لا يوشك رجل شبعان -وهذه هي الصفة التي لم تذكر في الرواية السابقة- على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه, وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه".
فتأمل -يا أخي- وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الصنف الشبعان, همه في بطنه, لا يبذل جهدًا يوصله لعلم صحيح أو فهم للدين, وإنما يجلس على أريكته، ثم يهذي بما يهذي به، ويجادل بغير علم، ومع ذلك يظهر نفسه في ثوب المحافظ على الدين فيقول: بيني وبينكم كتاب الله.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه", يعني به السنة المطهرة, فهي مثل القرآن في التشريع وفي وجوب الأخذ بها، وفي أن كليهما وحي من الله -عز وجل-، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي, ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض".
واتباع السنة -إخوة الإسلام- اتباع للقرآن في الحقيقة؛ وذلك لقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء: 80]، وقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]، وقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب 21]، وقوله: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54].
ومن دون السنة -أيها المسلمون- لا نستطيع أن نعبد الله أو أن نفهم الشرع؛ فإن الله -عز وجل- يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44], فكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصل في بيان كتاب الله -عز وجل-. روى البيهقي أن عمران بن حصين -رضي الله عنه- ذكر الشفاعة, فقال رجل من القوم: يا أبا نُجيد: إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن, فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟! قال: نعم. قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعًا والعصر أربعًا؟! قال: لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟! أخذتموه عنا -أي الصحابة- وأخذناه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! أوجدتم فيه من كل أربعين شاة شاة -يعني في الزكاة- وفي كل كذا بعيرًا كذا، وفي كل كذا درهمًا كذا؟! قال: لا. قال: فعمن أخذتم ذلك؟! ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! أوجدتم في القرآن: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 29] أوجدتم فيه: فطوفوا سبعًا واركعوا ركعتين خلف المقام؟! أما سمعتم الله قال في كتابه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7]؟!
وبهذا الكلام نرد على كل من ظن أنه يمكنه الاستغناء عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي هي شطر الدين الآخر -أي بعد القرآن- ومن هنا نتبين جريمة من يعرضون عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويجادلونك حين تأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتحذرهم من بعض البدع، ويقولون: ليس هذا مذكورًا في القرآن، كما نسمعه اليوم ممن يحاربون الشباب المسلم، ويصفونه بالتطرف، ويتهمونه بأنه يقول أشياء مخترعة ليست في القرآن, وتثور ثائرتهم حين تقول لهم: لا تجوز الصلاة في مسجد به قبر؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن اتخاذ المساجد على القبور, أو حين تقول لهم: لا تحلفوا بالنبي؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت", أو حين تقول لهم: لا تحلقوا لحاكُم؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعفوا اللحى", أو حين تقول للرجال: لا تلبسوا خاتم الذهب؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هذان -يعني الذهب والحرير- حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها", أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-، أو حين تحذرهم من التدخين وتقول لهم: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا ضرر ولا ضرار"، أو حين تقول لهم: لا تصافحوا غير المحارم من النساء؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأن يدخل مخيط من حديد في رأس أحدكم فيصيبه، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له". أو حين تقول لهم: لا يجوز سماع الموسيقى أو المعازف؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الخمر والحر -أي الزنا- والحرير والمعازف"، أو حين تقول لهم: لا تقتنوا الصور والتماثيل؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة, وإن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، تثور ثائرة كثير من الناس حين تقول لهم شيئًا من ذلك أو غيره مما فصلته السنة المطهرة ولم ينص عليه القرآن، ويقولون: أخرجوا ذلك من القرآن.
فعجبًا لذلك المغرور!! هل يظن أنه فهم ما لم يفهمه الصحابة وعلماء الأمة، فقد اتفقوا جميعًا على أن طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما أتى به من السنة كطاعته فيما أتى به من القرآن.
وأسوق لهؤلاء هذا الحديث الذي رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله", فبلغ ذلك امرأة يقال لها: أم يعقوب, فجاءت فقالت: إني بلغني أنك قلت كيت وكيت. فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في كتاب الله. فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين -تعني القرآن كله- فما وجدته. قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه, أما قرأت: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7]؟! قالت: بلى. قال: فإنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه, أي عن الوشم والنمص والتفلج, والوشم معروف، والنمص ترفيع الحواجب, والتفلج برد ما بين الأسنان لإحداث فراغ بينها؛ طلبًا للجمال.
ومن المؤسف أن بعض الناس إذا ما قلت لهم: إن الأمر الفلاني في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا نريد هذه السنة. وهؤلاء قالوا في الحقيقة كلمة خطيرة جدًّا تؤدي بهم إلى الهلاك كما قال الإمام السيوطي -رحمه الله-: من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم -قولاً كان أو فعلاً- حجة، كفر وخرج عن دائرة الإسلام، وحشر مع اليهود والنصارى، ومع من شاء الله من الكفرة.
فإذا كان هذا شأن من رد أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنكر أن تكون حجة, فما بالك بمن أضاف إلى ذلك الاستهزاء ببعض السنن، وسب من يتمسك بها, واختراع الألقاب المختلفة ليصف بها بعض السنن وأهلها ليصد الناس عنها، وهو يحسبه هينًا وهو عند الله عظيم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفًا". أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
وقال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا وأنبئنا عن القرآن, فاعلم أنه ضالّ.
فطوبى لمن حفظ وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي, عضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثات الأمور". وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم يدخل الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة, ومن عصاني فقد أبى".
الخطبة الثانية:
إن الذين يعرضون عن السنة، ويدَّعون الاقتصار على القرآن؛ هم في الحقيقة لا يريدون الالتزام بقرآن ولا سنة, وإنما يسترون تميعهم وهروبهم من الدين بمثل ذلك الجدل الذي لا ينتهي، فأحيانًا تحدثهم بحديث فيقولون لك: إنكم تقولون أحاديث مكذوبة، وأحيانًا تقول لهم: إن حديث كذا غير صحيح فيقولون لك: إنك تشكك في السنة، وليست هناك أحاديث مكذوبة، وتارة يقولون: المهم القرآن, وتارة يقولون: إن الأحاديث التي تذكرونها لها حكم خاص لا تعلمونها ولا يلزمنا التقيد بها، وتارة يقولون لك: إن الأحاديث التي تذكرها قد مضى زمانها؛ فإن المسلمين الأوائل كانوا ضعاف الإيمان وحديثي عهد بكفر، فحرم عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء كثيرة تضمن عدم عودتهم إلى الشرك, أما نحن فالإيمان راسخ في قلوبنا، ولا خوف علينا من الوقوع في الشرك أو ترك الدين, والله تعالى أعلم بما رسخ في قلوبهم إن كان هو الإيمان أم النفاق... إلى آخر ذلك من تلك الكلمات المريضة التي تنبئ عن أنفس ضعيفة ملتوية, حقيقتها الإعراض والاستكبار, كلما دعوتهم (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً) [نوح: 7]. نسأل الله السلامة من ذلك.
ويزيدهم في ضلالهم، ويشجعهم على باطلهم فتنتهم بالغرب، وعبوديتهم وذلتهم للكفرة، وتقليدهم لهم، وتطبعهم بالعقلية الغربية وأساليب الحياة الأوروبية, لذا تجدهم يرفضون الحديث إذا خالف رسوم المدنية الحديثة, ويدّعون أن بعض الأحاديث والسنن الصحيحة مخالفة للعقل والحضارة, والحقيقة أنهم لا يفهمون ما هي الحضارة, والحقيقة أن عقليتهم منهارة ومتخلفة لا ترقى إلى فهم روح الإسلام، ولا تتسع لإدراك كلام خير الأنام -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ رضوا باتباع الأغبياء الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يعقلون ولا يفقهون ولا يعلمون، وأنهم أضل من الأنعام؛ لأن أغبى الأغبياء من لا يعرف ربه، ومن لا يعلم لماذا خلق، وماذا بعد انتهاء حياته التي وهبها له الله, فمثل هؤلاء متخلفون عقليًا، ومنحرفون نفسيًا ولا شك، وإن ادعى القوم هنا أنهم عقلاء، فقد أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن من علامات الساعة التي تكون في آخر الزمان أن يقال للرجل: ما أعقله!! وما في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وعلى سبيل المثال فمما احتج به الذين رفضوا السنة بزعم أنها تخالف العقول قوله -صلى الله عليه وسلم- في صحيح البخاري: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء", أي أنه يسقط عليه أولاً. زعموا أن الحديث يخالف العقول, ثم شاء الله أن يخزيهم هم وأسيادهم في الغرب. يقول الدكتور صالح رضا: وقد أجريت تجارب في القاهرة لإثبات هذا الأمر, وأثبتت التجارب صحة ذلك، وخسئ المبطلون. وذكر الدكتور أبو الفتوح أستاذ جراحة العظام بطب الإسكندرية في رسالته للدكتوراه التي أعدها أن الذباب كان يستخدم عند القدماء في بعض أنواع التطبيب قبل ظهور مركبات السلفا, وأشار إلى ذلك الدكتور أمين رضا رئيس قسم جراحة العظام بكلية الطب في مقال له في مجلة التوحيد ينتصر فيه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السابق، ويبين جهل الرافضين له.
وينبغي أن نعلم أن ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الحق والصدق الذي ينبغي على العلماء أن يصلوا إلى فهمه, لا أن يحاكموه لعقولهم وعلومهم, والمسلم لا يمكن أن يكون موقفه إلا التصديق بكلام الله, وما صحّ من كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-. ومع هذا فليس في القرآن الكريم والسنة الصحيحة ما يخالف العقل السليم، والسنة قد تأتي بما تحار منه العقول, ولكنها لا تأتي بما تحيله العقول أي تقطع باستحالته، ومما حارت فيه عقول البعض فترة ما رواه مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعًا، إحداهن بالتراب". فقالوا: ألا يكفي الماء؟! فإن التراب يزيد الاتساخ، ثم وجدنا أن الباحثين أيقنوا بذلك الحديث بالتجربة الواقعية, وذلك بعد أن أثبتت تجارب أجريت في إسبانيا فعالية التراب في إزالة جراثيم الكلب بخلاف غيره. وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهلك المرتابون والمتميعون المعرضون عن هديه -صلى الله عليه وسلم-.
فوالله الذي لا إله غيره، لا فلاح لأحد إلا في اتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- في جميع الأمور، وهذا الاتباع هو الدليل على الإيمان الصحيح، وعلى صدق محبة الله -عز وجل- ومحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 31].
ورحم الله القائل:
لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيـع
فيا ويح قوم خالفوا نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه- ولم يهتدوا بهديه في مختلف أمور حياتهم، ولم يعملوا بسنته، ولم يقلدوه في ظاهرهم وباطنهم, ثم هم يدّعون أنهم أتباعه ويتشدقون بمحبته، في الوقت الذي يتجرؤون فيه على إهمال أي أمر من أوامره، وارتكاب أي نهي من مناهيه, وبعد ذلك يفعل شيئًا لم يأمره المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يدّعي به أنه مقتضى حبه للرسول -صلى الله عليه وسلم- كأن يحتفل بمولده، أو يتمسح بقبره، أو ينشد بعض مدائح الغلو إطراءً له -صلى الله عليه وسلم- ويجعل هذه البدعة هي برهان محبته للرسول -صلى الله عليه وسلم- وما هي إلا جزء من الإعراض عن سنته، ومخالفة هديه وهدي أصحابه الطيبين الطاهرين.
ومن شهور احتفل الناس بالمولد النبوي, وفي الشهر القادم -إن شاء الله- ستسمع العجائب في وصف رجب وخصائصه, وما لصيام أول يوم فيه من الفضائل والخصائص, ثم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج, ثم في الشهر التالي له الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وهكذا تخدر الأمة بهذه الاحتفالات والأعمال المبتدعة المخالفة للسنة، ويقنع الناس أنفسهم أنهم يحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن الإسلام قائم بخير ولله الحمد.
ثم يأتونك فيقولون لك متشدقين: أنت سني وهابي لا تحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصالحين والمناسبات الإسلامية؛ لأنك لا تحتفل بالموالد والمواسم الدينية العظيمة. فيا للعجب!! أيهما يحب الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟! من وقف عند حدوده وعمل بأوامره واجتنب نواهيه، أم من عصاه فيما أمر، وارتكب ما نهى عنه، ثم ابتدع بدعًا لم يؤمر بها ففعلها؟! فيا عجبًا؛ يتركون ما يؤمرون، ويفعلون ما لا يؤمرون!! ورحم الله سلفنا حيث قالوا: المحبة هي موافقة المحبوب في أمره، فليسأل كلٌ نفسه: هل وافق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمره أم خالفه؟!
فطوبى لمن تمسك بهدي محمد -صلى الله عليه وسلم- واقتدى بسنته وعظّمها ووقّرها، فهؤلاء هم الذين يفوزون بسعادة الدارين, بل وتحيا بهم الأرض، وتسعد بهم الأمة، فيدوم لها صلاح دينها، ويعلو بهم شأنها. يقول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: إن لله عبادًا يحيي بهم البلاد، هم أصحاب السنة.
اللهم اجعلنا من أتباع سنته -صلى الله عليه وسلم-، واحشرنا في زمرته, واسقنا من حوضه الشريف يوم الهول والضيق, واجمعنا تحت لوائه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات