عناصر الخطبة
1/ الاعتبار بسرعة مرور الأيام 2/ ما أجملَ الطاعة تعقبها الطاعات 3/ خطورة السيئات أنها قد تحبط أجر الأعمال الصالحات 4/ فارق بين أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان 5/ أهمية التأمل في حقائق العبادات وآثارها وليس في صورها فقط 6/ عبادات ثابتة لا تتغير بعد رمضان 7/ مظاهر محرمة في الاحتفال بالعيد 8/ الحث على مداومة الطاعات بعد رمضان 9/ علامات القبول والحرمان.اهداف الخطبة
اقتباس
إن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجبُ من لبِّه كلَّ مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأنَّ لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها.. كم هي الأوقات –والله- التي تمضي سدى مع أن العبد يوم القيامة يتمنى لو أضاف إلى رصيده خيراً مهما قل مقداره وتدنّى أجره ليدرأ عن نفسه عقوبة أو ليرتفع بها درجة..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: إن في كرِّ الأيام والليالي لعبرة، والناس منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير. إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرٌ للآجال ومواقيتٌ للأعمال، تنقضي وتمضي جميعاً، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا) [آل عمران: 30]، ينادي ربكم: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه". رواه مسلم.
أيها المسلمون: لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئاً فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيباً وفي عمله مصيباً فليُحكم البناءَ ويشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثاً، وما أجملَ الطاعة تعقبها الطاعات، وما أبهى الحسنة تُجمع إليها الحسنات، وأكرِم بأعمال البر في ترادف الحلقات، إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغَّب فيها، وكونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل، فالله لا يتقبل إلا من المتقين، وما أقبح فعل السيئة بعد الحسنة، ولئن كانت الحسنات يُذهبن السيئات، فإن السيئات قد يحبطن الأعمال الصالحات.
لقد ظل المسلمون جميعاً شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم، ويورون الله من أنفسهم، متقلِّبين في ذلك بين دعاء وصلاة وذكر وصدقة وتلاوةٍ للقرآن، ولكن سرعان ما انقضت الأيام وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق الخريف عصفت بها الريح على أمر قد قدر.
إن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجبُ من لبِّه كلَّ مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأنَّ لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها إلى حين بلوغ رمضان الآخر، فالله جل وعلا أتبع فَرَضَ الصيام على عباده بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
ومن هنا كان لزاماً علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات وآثارها، لا إلى صورها ورسومها، إذ كم من مجهد نفسه كان حظه من صيامه الجوعَ والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه فيه التعب والسهر، وآكد ما يدل على ذلك حينما يُسائِل الناس أنفسَهم: كم مرة قرءوا القرآن في رمضان؟ وكم سمعوا فيه من حِكَم ومواعظ وعبر؟ ألم يسمعوا كيف فعل ربُهم بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد؟! ألم يقرؤوا صيحة عاد، وصاعقة ثمود، وخسف قوم لوط؟ ألم يقرءوا الحاقة والزلزلة والقارعة وإذا الشمس كورت؟! فسبحان الله، ما هذا الران الذي على القلوب؟ (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
ألا فليت شعري، أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟ فلله كم صار بعضها للغفلة مرتعاً، وللأُنس خراباً بلقعاً، وحينئذ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوَة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوَة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوَة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين الصفا والمروة، فلا حول ولا قوة إلا بالله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) [محمد: 24- 25].
أيها المسلمون: إن مما لا شك فيه أن هناك ضَعفاً في البشر لا يملكون أن يتخلصوا منه، وليس مطلوبٌ منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم، غير أن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدّهم إلى الله في كل حين، وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافةً وأسرةً وأعلاماً من الثوابت التي لا تتغير، ولا تخدَع بها النفس في موسمٍ ما دون غيره.
كما أن هناك عبادات هي من الثوابت التي لا تتغير بعد رمضان، كالصلاة والزكاة والصدقة، وكذا الدعاء لنفسك ولإخوانك في الملة والدين من المعوزين والمستضعفين والمجاهدين، ناهيكم عن ثابت التوبة المطلوبة في كل حين وآن.
فإذا عرفت -يا عبدالله- هذه الأمور كلها، فما عليك إلا أن تَلزَم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علم، ولقد ذقتَ طعم العبادة في رمضان ولذة القرب من الله، فلا تعكرنّ هذا الصفو بالكدر، والهناء بالشقاء، والقرب بالبعد.
أيها المسلمون: كم هي الأوقات –والله- التي تمضي سدى مع أن العبد يوم القيامة يتمنى لو أضاف إلى رصيده خيراً مهما قل مقداره وتدنّى أجره ليدرأ عن نفسه عقوبة أو ليرتفع بها درجة.
إن هذه المواسم المباركة تثبت للعبد أن بإمكانه أن يغيّر من حاله متى ما أخذ نفسه بمأخذ الجد وقوّى استعانته وصلته بالله -عز وجل- بدليل أنه فعل! والتجربة خير برهان، والواقع أكبر دليل، والملهيات والعوائق التي تجاوزها في رمضان يمكنه تجاوزها في غيره كما تجاوزها فيه، والدافع الذي مكّنه من تجاوزها ما زال موجوداً، إذ الرب سبحانه بالمرصاد، والجنة والنار مخلوقتان، ولكل منهما أهلون.
أيها المسلمون: وبعد موسم رمضان العظيم شرع الله تعالى لعباده العيد ليكون راحة للقلوب ولذة للنفوس وذكراً لله -تعالى-، وشكراً له على إتمام النعمة، وإن مما يدمي القلوب ويفطّر الأكباد أن تتحول أعياد المسلمين من ذكر ودعاء واستغفار وشكر لله تعالى، إلى إظهار للمنكر وإعلان للمعصية مما يُخشى معه من حلول النقم وزوال النعم ورفع العافية عن الأمة.
فما من أمة كثر فيها الفساد وظهر، إلا حلت عليها أنواع العقوبات الإلهية، فرغدُ العيش وسعةُ الرزق قد تتحولُ في طرفةِ عين ولمحةِ بصر جوعاً يَذهبُ بالعقول وتتصدعُ له القلوبُ والأكباد، وإذا البطونُ الملئ والأمعاءُ المتخمة يتضورُ أصحابُها جوعاً ويصطلون حسرةً وحرماناً، وإذا الأمنُ الذي كانوا يفاخرون به الدنيا وينسونَ في عُجبٍ وغرور المتفضلَ به سبحانه والمنعمَ به جل جلاله، إذا به ينقلبُ رعباً وهلعاً لا يأمن المرءُ على نفسِه وعرضِه فضلاً عن مالهِ وملكه، ويصبح باطنُ الأرض خيراً من ظاهِرها.
إن ما يفعله كثير من الناس في هذه الأزمنة من احتفالات ومظاهر في أيام الأعياد إضافة إلى أنها معصية ومخالفة لما يجب أن يكون عليه العبد بعد رمضان من دعاء الله تعالى أن يقبل منه عمله ويشكر سعيه، إنما هي مشابهة تامة لما يفعله الكفار في أعيادهم الباطلة.
ألا فليحافظ كل واحد منا على ما عمله طيلة شهر كامل من الأعمال الصالحة والطاعة النافعة وليحافظ على أهله وولده وليحرص على أن يبعدهم عن أسباب الوقوع في الفتن فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ...
أما بعد: أيها المسلمون: إن فضل الله علينا متواصل، ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها. فإنه لما انقضى شهر رمضان، دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، فاعزموا النية على حج بيته من الآن، وتابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد.
واعلموا أن الشارع الحكيم قد سنّ لكم صيام الست من شوال، وجعل ذلك من متابعة الإحسان بالإحسان، فقد قال النبي : "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر كله". رواه مسلم.
والأفضل في صيام هذه الست أن تكون على الفور بعد يوم العيد، وأن تكون متتالية، ومن فرّق بينها فلا بأس، ومن أخّرها إلى وسط الشهر أو آخره فلا بأس، وهي ليست واجبة، ولا صحَّة لما يظنه بعض العوام من أن من صامها سنة وجبت عليه في السنين الأخرى، بل هي سُنة، من فعلها أثيب عليها، ومن تركها فلا شيء عليه.
ومن كان مواظباً عليها في كل عام ثم مرض أو سافر في عام آخر فإنها تكتب له وإن لم يصمها، لقول النبي في الحديث الصحيح: "إذا مرض الإنسان أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً".
كما أنه لا يجوز تقديم صيام الست على أيام القضاء من رمضان، لأن من شروط حصول أجر الست من شوال أن يكون المرء قد صام رمضان بأكمله. ومن أراد الزيادة ومضاعفة الأجر فليحافظ على صيام أيام البيض من كل شهر، وهي يوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، فلقد صح في السنن أن النبي جعل صيامها كصيام الدهر، أي كسنة كاملة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
أيها المسلمون: ولئن انقضى قيام رمضان فإن قيام الليل مشروع في كل ليلة من ليالي السنة، وقد ثبت عن النبي أن الله ينـزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: "من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"، وأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، والمغبون من انصرف عن طاعة الله، والمحروم من حُرم رحمةَ الله.
احرِصوا على الخير الذي قدَّمتموه، والفضلِ الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح، فمن علامة قَبول التوبة والأعمال أن يكونَ العبد أحسنَ حالاً بعد الطاعة عما قبل، ومن علامة القبول: التوفيق بعد العمل إلى عملٍ صالح، قال بعض السلف: "جزاءُ الحسنة حسنةٌ بعدها، وجزاءُ السيئة سيئةٌ بعدها"، فالأعمال الصالحات يستجرّ بعضُها بعضاً، والأعمالُ السيئة يسوق بعضها بعضاً، والمداومةُ على الأعمال الصالحة تدلّ على اتّصال القلب بخالقه، ممّا يعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ..
التعليقات