عناصر الخطبة
1/ لا يخلو إنسان من سيئة أو ذنب 2/ فهم خاطئ لحديث \"لو لم تذنبوا\" 3/ الذنوب مكروهة عند الله تعالى 4/ عواقب الذنوب 5/ فضل التوبة وفرح الله بالتائبين 6/ مشقة التوبة على بعض الناس 7/ طرق ووسائل الإقدام على التوبة 8/ حكم التوبة من بعض الذنوب دون بعض 9/ الحث على التوبة الشاملة النصوح.اهداف الخطبة
اقتباس
ومن أسباب الإقدام على التوبة: العلم بتبعيض التوبة، أي: أنك يمكن أن تتوب من معصية ما توبة نصوحًا، تُقبل منك، مع إبقائك على معصية أخرى تتوب من ذنب دون ذنب آخر، فمن المعروف أن الشيطان يثبط المقبل على التوبة من ذنب ما بتذكيره بذنوبه الأخرى، فينطلي عليه هذا الإرجاف فيتراجع عن التوبة،.. وتصح التوبة من الخمر مع الإبقاء على معصية التدخين مثلاً، أو التوبة من الربا مع الإبقاء على بعض المعاملات المحرمة الأخرى، ولا يفهم أن في هذا دعوة إلى الإبقاء على بعض المعاصي أو الاستهانة بها.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لا يخلو إنسان من هفوة أو سيئة أو ذنب في حياته؛ ففي السنن بإسناد صحيح عن أنس قال -صلى الله عليه وسلم-: "كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".
الجميع يذنب والجميع يخطئ، الناس مشتركون في ذلك، لكن مَن يستغفر ومَن يتوب هنا يفترق الناس.
أيها المسلمون : يخطئ البعض في فهم هذا الحديث الذي يقوله -صلى الله عليه وسلم- فيه: "ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله" يخطئون فيعتقدون أن الله -تعالى- يحب الذنب، ولذلك يجيء بقوم من أجل أن يذنبوا، وهذا فهم خاطئ، فإن الله -تعالى- لا يحب السيئة هي غير محبوبة عنده، ولا مرضية كما قال -تعالى- بعد أن نهى عباده عن الكبائر المذكورة في سورة الإسراء: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) [الإسراء:38].
فإذا كانت الذنوب مكروهة لدى رب العباد، فلماذا إذاً يجيء بقوم يذنبون؟
الجواب لأن الذي يريده الله -سبحانه- على الحقيقة ليست الذنوب ذاتها، وإنما ما يترتب على الذنوب من محابّه ومرضاته في حق فاعله من الاستغفار والتوبة، والإنابة والإذعان، والاعتراف بقدرة الله عليه، والخوف من عقابه ورجاء مغفرته، ونفي العجب المحب للحسنات ودوام الذل والانكسار، والشعور بالافتقار إلى الله وملازمة الدعاء، وما شابه هذا من الفرائض والطاعات المحبوبة للرب -عز وجل- تلك الطاعات التي لا يمكن أن تتحقق إلا بعد الذنوب والتقصير.
هذه المشاعر الإيمانية والعبادات القلبية التي يحبها الله -تعالى- لا الذنوب، وقد أثنى الله في كتابه على المتصفين فيه غاية الثناء، فحثّ على المسارعة إلى جنته التي أعدها للمتقين ثم وصف أولئك المتقين بقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
إذاً هذه هي الميزة الكبرى ليس فعلهم للفاحشة وإنما استغفارهم منها وتركها وعدم الإصرار عليها (ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 135 - 136].
فالذنوب وإن كانت في الأصل مذمومة خطيرة العواقب إلا أنها محمودة العواقب للتائب منها دون غيره، ولذلك يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "لولا تقدير الذنب –يعني من عند الله- لهلك ابن آدم من العجب، فذنب يُذل به أحب إليه –أي: إلى الله- من طاعة يدل بها عليه"، يمنّ العبد بها على الله، فالمضرة قد تأتي بالمنفعة أحيانًا.
لَعَلّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُهُ *** فرُبّمَا صَحّتِ الأجْسامُ بالعِلَلِ
وإذا علمنا أيها الإخوة أن للتوبة عند الله مقامًا كبيرًا وعظيمًا جدًّا بطل العجب، ففي صحيح مسلم عن البراء بن عازب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سأل صحابته: كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته تجر زمامها بأرض قفر ليس بها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه؟ وفي رواية قال: "أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته وعليه زاده وطعامه وشرابه، قال ثم مرت بجذل شجرة فتعلق زمامها فوجدها متعلقة بها".
قلنا –أي: ردًّا على سؤاله -صلى الله عليه وسلم- كيف تقولون بفرح هذا الرجل؟ قلنا: شديدًا يا رسول الله. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله! لله أشد فرحًا بتوبة عبده من الرجل براحلته" يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبين مدى ذلك الفرح بهذا الشكل بهذا الوضع لهذا الرجل الذي يأس من الحياة كلها.
وفي رواية أنس قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ، فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا "، ثُمَّ قَالَ : " مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ".
نعم هكذا يفرح الله -سبحانه- بتوبة عبده بل أشد من ذلك كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لله أشد فرحًا من هذا الإنسان".
معاشر الإخوة: هناك دلائل لأخرى لهذا الفرح الإلهي العظيم بتوبة العبد منها قوله -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم: "يَنْزِلُ اللَّهُ -تعالى- إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟".
فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر، ينزل -جل وعلا- كل ليلة أيها الإخوة نزولاً يليق بجلاله وعظمته من أجل توبة العباد واستغفارهم كل ليلة من ليالي الدنيا حتى قيام الساعة.
علامة أخرى من علامات فرحه -تعالى- قوله -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"، فمجال التوبة مفتوح.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكيه عن ربه في عبده المنيب: "إذا تقرب العبد إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليَّ ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة".
فهو -سبحانه- -جل وعلا- يقبل على العبد التائب أشد من إقبال العبد عليه، وهذا لا شك دليل على فرحه -سبحانه- بتوبة العباد من ذنوبهم أشد من فرحهم هم بتوبته، وهو الغني عنا جميعًا -جل وعلا-.
وبالرغم من هذه المبشّرات المرغّبات للتوبة إلا أن السؤال الذي حيَّر الكثيرين، وما يزال هو كيف أستطيع أن أتوب، كيف أبدأ وماذا أصنع؟
أيها الإخوة: إن مشقة التوبة على بعض الناس تذكرني بحديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن مدى كراهة الشيطان وحرصه الشديد وسعيه بكل وسيلة إلى منع العبد من أي عمل صالح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما يخرج رجل شيئاً من صدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً" (رواه ابن خزيمة وهو صحيح).
هل تتخيلون هذا؟! سبعون شيطان يعضون على تلك الصدقة حتى لا تخرج من جيبه إلى الفقير.
هذا بالنسبة للصدقة فقط فكيف بالتوبة؟
هكذا يرى الشيطان للإنسان الخير، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "إن كل تائب لابد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه من همّ أو غمّ أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تألم بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره. فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه المحنة –نسأل الله العافية-، والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة الخاصة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم".
ولذلك أسباب عديدة، منها أن تلك العصرة وقبض الصدر دليل على حياة قلبه وقوة استعداه ولو كان قلبه ميتًا واستعداده ضعيفًا لم يحصل له ذلك.
وأيضا فإن الشيطان لصّ الإيمان، واللص إنما يقصد المكان المعمور، وأما المكان الخراب الذي يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده، وأما المكان الخراب الذي يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده، فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دلَّ على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه.
ثم قال: "والمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجلّ الأمور وأعظمها نصبت عليه المعارضات والمحن؛ ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة ويحصل الابتلاء ويتميز من يصلح ممن لا يصلح"، قال -تعالى-: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:1- 3].
ثم بشَّر بعد ذلك قائلاً: "ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلاً أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح، وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه، والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه".
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد: فإن التوبة حتى ليست بالأمر السهل إلا على من سهَّله الله عليه، ولهذا يحق للسائل أن يسأل كيف أستطيع أن أتوب؟
أيها الأحبة: حتى يمكن للعبد أن يتوب أولاً أن تكون لديه عزيمة صادقة لا ريب فيها ولا تردد، فحتى يمكنك التوبة راجع نفسك أولاً، وأزل عنك كل ريبة وشك في الإقدام على الله -تعالى- والتوبة، وتنبه جيدًا واعلم أن الشيطان يخوّف ويمنع ويمنّي ويُوهم؛ يوهمك بأنك غير مستعد، وأنك على خير وغير محتاج، فلا يصدنك عن هذا الإقدام، العزيمة دون تردد.
ومن أسباب الإقدام على التوبة: العلم بتبعيض التوبة أي: أنك يمكن أن تتوب من معصية ما توبة نصوحًا، تُقبل منك، مع إبقائك على معصية أخرى تتوب من ذنب دون ذنب آخر، فمن المعروف أن الشيطان يثبط المقبل على التوبة من ذنب ما بتذكيره بذنوبه الأخرى ويهمس في أذنه يقول: ما هذه التوبة! تتوب من ذنب كذا وأنت مغموس في ذنب كذا وكذا.. أنت منافق!
فينطلي عليه هذا الإرجاف فيتراجع عن التوبة، وقد تناول ابن القيم مسألة تبعيض التوبة فقال "الراجح تبعُّضها".
إذاً تصح التوبة من الخمر مع الإبقاء على معصية التدخين مثلاً، أو التوبة من الربا مع الإبقاء على بعض المعاملات المحرمة الأخرى، ولا يفهم أن في هذا دعوة إلى الإبقاء على بعض المعاصي أو الاستهانة بها.
إذاً يا إخوة المطلوب هو التوبة من جميع المعاصي، ولكن المقصود هو إزالة جميع الموانع التي قد تقف حائلاً دون الإقدام على التوبة ولو من بعض المعاصي، تتوب من كذا حتى وأنت مقيم على ذنب آخر يقبله الله -عز وجل- أي يقبل تلك التوبة.
من أسباب الإقدام على التوبة: تغيير البيئة من ضرورات الإقدام على التوبة؛ أن يستبدل التائب بيئة الأصحاب وبيئة الأماكن التي تجره إلى الغفلة، وتعينه على المنكر، وهذا من طبيعة ابن آدم في التأثر والتأثير.
ولذلك أمر الله -تعالى- بالهجرة من بيئة الفتنة والإفساد إلى بيئة الخير والصلاة وقال -تعالى- ردًّا على تبرير المفتونين بأنهم كانوا مستضعفين تأثروا بمن استضعفهم وأوقعهم في الفتن: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا..)، لماذا لم تتركوا بيئية الفتنة وقد أمرتم بذلك؟! (فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 97- 99].
وفي حديث قاتل المائة في صحيح مسلم لما أجابه العالم بإمكان قبول توبته قال مبينًا له ضرورة من ضرورات التوبة، وعاملاً أساسًا من عوامل نجاحها قال: "انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناس يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء"، لا ترجع إلى بيئتك، لا ترجع إلى أولئك الأصحاب.
قال أهل العلم في قوله: "ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء" إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية والتحول منها كلها.
إذًا لا بد لكل من أراد التوبة إلى الله من اختيار صحبة أخرى أصلح وأتقى ولا بد له كذلك مفارقة مواطن الغفلة، واستبدالها بأحسن منها، بل مما يعين على الإقبال على التوبة كسر العادة بشكل عام، تغيير الروتين اليومي الذي ألفه الإنسان وقت نومه، مدى سهره، كيفية قضاء نهاية الأسبوع، وما شابه ذلك؛ فكلما غيَّر التائب ما يذكره بغفلته من عادات رتيبة أو سلوكيات معينة واستبدالها بغيرها كان خيرًا له.
تدرج أيها الأخ في توبتك، التدرج ممكن، إن من المعروف أن حكم التوبة من المعاصي واجبة على الفور، ومن ثَم يجب عن العبد الإقلاع عن المعاصي دون تراخٍ، ولك هذا لا يمكن التدرج مثال للنسبة للتدخين، مدخن مثلاً أن يبدأ في تقليل عدد السجائر التي يدخنها في طريقه إلى الترك بكلية فلا يقال له: إما أن تترك التدخين كله وإلا لا سبيل آخر، هذا غير صحيح، فالتدرج يفتح باب للإقبال على التوبة، وقد صح عند ابن حبان عن أبي هريرة قيل: يا رسول الله! إن فلانًا يصلي الليل كله فإذا أصبح سرق، قال: "سينهاه ما تقول" أي: قليلاً قليلاً ستنهاه صلاته.
أسأل الله -تعالى- أن يرزقنا توبة نصوحًا .. اللهم ارزقنا توبة نصوحًا..
التعليقات