عناصر الخطبة
1/حاجة الإنسان إلى غيره 2/تمام المعروف بتناسيه 3/تحريم المن بالإحسان 4/ المن بالعطاء ليس من شيم الكرماء 5/وجوه ذم المن بالعطاء. 6/آداب الإحسان إلى الناس.اقتباس
إن المنَّ على الناس بالإحسان إليهم خلق مقيت، وسلوك رديء، يدل على لؤم في النفس، وجفاف في الطبع، وقلة في الإخلاص، وجهل بآداب القربات.. ولكي لا يقع المسلم المحسن في خطيئة المنِّ نسوق بعض آداب..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: هل رأيتم أحداً في هذه الدنيا استغنى بنفسه عن غيره، ولم يحتج إلى إنسان آخر في سنوات عمره؟
وهل استطاع إنسان تجاوز هذه الحياة ولم يكن هناك من أعانه على بعض مطالبها، وأوصله إلى شيء من مآربها؟
إن الإنسان ضعيف بنفسه، قوي بغيره، مستوحش وحده، مستأنس بسواه، ولو كان ذا مال كثير، وصاحب جاهٍ كبير، فهو محتاج إلى معين، ولو في غير ما هو فيه من أسباب العلو من الغنى والجاه؛ فالدنيا تتقلب، والأحوال تتبدل، والعجز يحاصر القوة البشرية.
إنْ كانَ يَحرسُك الغِنى أو تَكتفِي *** بعلوِّ جاهكَ في الحياةِ وتَعجبُ
فالمالُ غادٍ في الحياةِ ورائحٌ *** والجاهُ يُعطى في الزمانِ ويُسلُبُ
فاجعلْ لنفسِكَ في القلوبِ وسيلةً *** تُؤويكَ إنْ يومًا دهاكَ الغَيهبُ
ولهذا؛ فإن المرء قد يحتاج إلى معروف غيره، سواء كان معروفًا ماديًا أم معنوياً، ولما كانت غير أن النفوس بفطرتها تكره من يعدِّد عليها صنوف إحسانه وآلائه، ويعيرها بمعروفه وعطائه، وقد تعارف الناس على أن يد الإحسان لا تتم ولا يبقى مدحُها إلا بعدمِ منِّ المعطي على المعطَى وإيذائه بالتطاول عليه، وتعييبه بالفقر والحاجة، وتذكيره بالإنعام عليه لتحقيره وإيلام نفسه.
ويمدحون من يحسن وينسى إحسانه، ولا يذكِّر من أعطى بما أنعم عليه، ولا يجمعون بين المعروف والمنِّ به؛ فقد قالوا: "خير المعروف ما لم يتقدمه مَطل، ولم يتبعْه مَنٌّ".
وقال الشاعر:
وَيْسْخُو بِمَا قَدْ حَوَتْ كَفُّهُ *** وَلاَ يُتْبِعُ المَنَّ ما قَدْ وَهَبْ
فَكَمْ فِضَّةٍ فَضَّها فِي سُرُو *** ر يَوْمٍ وَكَمْ ذَهَبٍ قَدْ ذَهَبْ
وقال آخر مادحًا:
إذا ما أمرؤٌ أثنى بآلاءِ ميِّتٍ *** فلا يُبعدُ اللهُ الوليدَ بنَ أدهما
فما كان مِفراحاً إذا الخيرُ مَسَّه *** ولا كانَ منّاناً إذا هو أَنعما
أيها المؤمنون: إن المنَّ على الناس بالإحسان إليهم خلق مقيت، وسلوك رديء، يدل على لؤم في النفس، وجفاف في الطبع، وقلة في الإخلاص، وجهل بآداب القربات؛ ولهذا حرم الله -تعالى- ورسوله عليه الصلاة والسلام المن والأذى في الإعطاء؛ حيث بيّن الله -تعالى- في كتابه الكريم أن الأجر للمنفقين لا يكون إلا بخلو إنفاقهم من المن والأذى على الآخذين فقال -تعالى-: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:262].
وذكر الله -جل وعلا- أن القول المعروف للسائل خير من إعطائه صدقةً متبوعة بإساءة منٍّ قولي أو عملي، فقال تبارك -تعالى-: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)[البقرة:263].
وحكم ربنا -سبحانه- ببطلان ثواب صدقات أهل المن والأذى، وضرب لذلك مثالاً ما أروعَه؛ فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[البقرة:264].
عَن الضَّحَّاك -رحمه الله- قَالَ: "من أنْفق نَفَقَة ثمَّ منَّ بهَا أَو آذَى الَّذِي أعطَاهُ النَّفَقَة؛ حَبط أجره، فَضرب الله مثله كَمثل صَفْوَان عَلَيْهِ تُرَاب فَأَصَابَهُ وابل فَلم يدع من التُّرَاب شَيْئاً؛ فَكَذَلِك يمحق الله أجر الَّذِي يُعْطي صدقته، ثمَّ يمنّ بهَا كَمَا يمحق الْمَطَر ذَلِك التُّرَاب".
وأخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- أن المنان يُعاقَب بعقوبات يوم القيامة؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هُمْ؟ فَقَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا قَالَ: "الْمَنَّانُ، وَالْمُسْبِلُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ"(رواه مسلم)، وفي رواية مسلم: "الْمَنَّانُ الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إِلَّا مَنَّهُ".
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَلِجُ حَائِطَ الْقُدُسِ مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَلَا الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَلَا الْمَنَّانُ عَطَاءَهُ"(رواه أحمد).
وقد جعل الحكماء المن بالعطاء ليس من شيم الكرماء، بل من صفات اللؤماء البخلاء، قال الشاعر:
وَصَاحِبٍ سَلَفَتْ مِنْهُ إلَيَّ يَدٌ *** أَبْطَاْ عَلَيْهِ مُكَافَاَتِي فَعَادَانِي
لَمَّا تَيَقَّنَ أَنَّ البؤس حاصرني *** أَبْدَى النَّدَامَةَ مِمَّا كَانَ أَوْلَانِي
أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ حَسَنٍ *** لَيْسَ الْكَرِيمُ إذَا أَعْطَى بِمَنَّانِ
وعدَّ آخرون سماعَ صوت المنِّ على نفوسهم أشدَّ من وقع الرماح، وحثوا على اختيار الصبر على مرارة الحاجة، وجعلها أهون من مِنن الرجال واستعلائهم بها عليهم، فينسب للشافعي قوله:
لَا تَحْمِلَنَّ لِمَنْ يَمُنُّ *** مِنْ الْأَنَامِ عَلَيْك مِنَّهْ
وَاخْتَرْ لِنَفْسِك حَظَّهَا *** وَاصْبِرْ فَإِنَّ الصَّبْرَ جُنَّهْ
مِنَنُ الرِّجَالِ عَلَى الْقُلُوبِ *** أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ الْأَسِنَّهْ
عباد الله: إن تعديد المنعِم على الآخذ نعمَه- خاصة بين الناس- مذموم دينًا وخُلقًا، ومن ذلك:
أن في المن منازعةً لله في صفة من صفاته؛ فإن الله هو المنّان ومن صفاته: المن، قال بعض العلماء: "وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى مُنَازِعٌ لِلَّهِ -تعالى- صِفَتَهُ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمِنَّةَ بِالْعَطَاءِ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ يُعْطِي مِنْ مُلْكِ نَفْسِهِ، وَيُعْطِي مَا يُعْطِي مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ؛ إِذْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ، فَإِذَا أَعْطَى مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ وَأَعْطَى مِنْ مُلْكِهِ لَا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ اسْتَحَقَّ الِامْتِنَانَ، فَأَمَّا مَنْ دُونَهُ فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَى أَعْطَى مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ، لَا مِنْ مُلْكِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي أَيْدِي الْعِبَادِ فَمُلْكُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".
ولأن المن من الله تذكير بما يجب علينا من شكره؛ لما يترتب على ذلك من حصول الأجر ودوام النعم، وأما المن من العباد فهو تكدير وتحقير وإيذاء.
ومن وجوه ذم المنِّ: محق الثواب؛ فمن أعطى ومنَّ بفضله فإن حسنة عطائه تمحوها سيئة منّه وإيذائه، كما تقدم في الآية القرآنية؛ ولهذا صار المن فعلاً محرمًا في الشريعة؛ ولعظم الوعيد عليه فقد عدّه العلماء من كبائر الذنوب؛ حتى إنه يحرم صاحبَه نظر الله إليه يوم القيامة، كما في حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.
ومن وجوه ذم المنِّ: أنه علامة على ضعف ابتغاء الأجر والإخلاص لله في العطاء، وفيه إهانة لكرامة المعطَى وجرح لمشاعره؛ فإن سماع صوت المن مؤلم للنفس، ومكدر للخاطر، وأنه يهدم جسور المعروف، ويحذِّر من تكراره بالنسبة للمعطي المان، ومن قبوله بالنسبة للآخذ، قال الشاعر:
المنُّ يهدمُ ما شيّدتَ من كرمٍ *** هلْ يرغبُ الحرُّ في هدمٍ لِبُنيانِ
وفي المن أيضًا: تكدير للإحسان، وإذهاب لرونقه، وحسن أثره في النفوس، وقطع لحبال الشكر والاعتراف بالنعمة؛ فقد سَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ: فَعَلْتُ إلَيْك وَفَعَلْتُ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: "اُسْكُتْ؛ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ إذَا أُحْصِيَ".
وقد قيل: الْمَنُّ مَفْسَدَةُ الصَّنِيعَةِ. وكَدَّرَ مَعْرُوفًا امْتِنَانٌ، وَضَيَّعَ حَسَبًا امْتِهَانٌ. ومَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ أَسْقَطَ شُكْرِهِ.
فَامْضِ لَا تَمْنُنْ عَلَيَّ يَدًا *** مَنُّكَ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَدَرِهْ
ومن وجوه ذم المنِّ: أنه يفرق القلوب المتحابّة، ويبدد الصفوف المجتمعة، بعد أن كان الإحسان بين الناس وسيلة لتأليف القلوب وجمع الصفوف.
وأن المانَّ مستحق للذم جانٍ على كرمه، فيغدو كرمه مطعونًا ذاهب المدح. ومن عدّد نعمه، محق كرمه". كما قيل؛ قال بعض السلف: الأيدي ثلاث: يد بيضاء، وهي: الابتداء بالمعروف، ويد خضراء، وهي: المكافأة، ويد سوداء، وهي: المن
المنُّ للذَّمِّ داعٍ بالعطاءِ فلا *** تَمْنُنْ فتُلْفى بلا حمدٍ ولا مالِ
وقال آخر:
إِذَا زَرَعْتَ جَمِيْلًا فَاسْقِهِ غَدِقًا *** مِنَ المَكَارِمِ كَي يَنْمُو لَكَ الشَّجَرُ
وَلَا تَشُبْه بِمَنٍّ فَالَّذِي زَعَمُوا *** مِن عَادَةِ المَنِّ أَنْ يُؤْذَى بِهِ الثَّمَرُ
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا من الكرماء، غير المانين بالعطاء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما.
أيها المسلمون: إن الإحسان إلى الخلق فضله عظيم، وأثره على النفوس جسيم، ولكن بعض المحسنين يكدِّرون إحسانهم بالمن، ويسيئون إلى الآخذين بالأذى، فعند ذلك تحصل الأضرار المتقدم ذكرها.
ولكي لا يقع المسلم المحسن في خطيئة المنِّ نسوق بعض آداب الإحسان التي إذا تحلى بها المعطي سلم بها عطاؤه، ولم تُكدَّر بين الناس نعماؤه؛ فمن تلك الآداب: أن يعلم المحسن أن المال هو مال الله -تعالى- الذي أنعم به عليه، والواجب عليه شكره، ومن شكره: أن الله أمره أن ينفق من ماله على عباده، ووعده بحسن العوض عليه، فكيف يمنُّ منفق من مال غيره وقد أمره بالإنفاق؟ قال -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ)[الحديد:7]، وقال: (وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ:39].
ومن الآداب: تناسي المعروف والفضل، وجعل النفس كأنها لم تعط شيئًا؛ حتى لا تتعلق بما تعطي فتمن على من تحسن، خاصة إذا جحد الآخذ أو نسي فضل المعطي؛ كتب رجل إلى عبد الله بن جعفر رقعة، وجعلها في ثني وسادته التي يتكئ عليها، فقلب عبد الله الوسادة؛ فبصر بالرقعة، فقرأها وردها إلى موضعها، وجعل مكانها كيساً فيه خمسمائة دينار؛ فجاء الرجل فدخل عليه، فقال له: قلبتُ النمرقة فخذ ما تحتها، فأخذ الرجل الكيس وخرج وهو ينشد:
زادَ مَعروفكَ عِندي عِظَماً *** أَنَهُ عِندَكَ مَيسورٌ حَقيرْ
تَتَناساهُ كَأَنْ لَم تَأتِهِ *** وَهُوَ عِندَ الناسِ مَشهورٌ كَبيرْ
ومن الآدب أيضًا: اعتبار المحتاج محسنًا إلى من أعطاه حين قبل منه عطاءه؛ لأنه كان هو السبب لأجره وقبول فضله، وبركة ماله وحصول الخير له، ولو لم يقبل منه لبقي في ضيق وهم؛ لاسيما إذا كان المال مال زكاة.
ومن الآداب كذلك-أيها المحسن الكريم-: أن تحتسب أجرك حين العطاء عند رب الناس، ولا تنتظر أجرك من الناس، فمن لا يحتسب قد يمن في إحسانه، ويصادف من الآخذ عدم شكرانه؛ يُحكى أن رجلاً قال لرجل أسدى إليه معروفاً فلم يشكره عليه: ما شكرتَ معروفي عندك! فقال الرجل: إن معروفك كان من غير محتسب، فوقع عند غير شاكر.
وإذا رأيت-أيها الأخ الكريم- سببًا يؤدي إلى خجل من أعطيته منك فيتكلف صنع أشياء من الشكر لأجلك فاترك ذلك السبب؛ حفاظًا على مشاعره، وصونًا لكرامته؛ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: "كَانَ أَبِي يَقُولُ: إذَا أَعْطَيْت رَجُلًا شَيْئًا وَرَأَيْت أَنَّ سَلَامَك يَثْقُلُ عَلَيْهِ –أَيْ: لِكَوْنِهِ يَتَكَلَّفُ لَك قِيَامًا وَنَحْوَهُ لِأَجْلِ إحْسَانِك عَلَيْهِ- فَكُفَّ سَلَامَك عَنْهُ".
ويذكر أن الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى مدح بشعره هرم بن سنان لإصلاحه بين قبيلتي عبس وذبيان وتحمُّله ديات القتلى في الحرب بينهما، فوقع شعر زهير من هرم موقعًا حسنًا؛ فحلف أنه لا يسلّم عليه زهير إلّا أعطاه عشرة أعبد وأمة، فلما كثر ذلك على زهير صار إذا مرّ بالنادي وفيه هرم قال: "أنعموا صباحًا، ما عدا هرمًا، وخيرَكم تركت، فكان فعله هذا أمدح له من شعره".
أيها الأحباب الكرام: هناك نفوس لا تعرف حقائقها إلا في الخصام، وأما في أيام الوئام فلا؛ فعند المخاصمة والشحناء يتحدث بعض الناس عن إحسانه إلى خصمه، ويمن عليه بفضله عليه، بكونه قد أعطاه كذا وكذا، وفعل له كيت وكيت من المعروف، وهذا من لؤم الطباع وسوء الأخلاق، ومحبطات الأعمال.
وأما ذو الأخلاق الحميدة؛ فإنه يحرس معروفه بالكتمان، ولو قوبل بالنكران، ويجعل له (خط رجعة) مع خصمه؛ لأن تعديد المنن قطع لجسورة عودة المحبة.
قال بعض العلماء: "المن بالمعروف في المخاصمة دُمَّلٌ لا تندمل» يعني: لا تُنسى، بل تصير تكدر الصحبة كلما تذكره".
فيا أيها المسلم: احذر أن تطلب لعطائك جزاءً من الناس إذا طلبت به وجه الله، فإذا أردت الجزاء فكأنما فعلك هذا بيع وشراء؛ لهذا لا تستخدم الآخذ وتطلب منه أن يعمل لك مصلحة؛ لكونك أعطيته، ولا تنتظر منه مكافأة أو شكراً لأنك منحته؛ فهذه صورة من صور المن، قال بعض العلماء: " وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسناً إليه، ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسناً إليه تفرع منه على ظاهره ما ذُكر في معنى المن وهو التحدث به، وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم، والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس، والمتابعة في الأمور، فهذه كلها ثمرات المنة".
واحذر -يا عبد الله- أن تسلط لسانك في توبيخه وتقريعه؛ اعتماداً على إحسانك له، ولو لم تكن كذلك لما فعلت ذلك، ولا تجعل لنفسك مزية عليه بعطائك، ولا تستعظم ما أحسنت به إليه فتجعل ذلك سببًا لتعييره والاستخفاف به والنظر إليه نظرة دونية، فكل هذه نماذج من صور المن، واستمر في إحسانك إلى الناس ولا تمنن به ولو جحدوا معروفك، ونسوا فضلك؛ فما عند الله خير لك وأبقى.
نسأل الله أن يرزقنا الجود في مرضاته، والإخلاص ابتغاء وجهه.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير..
التعليقات