كيف ستدخل قبرك؟

ناصر بن محمد الأحمد

2017-05-18 - 1438/08/22
عناصر الخطبة
1/ القبر أول منزل من منازل الآخرة 2/ الإيمان بعذاب القبر ونعيمه واجب 3/ تواتر الأحاديث في إثبات عذاب القبر ونعيمه 4/ أعمال صالحة تنجي من عذاب القبر 5/ الحث على تذكر الموت 6/ خوف السلف من هادم اللذات.
اهداف الخطبة

اقتباس

إن عذاب القبر ونعيمه حقٌ، وكل واحد منا مقبل على ذلك لا محالة، وليس بينه وبين عذاب القبر ونعيمه إلا خروج الروح من البدن. فليجتهد كل واحد منا في تخليص نفسه. فاتقوا الله عباد الله، كفى بالموت واعظاً، فإنه لا يقبل بديلاً، ولا يأخذ كفيلاً، ولا يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً. أكثروا من ذكر هادم اللذات، ولا يغترّ أحدكم بعمله مهما بلغت، فإنه لا يدري هل قُبلت أم رُدّت.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ولي الأمر والتدبير، وإليه المرجع والمصير، سبحانه كتب على نفسه البقاء، وعلى خلقه الفناء، وهو الحي الدائم الذي لا يموت، القائل في كتابه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 30].

 

وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة حق أعرف بها ربي، وأدخل بها قبري. وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، خاتم الأنبياء، الذي خيّر فاختار الرفيق الأعلى، ولم تفتنه الحياة الدنيا، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: أيها المسلمون: سؤال مهم ينبغي أن تسألك نفسك. ولا يكفي أن تسألها مرة واحدة. لابد أن تكرر وتجدد السؤال على نفسك دائماً: كيف سأدخل قبري؟

 

القبر عباد الله أول منزل من منازل الآخرة، القبر ذلك المكان المظلم الضيق، الذي لا بد لكل منا وسوف يلجه، ويسكن فيه ما شاء الله له أن يسكن ثم يذهب بعد ذلك إلى مستقره، فإما إلى الجنة وإما إلى النار والعياذ بالله.

 

والإيمان بعذاب القبر ونعيمه واجب، وقد جاء القرآن الكريم مبيناً ذلك بالأدلة الواضحة، قال الله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام: 93].

 

الشاهد قوله تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) أي في اليوم الذي تخرج أنفاسكم، ولا يكون ذلك إلا في الدنيا وهو في حال القبر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية: هذا عند الموت.

 

وقال تعالى: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَاب النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب) [غافر: 45 - 46].

 

توعد –سبحانه- آل فرعون بنوعين من العذاب: الأول: أشار إليه بقوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً). والثاني: أشار إليه بقوله: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب). وقد عطف الثاني على الأول، والعطف يقتضي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، فلا بد أن يكون المشار إليه أولاً غير الثاني، فإذا كان العذاب الثاني: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ). فلا بد أن يكون العذاب الأول واقعاً بهم ما بين الموت والنشور وهو عذاب القبر.

 

وقال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 21]، فالعذاب الأدنى هو عذاب القبر، والعذاب الأكبر يكون بعد الحشر.

 

وأما الأحاديث الصحيحة المثبتة لعذاب القبر فكثيرة جداً تبلغ حد التواتر. وقد أورد الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه أحاديث كثيرة في إثبات عذاب القبر، وسماع النبي -صلى الله عليه وسلم- من يعذب فيه، وسماع الموتى قرع نعال دافنيهم، وكلامه -صلى الله عليه وسلم- لأهل القليب وقوله: "ما أنتم بأسمع منهم"، والفسح للميت في قبره إن كان من الناجين، وعرض مقعده من الجنة أو النار عليه، وغير ذلك.

 

عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: بينما النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في حائطٍ لبني النجارِ، على بغلةٍ لهُ، ونحن معَه، إذ حادت بهِ فكادت تُلقيهِ. وإذا أقبرُ ستةٍ أو خمسةٍ أو أربعةٍ، فقال: "من يعرفُ أصحاب هذه الأقبرِ؟" فقال رجلٌ: أنا. قال: "فمتى مات هؤلاءِ؟" قال: ماتوا في الإشراكِ. فقال: "إنَّ هذهِ الأمةَ تُبتلى في قبورها. فلولا أن لا تدافنوا، لدعوتُ اللهَ أن يُسمعكم من عذابِ القبرِ الذي أسمعُ منهُ".

 

ثم أقبل علينا بوجهِه، فقال: "تعوَّذوا باللهِ من عذابِ النارِ" قالوا: نعوذُ باللهِ من عذابِ النارِ. فقال: "تعوَّذوا باللهِ من عذابِ القبرِ" قالوا: نعوذُ باللهِ من عذابِ القبرِ. قال: "تعوَّذوا باللهِ من الفتنِ، ما ظهر منها وما بطن" قالوا: نعوذُ باللهِ من الفتنِ، ما ظهر منها وما بطن. قال: "تعوَّذوا باللهِ من فتنةِ الدجالِ" قالوا: نعوذُ باللهِ من فتنةِ الدجالِ. (رواه مسلم).

 

وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مرَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقبرَينِ، فقال: "إنهما لَيُعَذَّبانِ وما يُعَذَّبانِ في كبيرٍ، أما أحدُهما فكان لا يَستَتِرُ منَ البولِ، وأما الآخَرُ فكان يَمشي بالنَّميمَةِ". ثم أخَذ جَريدَةً رَطْبَةً فشَقَّها نِصفَينِ، فغَرَز في كلِّ قبرٍ واحدَةً. قالوا: يا رسولَ اللهِ، لِمَ فعَلتَ هذا؟ قال: "لَعلَّه يُخَفِّفُ عنهما ما لم يَيبَسا" (رواه البخاري).

 

وروى الإمام أحمد وأبو داود عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "خَرَجْنا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في جَنازةِ رجلٍ من الأنصارِ، فانْتَهَيْنا إلى القبرِ ولَمَّا يُلْحَدْ، فجلس رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، وجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وكأنَّ على رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وفي يَدِهِ عودٌ يَنْكُتُ في الأرضِ، فجعل يَنْظُرُ إلى السماءِ، ويَنْظُرُ إلى الأرضِ، وجعل يرفعُ بَصَرَهُ ويَخْفِضُهُ، ثلاثًا، فقال: اسْتَعِيذُوا باللهِ من عذابِ القَبْرِ، مَرَّتَيْنِ، أو ثلاثًا، ثم قال: اللهم إني أعوذُ بك من عذابِ القبرِ ثلاثًا، ثم قال: إنَّ العبدَ المؤمنَ إذا كان في انقِطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرةِ، نَزَلَ إليه ملائكةٌ من السماءِ، بِيضُ الوُجُوهِ، كأنَّ وجوهَهُمُ الشمسُ، معهم كَفَنٌ من أكفانِ الجنةِ، وحَنُوطٌ من حَنُوطِ الجنةِ، حتى يَجْلِسُوا منه مَدَّ البَصَرِ، ثم يَجِيءُ مَلَكُ الموتِ عليه السلامُ حتى يَجْلِسَ عندَ رأسِهِ فيقولُ: أَيَّتُها النَّفْسُ الطيبةُ، اخْرُجِي إلى مغفرةٍ من اللهِ ورِضْوانٍ، قال: فتَخْرُجُ تَسِيلُ كما تَسِيلُ القَطْرَةُ من فِي السِّقَاءِ، فيأخُذُها، حتى إذا خَرَجَتْ رُوحُه صلَّى عليه كُلُّ مَلَكٍ بينَ السماءِ والأرضِ، وكُلُّ مَلَكٍ في السماءِ، وفُتِحَتْ له أبوابُ السماءِ، ليس من أهلِ بابٍ إلا وهم يَدْعُونَ اللهَ أن يُعْرَجَ برُوحِهِ من قِبَلِهِمْ، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حتى يأخذوها فيَجْعَلُوها في ذلك الكَفَنِ، وفي ذلك الحَنُوطِ، فذلك قولُه تعالى: (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)، ويخرجُ منها كأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ.

 

قال: فيَصْعَدُونَ بها فلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ من الملائكةِ إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فيقولونَ: فلانُ ابنُ فلانٍ، بأَحْسَنِ أسمائِهِ التي كانوا يُسَمُّونَهُ بها في الدنيا، حتى يَنْتَهُوا بها إلى السماءِ الدنيا، فيَسْتَفْتِحُونَ له، فيُفْتَحُ لهم، فيُشَيِّعُهُ من كلِّ سماءٍ مُقَرَّبُوها، إلى السماءِ التي تَلِيها، حتى يُنْتَهَي به إلى السماءِ السابعةِ، فيقولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: اكْتُبُوا كتابَ عَبْدِي في عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ. فيُكْتَبُ كتابُه في عِلِّيِّينَ، ثم يُقَالُ: أَعِيدُوهُ إلى الأرضِ، فإني وَعَدْتُهُم أني منها خَلَقْتُهُم، وفيها أُعِيدُهُم ومنها أُخْرِجُهُم تارةً أُخْرَى، قال: فيُرَدُّ إلى الأرضِ، وتُعَادُ رُوحُهُ في جَسَدِهِ، قال: فإنه يَسْمَعُ خَفْقَ نِعالِ أصحابِه إذا وَلَّوْا عنه مُدْبِرِينَ، فيَأْتِيهِ مَلَكانِ شَدِيدَا الانتهارِ فيَنْتَهِرَانِهِ ويُجْلِسَانِهِ فيَقُولانِ له: مَن ربُّكَ؟ فيقولُ: رَبِّيَ اللهُ، فيقولانِ له: ما دِينُكَ؟ فيقولُ: دِينِيَ الإسلامُ، فيقولانِ له: ما هذا الرجلُ الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقولُ: هو رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فيقولانِ له: وما علمُكَ؟ فيقولُ: قرأتُ كتابَ اللهِ، فآمَنْتُ به، وصَدَّقْتُ، فيَنْتَهِرُهُ فيقولُ: مَن رَبُّكَ؟ ما دِينُكَ؟ مَن نبيُّكَ؟ وهي آخِرُ فتنةٍ تُعْرَضُ على المؤمنِ، فذلك حينَ يقولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فيقولُ: رَبِّيَ اللهُ، ودِينِيَ الإسلامُ، ونَبِيِّي مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-.

 

فيُنَادِي مُنَادٍ في السماءِ: أن صَدَقَ عَبْدِي، فأَفْرِشُوهُ من الجنةِ، وأَلْبِسُوهُ من الجنةِ، وافْتَحُوا له بابًا إلى الجنةِ، قال: فيَأْتِيهِ من رَوحِها وطِيبِها، ويُفْسَحُ له في قبرِه مَدَّ بَصَرِهِ، قال: ويَأْتِيهِ رجلٌ حَسَنُ الوجهِ، حَسَنُ الثيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فيقولُ: أَبْشِرْ بالذي يَسُرُّكَ، أَبْشِرِ برِضْوانٍ من اللهِ، وجَنَّاتٍ فيها نعيمٌ مُقِيمٌ، هذا يومُكَ الذي كنتَ تُوعَدُ، فيقولُ له: وأنت فبَشَّرَكَ اللهُ بخيرٍ مَن أنت؟ فوَجْهُكَ الوجهُ يَجِئُ بالخيرِ، فيقولُ: أنا عَمَلُكَ الصالِحُ فواللهِ ما عَلِمْتُكَ إلا كنتَ سريعًا في طاعةِ اللهِ، بطيئًا في معصيةِ اللهِ، فجزاك اللهُ خيرًا، ثم يُفْتَحُ له بابٌ من الجنةِ، وبابٌ من النارِ، فيُقالُ: هذا مَنْزِلُكَ لو عَصَيْتَ اللهَ، أَبْدَلَكَ اللهُ به هذا، فإذا رأى ما في الجنةِ قال: رَبِّ عَجِّلْ قيامَ الساعةِ، كَيْما أَرْجِعَ إلى أهلي ومالي، فيُقالُ له: اسْكُنْ.

 

قال: وإنَّ العبدَ الكافرَ أو الفاجرَ إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرةِ، نَزَل إليه من السماءِ ملائكةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ، سُودُ الوجوهِ، معَهُمُ المسُوحُ من النارِ، فيَجْلِسُونَ منه مَدَّ البَصَرِ، ثم يَجِيءُ مَلَكُ الموتِ حتى يَجْلِسَ عند رأسِهِ، فيقولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الخبيثةُ اخْرُجِي إلى سَخَطٍ من اللهِ وغَضَبٍ، قال: فتفَرَّقُ في جَسَدِهِ فيَنْتَزِعُها كما يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ الكثيرُ الشُّعبِ من الصُّوفِ المبْلُولِ، فتَقْطَعُ معها العُرُوقَ والعَصَبَ، فيَلْعَنُهُ كلُّ مَلَكٍ بينَ السماءِ والأرضِ، وكلُّ مَلَكِ في السماءِ، وتُغْلَقُ أبوابُ السماءِ، ليس من أهلِ بابٍ إلا وهم يَدْعُونَ اللهَ أَلَّا تَعْرُجَ رُوحُهُ من قِبَلِهِمْ، فيَأْخُذُها.

 

 فإذا أخذها، لم يَدَعُوها في يَدِهِ طَرْفَةَ عينٍ حتى يَجْعَلُوها في تِلْكِ المُسُوحِ، ويخرجُ منها كأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ على وجهِ الأرضِ، فيَصْعَدُونَ بها، فلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ من الملائكةِ إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخَبِيثُ؟ فيقولونَ: فلانُ ابنُ فلانٍ، بأَقْبَحِ أسمائِهِ التي كان يُسَمَّى بها في الدنيا، حتى يُنْتَهَي به إلى السماءِ الدنيا، فيُسْتَفْتَحُ له فلا يُفْتَحُ له، ثم قرأ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) فيقولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: اكْتُبُوا كتابَه في سِجِّينَ في الأرضِ السُّفْلَى، ثم يُقالُ: أَعِيدُوا عَبْدِي إلى الأرضِ فإني وَعَدْتُهُمْ أني منها خَلَقْتُهُمْ، وفيها أُعِيدُهُمْ، ومنها أُخْرِجُهُمْ تارةً أُخْرَى، فتُطْرَحُ رُوحُهُ من السماءِ طَرْحًا حتى تَقَعَ في جَسَدِهِ ثم قرأ: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) فتُعادُ رُوحُهُ في جَسَدِهِ، قال: فإنه لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعالِ أصحابِهِ إذا وَلَّوْا عنه.

 

ويَأْتِيهِ مَلَكانِ شَدِيدَا الانتهارِ، فَيَنْتَهِرَانِهِ ويُجْلِسَانِهِ، فيَقُولانِ له: مَن ربُّكَ؟ فيقولُ: هاه هاه لا أَدْرِي، فيقولانِ له: مادِينُكَ؟ فيقولُ: هاه هاه لا أَدْرِي، فيقولانِ: فما تَقُولُ في هذا الرجلِ الذي بُعِثَ فيكم؟ فلا يَهْتَدِي لاسْمِهِ، فيُقالُ: مُحَمَّدٌ! فيقولُ: هاه هاه لا أَدْرِي سَمِعْتُ الناسَ يقولونَ ذاك! قال: فيُقالُ: لا دَرَيْتَ ولا تَلَوْتَ.

 

فيُنادِي مُنَادٍ من السماءِ أن: كَذَبَ، فأَفْرِشُوا له من النارِ، وافْتَحُوا له بابًا إلى النارِ، فيَأْتِيهِ من حَرِّها وسَمُومِها، ويُضَيَّقُ عليه قَبْرُهُ حتى تَخْتَلِفَ فيه أضلاعُه، ويَأْتِيهِ رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثيابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فيقولُ: أَبْشِرْ بالذي يَسُوؤُكَ، هذا يومُكَ الذي كنتَ تُوعَدُ، فيقولُ: وأنت فَبَشَّرَكَ اللهُ بالشرِّ مَن أنت؟ فوجهُك الوجهُ يَجِيءُ بالشرِّ! فيقولُ: أنا عملُكَ الخبيثُ، فواللهِ ما عَلِمْتُ إلا كنتُ بطيئًا عن طاعةِ اللهِ، سريعًا إلى معصيةِ اللهِ، فجزاك الله شرًّا، ثم يُقَيَّضُ له أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ في يَدِهِ مِرْزَبَّةٌ! لو ضُرِبَ بها جبلٌ كان ترابًا، فيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حتى يَصِيرَ بها ترابًا، ثم يُعِيدُهُ اللهُ كما كان، فيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى، فيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ كلُّ شيءٍ إلا الثَّقَلَيْنِ، ثم يُفْتَحُ له بابٌ من النارِ، ويُمَهَّدُ من فُرُشِ النارِ، فيقولُ: رَبِّ لا تُقِمِ الساعةَ".

 

أيها المسلمون: اعلموا أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قُبِرَ أو لم يُقْبَر؛ أكلته السباع، أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب، أو غرِق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور.

 

نسأل الله تعالى أن ينجينا وإياكم وإخواننا المسلمين من عذاب القبر، وأن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، ولا يجعلها حفرة من حفر النيران، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

بارك الله ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد: أيها المسلمون: إن عذاب القبر ونعيمه حقٌ، وكل واحد منا مقبل على ذلك لا محالة، وليس بينه وبين عذاب القبر ونعيمه إلا خروج الروح من البدن. فليجتهد كل واحد منا في تخليص نفسه. روى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ سورةً في القرآنِ ثلاثونَ آيةً شفَعت لصاحبِها حتَّى غُفِرَ لَه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ". وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: هي المنجية من عذاب القبر.

 

بادروا عباد الله بالأعمال الصالحة فإنها خير معين للإنسان في قبره، وإذا ما بُعث وجاء الحساب كانت أعماله الصالحة هي الحافظة له من سخط الله -عز وجل-.

 

روى أبو موسى المديني بإسناد حسن عن عبدالرحمن بن سمرة قال: خرَج علينا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يومًا ونحن في صُفَّةٍ بالمدينةِ فقام علينا وقال: "إني رأيتُ البارحةَ عجبًا، رأيتُ رجلًا مِن أمتي أتاه ملَكُ الموتِ لِيَقبضَ رُوحَه فجاءه بِرُّه بوالدَيه فردَّ ملَكَ الموتِ عنه.

 

ورأيتُ رجلًا قد بُسِط عليه عذابُ القبرِ فجاءه وضوؤُه فاستَنقَذه مِن ذلك.

 

 ورأيتُ رجلًا مِن أمتي قد احتوشَتْه الشياطينُ فجاءه ذِكرُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- فطرَد الشيطانَ عنه، ورأيتُ رجلًا مِن أمتي قد احتوشَتْه ملائكةُ العذابِ فجاءَتْه صلاتُه فاستنقذَتْه مِن أيديهم.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي يلهَثُ عطشًا كلما دنا مِن حوضٍ مُنِع وطُرِد فجاءه صيامُ شهرِ رمضانَ فأسقاه وأرواه.

 

 ورأيتُ رجلًا مِن أمتي ورأيتُ النبيينَ جلوسًا حلقًا حلقاً كلما دنا إلى حلقةٍ طُرِد فجاءه غسلُه منَ الجنابةِ فأخَذ بيدِه وأقعَده إلى جنبي.

 

 ورأيتُ رجلًا مِن أمتي بين يدَيه وتحتَه ظلمةٌ ومِن خلفِه ظلمةٌ وعن يمينِه ظلمةٌ وعن يسارِه ظلمةٌ ومِن فوقِه ظلمةٌ ومِن تحتِه ظلمةٌ وهو متحيرٌ فيها فجاءه حجُّه وعمرتُه فاستَخرَجاه منَ الظلمةِ وأدخَلاه في النورِ.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي يتقي بيدِه وهجَ النارِ وشررَها فجاءَتْه صدقتُه فصارَتْ سترةً بينه وبين النارِ وظللَتْ على رأسِه.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي يكلمُ المؤمنينَ ولا يكلمونَه فجاءتْه صِلَتُه لرحِمِه فقالتْ يا معشرَ المسلمينَ إنه كان وصولًا لرحمِه فكلِّموه فكلَّمه المؤمنونَ وصافَحوه وصافَحَهم.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي قد احتوشَتْه الزبانيةُ فجاءه أمرُه بالمعروفِ ونهيُه عنِ المنكرِ فاستَنقَذه مِن أيديهم وأدخَله في ملائكةِ الرحمة.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي جاثيًا على رُكبتَيه وبينَه وبينَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- حجابٌ فجاءه حسنُ خُلُقِه فأخَذ بيدِه فأدخَلَه على اللهِ -عزَّ وجلَّ-.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي قد ذهبَتْ صحيفتُه مِن قبلِ شمالِه فجاءه خوفُه منَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- فأخَذ صحيفتَه فوضَعها في يمينِه.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي خفَّ ميزانُه فجاءه أفراطُه فثقَّلوا ميزانَه.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي قائمًا على شفيرِ جهنمَ فجاءه رجاءُه منَ اللهِ -عز وجل- فاستنقَذه مِن ذلك ومَضى.

 

 ورأيتُ رجلًا مِن أمتي قد أهوي في النارِ فجاءَتْه دَمعتُه التي بَكى مِن خشيةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- فاستنقذَتْه مِن ذلك.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي قائمًا على الصراطِ يرعدُ كما ترعدُ السعفةُ في ريحٍ عاصفٍ فجاءه حسنُ ظنِّه باللهِ -عزَّ وجلَّ- فسكَن رعدتُه ومضى.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي يزحفُ على الصراطِ ويحبو أحيانًا ويتعلقُ أحيانًا فجاءَتْه صلاتُه عليَّ فأقامَتْه على قدمَيه وأنقذَتْه.

 

ورأيتُ رجلًا مِن أمتي انتَهى إلى أبوابِ الجنةِ فغلقَتِ الأبوابُ دونَه فجاءَتْه شهادة أن لا إلهَ إلا اللهُ ففَتَحَتْ له الأبوابَ وأدخَلَتْه الجنةَ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث.

 

فاتقوا الله عباد الله، كفى بالموت واعظاً، فإنه لا يقرع باباً، ولا يهاب حجاباً، ولا يقبل بديلاً، ولا يأخذ كفيلاً، ولا يرحم صغيراً، ولا يوقر كبيراً. أكثروا من ذكر هادم اللذات، ولا يغترّ أحدكم بعمله مهما بلغت، فإنه لا يدري هل قُبلت أم رُدّت.

 

يروى أنه لما احتضر أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- ، قالت عائشة:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فقال ليس كذلك ، ولكن قولي: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 18].

 

وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عند موته: "ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي".

 

ولما احتضر أبو هريرة -رضي الله عنه- بكى، فقيل له وما يبكيك؟ فقال: "بُعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إلى الجنة أو إلى النار".

 

ولما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: "إلهي أمرتني فلم أئتمر، وزجرتني فلم أنزجر، غير أني أقول لا إله إلا الله".

 

وقال المزني: دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها، فقلت له: أبا عبد الله، كيف أصبحت؟ قال: "أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، وبكأس المنية شاربًا، وعلى الله وارادًا، ولا أدري نفسي تصير إلى الجنة فأهنئها أم إلى النار فأعزيها". ثم بكى وقال:

ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت رجائي نحو عفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما

وما زلت ذا عفو عن الذنب سيدي *** تجود وتعفو منّة وتكرما

 

اللهم ..

 

 

المرفقات
كيف ستدخل قبرك؟.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life