عناصر الخطبة
1/ لا حياة إلا بالقرآن 2/حياة الصحابة بالقرآن 3/قيمة الحياة بالقرآن 4/الحياة الطيبة بالقرآن 5/كيف نحيا بالقرآن 6/قصة عملية في الحياة مع القرآناقتباس
إن قرآننا هو كلام ربنا، ونظام حياتنا، ومنبع صفائنا، وميزاننا الذي نحتكم إليه عند خلافنا، بل وفي كل شئوننا وأمورنا، فإذا أردنا أن ننتفع به في حياتنا فعلينا أن نستشعر أننا نحن المخاطبون به، وأننا نحن المعنيون بأحكامه، وأن نعتقد أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وأن نجعله المقدم على جميع تصرفاتنا وأمورنا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنزل كتابه الكريم هدى للمتقين، وعبرة للمعتبرين، ورحمة وموعظة للمؤمنين، ونبراساً للمهتدين، وشفاءً لما في صدور العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحيا بكتابه القلوب، وزكى به النفوس، هدى به من الضلالة، وذكر به من الغفلة والجهالة، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي كان خلقه القرآن فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه، ورضي الله عن جنده وحزبه، ومن ترسم خطاه وسار على نهجه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: يقول الله -سبحانه وتعالى-: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : 122]. فالله -سبحانه وتعالى- يخبر في هذه الآية بأن القرآن حياة يحيي الله به القلوب من بعد موتها، وينورها به من بعد ظلالها وظلامها، فمن اشتبهت عليه الطرق أو أظلمت به المسالك أو حضره الهم والغم فلا حياة له إلا بالقرآن، ولا منور لقلبه إلا بهذا النور العظيم، ولا مزيل لهمه وغمه إلا بهذا الكتاب المبين، ففيه مادة الحياة، وفي معينه الصافي أصل الحياة، وما حيت قلوب الصحابة -رضي الله عنهم- ووصلوا إلى هذا المستوى الكبير من الإيمان واليقين إلا بالقرآن الذي به حيوا، وبه أحيوا العالم كله.
لقد فقه الصحابة -رضي الله عنهم- المقام الرفيع للقرآن، فتلوا آياته حق التلاوة، وتدبروا معانيه حق التدبر، فلما فهموه وفقهوه انطلقوا يحملون توجيهاته، ويطبقون أحكامه، ويتحاكمون إليه في أمورهم كلها، فسهَّل الله أمورهم، وأنار دروبهم، ووفقهم لخيري الدنيا والآخرة، وجعلهم سادة الأرض وقادة البشر، بعد أن كانوا أناساً حائرين تائهين، يحملون اهتمامات محدودة، وتتحكم فيهم العصبية والقبلية، وتشيع بينهم العداوة والبغضاء والسلوكيات الخاطئة، لا يأبه لهم أحد، وليس لهم بين الأمم حساب أو وزن، ولكنهم حين جعلوا القرآن مرتكزهم ومحور حياتهم، وعظموه تعظيماً شديداً، وأقبلوا عليه إقبالاً كبيراً، وعاشوا معه جل أوقاتهم، وتأثروا به في جميع مناحي حياتهم، وأقاموا حياتهم كلها وفق رؤيته ومنهجه، تغيرت قلوبهم وعقولهم وأفعالهم وحياتهم كلها بهذا الكتاب العظيم.
يقول أبو عبد الرحمن السلمي: "حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ آيَاتٍ، فَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، قَالُوا: فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ" [ أحمد (23482) ]، وتقول أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-: " كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم" [سنن سعيد بن منصور (95) ]، وهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: " كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران يُعَدُّ فينا عظيماً" [أحمد (12216) ]، وفي رواية: "جد فينا" [أحمد (12215) ] أي: علت منزلته وعظمت.
بل إن شعراءهم كانوا من فطاحلة الشعراء، فلما قرأوا القرآن أذهلهم القرآن فتوقف بعضهم عن قول الشعر، فهذ لبيد بن ربيعة الشاعر الجاهلي المشهور لما قرأ القرآن توقف ولم يقل شعراً، حتى قيل: إنه لم يقل إلا بيتاً واحداً في الإسلام بعد أن كان من شعراء المعلقات السبع في الجاهلية، لأن القرآن أبهره، وملأ قلبه، فأخرج ما في قلبه من الشعر الجاهلي، ووجد في القرآن ما هو أفضل وأعظم وأكبر من الشعر.
فهؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه حياتهم مع القرآن، يعيشون معه آناء الليل وأطراف النهار، وكان لهم دوي من قراءته كدوي النحل، فكيف نحيا نحن بالقرآن مثلما كان الصحابة -رضي الله عنهم- أحياء به؟.
وقبل هذا فإنه يجب علينا أن نعلم أن القلوب تقسوا، والنفوس تضعف، والأرواح تصدأ وتهبط، ولكن لا علاج لها إلا بالقرآن، ولا سعادة ولا طمأنينة لها إلا بالحياة مع القرآن، فالحياة معه هي حياة عظيمة ذات طعم خاص، وإحساس خاص، لا يدركها إلا من أنار الله بصيرته فوفقه للتأمل في آياته، والتفكر في كلامه المنزّل على خير خلقه وصفوة رسله -صلى الله عليه وسلم-، لأنها حياة مع الحي -سبحانه وتعالى-، والحياة مع الحي القيوم -جل جلاله- لا شك أنها حياة راقية وفريدة، حياة يشعر من يعيش في ظلها بأنه وجد السعادة المنشودة، والكنز المفقود، والسكينة والطمأنينة التي يبحث عنها، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : 28]، حياة يعرف من يعيش فيها قيمته، وسر تكريم الله -سبحانه وتعالى- له، لأنها تصلك بربك، وتربطك بنسبك العريق ورابطتك الإيمانية حين تعيش مع الله، ومع أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-.
إن الحياة مع القرآن حياة مع الكون كله، بكل ما فيه من آيات ومعجزات ومخلوقات وصور بديعة، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت: 53]، ويخبر -سبحانه وتعالى- أن الحياة مع القرآن تزيد صاحبها إيمانا وخشوعا وثقة بالله وتوكلاً عليه فيقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
عباد الله: لا شك أننا جميعاً نريد لأنفسنا ولأهلنا الحياة الطيبة الحقيقية لا الحياة البهيمية الحيوانية، والرائد للوصول إلى هذه الحياة الكريمة الطيبة هو بالعيش مع القرآن، يقول الله -تبارك وتعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : 97]، فالدنيا فيها حياة طيبة لمن جعل القرآن رائده وقائده وإمامَه.
فالحل وحده هو في العودة إلى القرآن، والارتواء من معينه الصافي، والاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه في ذلك، لنحيا حقاً بالقرآن، ولنحيي هذا العالم حياة حقيقية به، فإن العالم لم يكن يوماً من الأيام بعد مبعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- أحوج إلى أن يحيا بالقرآن منه في زماننا هذا.
فالله الله -يا أمة الإسلام- في العودة إلى كتاب الله, نتلوه آناء الليل وآناء والنهار، ونتدبر آياته ومواعظه، ففيه -والله- الكفاية والغنى، ولنكن كما كان نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد كان خلقه القرآن، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) [الإسراء : 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتقين، ومنبراً منيراً للمهتدين، فكان شفاءً لما في الصدور، ومصلحاً لجميع الأمور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وهو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على جميع النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أيها الناس: إن العيش مع القرآن عيش كريم, ونعمة يتفضل بها الله على من شاء من خلقه, وحياة تعجز العبارات أن تعبر عنها, وتتوقف الكلمات عند وصفها، ولذا كان حريٌ بالمؤمن الناصح لنفسه أن يجاهد نفسه للعيش الحقيقي مع القرآن, تأملوا في حال السلف الصالح --رضي الله عنهم- وكيف كانت حياتهم مع القرآن , وقارنوا بين حالنا وحالهم مع القرآن، كم نسمع من كتاب الله في مقابل ما نسمع من غيره؟ وكم نقضي من الأوقات مع كتاب الله في مقابل ما نقضي من الأوقات مع غيره، (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان : 30].
فإذا أردنا أن نحيا بالقرآن ويحيينا القرآن فعلينا أن نسلم أنفسنا بكل جوارحنا ومفاصلنا ومشاعرنا للقرآن، إذ كيف يؤثر القرآن فينا إذا كانت عقولنا مليئة بآراء سقيمة، وليس لأحدنا استعداد لأن يغيرها أو يعيد النظر فيها، وعنده آراء ونظريات لا يمكن تجاوزها ولا مناقشتها، ولديه شهوات مسيطرة وخلفيات ثقافية ومعرفية واجتماعية أشبه ما تكون بالأغلفة التي تحجب عنه فهم القرآن، فكيف إذاً سيتأثر بالقرآن وهذه الأكنة قد اجتمعت عليه وحالت بينه وبين فهم القرآن؟ (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) [الإسراء : 46].
فإذا استطعنا أن نسيطر على أنفسنا ونحكّم فيها القرآن، ونكشف مواطن الخلل والضعف والقصور عندنا فنسدها بالقرآن، ونقرأه على أنه للحياة والأحياء لنحيا به، ونجعل المرجعية له، فهنا نكون سلمنا أنفسنا للقرآن، واهتدينا إلى تدبره، ودراسة أسراره وإعجازه وتأثيراته.
عباد الله: إن قرآننا هو كلام ربنا، ونظام حياتنا، ومنبع صفائنا، وميزاننا الذي نحتكم إليه عند خلافنا، بل وفي كل شئوننا وأمورنا، فإذا أردنا أن ننتفع به في حياتنا فعلينا أن نستشعر أننا نحن المخاطبون به، وأننا نحن المعنيون بأحكامه، وأن نعتقد أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وأن نجعله المقدم على جميع تصرفاتنا وأمورنا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال : 24] فالحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وأهل القرآن هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، وكل واحد منا معه من الحياة الحقيقية بحسب ما معه من الحياة القرآنية.
فلنفض القرآن على قلوبنا ونفوسنا، ولننطلق به إلى واقع حياتنا لنتحرك به، ونحرّك به واقعنا، ونقوِّم به اعوجاجنا، ونستدرك به نقصنا، ونكمل به ما وقع من خلل في حياتنا، وذلك من خلال قراءته بتدبر وتأمل، وحبذا لو نجعل لأنفسنا تفسيراً ميسراً للقرآن، وخاصة للأجزاء الأخيرة منه التي كثيراً ما نقرأها حتى نفهم آياتها ومعانيها.
كذلك الإنصات التام عند سماع القرآن، وجمع العقل واللب عند سماعه للانتفاع به، وترديد الآيات المؤثرة عند المرور عليها، ولو أدى ترديد الآية الواحدة زمنا فإنه خير وأنفع لك، يقول أبو سليمان الداراني -رحمه الله-: "ربما أقمت في الآية الواحدة خمس ليال, ولولا أني أدع الفكر فيها ما جزتها أبداً, ولربما جاءت الآية من القرآن فيطير عقلي لها".
حاول أن تعيش مع آيات القرآن بوجدانك, فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة استحضر نفسك وكأنك تعيش فيها متلذذاً بملاذها, وإذا مررت بآية فيها ذكر النار خشيت أن تكون من أهلها فتستعيذ بالله منها, وإذا مررت بقصص السابقين نقلت فؤادك إلى ذلك الزمان وكأنك تعيش تلك الأحداث, وهكذا فافعل مع كل آية من الآيات.
تدبر في آيات الصفات التي تصف الله تعالى وتذكر أسماءه الحسنى، وتتحدث عن عظمته وصفاته العلى, وتصف أفعاله العظيمة، فإن هذا من أعظم ما يؤثر في القلب ويحييه، (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ...) [الحشر : 21].
أيها المسلمون: لابد لنا من تفعيل الحياة بالقرآن في مجتمعنا وواقعنا لكي نحيا به، فلن نحيا به ولن نتأثر به إلا إذا كان جزءاً لا يتجزأ من نسيج حياتنا، يكون معنا في كل مكان، ونجده في كل مواقعنا ومرافقنا سماعاً وقراءة وتفسيراً، لماذا تجد جيب الواحد منا لا يكاد يخلو من الدراهم والأوراق المختلفة, لكنك لن تجد حاملا في جيبه مصحفاً يقرأ فيه حين يجد الفرصة والفراغ، انظر إلى جوالتنا ستجد فيها مواداً شتى مسموعة ومرئية ومكتوبة, لكن عندما نسأل هل يوجد به مصحفا كاملاً ولو بصوت قارئ واحد فماذا يكون الجواب؟ فإذا كان الجواب بنعم فكم مرة استمعنا لهذا المصحف بجميع سوره وآياته؟، أم أنه مجرد موجود فقط دون استماع له واستفادة منه.
ما المانع من سماع القرآن وتشغيله في أعمالنا وتجاراتنا، كم مرة قرأنا القرآن وسمعناه في بيوتنا ومحلاتنا؟، أليس من هجر القرآن ومجافاته أن يكون الواحد في مكان ما كذا وكذا سنة لم يختم القرآن فيه أو يسمعه ولو مرة؟ انظروا إلى مساجدنا وبيوتنا كم فيها من كتب التفسير ودروس التفسير، وكم يقرأ فيها ويطالع؟، لماذا لا نجعل في بيوتنا حلقة قرآنية نحيي بها القرآن في بيوتنا حتى تحيا بالقرآن؟، انظروا إلى إعلامنا؛ دعايات وإعلانات مسلسلات حلقات مهرجانات حوارات مرح هل رأيت فيها شيئاً يذكرنا بكتاب الله ويحيينا به، ولو بصورة معبرة، أو شعار ملفت، أو نص بارز؟.
لماذا نسمع في الأسواق كل صخب وصوت إلا صوت القرآن والدروس القرآنية لا نكاد نسمعها في أسواقنا؟ ما المانع من عمل ذلك؟ لماذا نرى في مدارسنا ضعفاً في هذا الجانب وربما تعد الحصص القرآنية من الحصص الهامشية لا الحصص الأساسية، ولا يهتم بها مثل ما يهتم بالمواد الأخرى كالرياضيات مثلاً؟، إعلامنا بجميع قنواته ومجالاته تجد أنه مهتم بالغناء والموسيقى والشعر وغيره ولا تجد فيه أي اهتمام يكاد يذكر بالتلاوات والدروس القرآنية، مع أنه إعلام عام ويخاطب الأمة كلها، وكأنه لا يوجد في الأمة إلا من يهتم بهذه التوافه، انظروا إلى اهتمام قادتنا وكبرائنا وشبابنا بالكرة مثلاً وانظروا إلى اهتمامهم بالقرآن والحياة به ستجد فرقاً كالفرق الذي بين المشرق والمغرب، انظروا إلى أوقاتنا وحياتنا العامة ستجد أن الاهتمام بإحياء القلوب بالقرآن فينا ضعيف جدا، فلا نقرأ إلا قليلاً، ولا نهتم بتفسير القرآن والتطلع إلى معرفة ألفاظه ومعانيه إلا نادراً.
فلابد لنا -يا عباد الله- من وقفة عامة مع حياتنا بشكل عام حتى نحتويها ونحييها بالقرآن، وأن نحبب القرآن إلى نفوسنا ونفوس أطفالنا ونسائنا وأولادنا، بدلاً من إحيائهم بقنوات الأطفال والكرتون والكرة والانترنت والدردشة، فإذا اهتممنا بالقرآن وصار القرآن رفيقنا وحبيبنا وكانت نفوسنا متعلقة به ومتجهة إليه فهنا سنحيى حياة حقيقية، وسيأتي العز والنصر والسعادة والانشراح، فلابد لنا إذاً من تغيير اهتماماتنا وبرامجنا وأوقاتنا فنجعل للقرآن منها حظاً ونصيباً وافراً.
تأملوا معي هذه القصة لرجل عزم على أن يحي نفسه بالقرآن، وأن يُغير قلبه الذي امتلأ قسوة وخشونة بالقرآن، فلن يغيره إلا القرآن، ولن ينوره إلا القرآن، قرر هذا الرجل أن يعالج نفسه بالقران الكريم فإنه علاج للأدواء الحسية والمعنوية، فماذا فعل؟ قطع المعاصي والذنوب وهجرها، وأقسم على نفسه أن يتلو في كل يوم وليلة خمسة أجزاء بتمعن وتدبر، واستمر على هذا العلاج شهوراً طويلة، يقول أحسست بعدها أن قلبي بدأ يلين، وبدأ الران ينقشع عن صدري، بدأ يشعر باللذة والطمأنينة، وبدأت الدموع تنهمر من عينيه عند تلاوة القران، أحس ولأول مرة أنه يبكي من خشية الله، وشعر بعد زمن طويل من الاستمرار على هذا العلاج أن نوراً يشع في صدره ويحيا في قلبه، إنه نور الإيمان، بدأ يذوق حلاوة الإيمان، ويشعر باندفاع قوي وإقبال شديد على العبادة والتقرب من الله -سبحانه وتعالى-، رسخ اليقين في قلبه، وقوي الإيمان في نفسه، واعتمر قلبه بطاعة الرحمن -سبحانه وتعالى-.
إنه القرآن فلا علاج لأمراض القلب وإزالة أدرانها وقسوتها إلا به، ولن نحتاج بعد العلاج به إلى حكم الحكماء، ولا إلى منطق الفلاسفة، ولن نحتاج بعده إلى دراسات اجتماعية، ولا إلى جلسات نفسية، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : 57]، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : 44].
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يلحقنا وإياكم بأهل القرآن، وأن يحيي قلوبنا بالقرآن، وأن يوقظنا من غفلاتنا بالقرآن إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات