اقتباس
إن أغلب المسلمين اليوم مهما اختلفت بلادهم وأحوالهم يحتاجون إلى التأكيد على الأصول والثوابت التي تُستهدف بالتشكيك ليل نهار.. ويحتاجون إلى التحذير من الغفلة بملذات الدنيا التي فُتحت على أغلب البشر وكثرت زخارفها.. ويحتاجون إلى حثهم على العمل لدين الله -تعالى- والدعوة إليه...
أمر يشغل بال كل خطيب تقي مخلص فقيه؛ وهو: "كيف أكون أمينًا مع جمهوري؟ كيف أكون لهم "ناصحًا" حق النصح؟ كيف لا أكون لهم غاشًا، أو في حقهم مقصرًا؟ كيف يكون اعتلائي المنبر لي لا عليَّ؟"... وكلما سمع القرآن الكريم يقول على لسان نبي الله هود -عليه السلام-: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ)[الأعراف: 68]، كلما تاقت نفسه أن يكون مثله -ومثل جميع الأنبياء-: "ناصحًا أمينًا"...
وهذا ما عقدنا هذه الاستراتيجية من أجله؛ أن نجيب على هذا السؤال المهم الذي يطرحه كل خطيب لبيب؛ والذي يقول: "كيف أكون لجمهوري ناصحًا مخلصًا أمينًا؟"، وأرى أن الإجابة مع وضوحها تحتاج إلى بيان أبعادها وأركانها ومظاهرها ومعالمها... والتي حاولت أن ألخصها في بنود واضحة محددة قابلة للتطبيق، وفيما يلي المجموعة الأولى من تلك البنود:
البند الأول: أعطهم ما يحتاجون، لا ما يريدون:
خيانة أربأ بك عنها -أخي الخطيب-؛ أن تحرص على أن تقول لجمهورك ما يرضيهم وإن كان غيره أرضى لله منه! أو ما يحبون وإن كان مفضولًا وغيره أولى وأهم! أو ما يطلبون وإن كان على خلاف ما يحتاجون! ليوافقوك ويثنوا عليك ويمدحوك! أو مخافة انتقادهم وإراحة للنفس من معارضتهم! أو متابعة للتيار السائد وإن لم يكن صوابًا!
ولقد كان الله -عز وجل- يُقَدِّر على صحابة النبي -رضي الله عنهم- الأصلح والأصوب والأنفع، وإن كان على خلاف ما يحبون أو يرغبون أو يتمنون: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)[الأنفال: 7]؛ فكانوا يحبون حيازة القافلة التجارية؛ تلك الغنيمة السهلة، لكن الله لم يعطهم إياها، وكتب عليهم القتال الذي يكرهون؛ لأن فيه إحقاق الحق وإبطال الباطل.
فالله -عز وجل- يعطينا ما ينفعنا ولو كنا نكرهه، ويصرف عنا ما يضرنا ولو كنا نحبه؛ (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216].
ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة؛ فلقد كان الأنصار -رضى الله عنهم- يحبون أن يصيبوا بعض المال الذي يؤتى به إلى المدينة، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعطهم "ما يحبون" حتى أعطاهم قبله "ما يحتاجون"؛ وهو تخويفهم من التكالب على الدنيا؛ وقد تعرضوا له -صلى الله عليه وسلم- طلبًا لها؛ فعن عمرو بن عوف -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها.. فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين رآهم، ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء"، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم"([1]).
والخطيب اللبيب هو الذي يسأل هنا سؤالًا عمليًا فيقول: وما الذي يحتاجه الناس في زماننا حتى أعطيهم إياه؟..
والجواب أغلبه عندك -أخي الخطيب-؛ فأنت وسط جمهورك وبينهم، فمن خلال تفاعلك معهم واحتكاكك بهم سوف تدرك ما ينقصهم، سوف تقف على مواطن الخلل عندهم، سوف تعي ما يحتاجونه...
لكن دعنا نقول: إن أغلب المسلمين اليوم مهما اختلفت بلادهم وأحوالهم يحتاجون إلى التأكيد على الأصول والثوابت التي تُستهدف بالتشكيك ليل نهار.. ويحتاجون إلى التحذير من الغفلة بملذات الدنيا التي فُتحت على أغلب البشر وكثرت زخارفها.. ويحتاجون إلى البُعد بهم عن الخلافيات ومزالق السياسات والحزبيات التي كان بعضها سببًا في تمزيق المسلمين وتشتيتهم.. ويحتاجون إلى حثهم على العمل لدين الله -تعالى- والدعوة إليه.. ويحتاجون إلى لفت انتباههم إلى أن أهم ما استثمروا فيه أموالهم وأوقاتهم ومجهوداتهم هو تربية أولادهم...
البند الثاني: ضع نفسك في موضعهم، ولا تتكلم من موضعك:
ضع نفسك موضع الأمي الجاهل الذي لا يُفرِّق بين أركان الوضوء وسننه، ولا يعرف الفقه ولا أصوله... فلا تخاطبه خطاب المتعلم المثقف، بل راعي عقله، وتنَزَل إلى مستواه -بأسلوبك لا بمعلوماتك-، وخاطبه بما يفهم وبما ينفعه، وليكن نصب عينيك قول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"([2])، وكذا قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله"([3]).
ضَعْ نفسك موضع العامل الذي يكد طوال النهار، ويرجع ليلًا إلى بيته متعبًا مرهقًا، فإذا أمرته بقيام الليل فأمره منه بما يطيق ولو ركعة، وإذا صليتَ بهم فخفف عنهم كما كان يأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء"([4]).
ولما لم يراع معاذ بن جبل -رضي الله عنه- ظروف الناس وأحوالهم فصلى بهم صلاة العشاء بسورة البقرة أو النساء، غضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال لمعاذ: "أتريد أن تكون فتانًا يا معاذ؟! إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إذا يغشى"([5]).
بل ضَعْ نفسك -وأنت تؤم المصلين- موضع الأم التي اصطحبت معها ولدها الصغير إلى المسجد لأنها لا تجد من تتركه معه، فراعي حالها تمامًا كما كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القائل: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"([6]).
وإذا أمرتهم بتلاوة القرآن فضَعْ نفسك موضع الموظف المشغول المطالَب بالأعمال المبتلى بكثرة الأسفار المتنقل بين الأماكن، وتذكر أن الله -تعالى- عذرهم فقال: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)[المزمل: 20].
ضَعْ نفسك موضع الفقير المعدم الذي لا يكاد يجد الكفاف، فإذا أمرت بالإنفاق في سبيل الله فقل: "ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة"([7]).. وإذا رهَّبتَ من الدَّين ومن الاستدانة فقل: "إلا المضطر فالله يعينه على السداد"، وتمثَّل كمال شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يقول لأصحابه: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ"([8]).
ضَعْ -أيها الخطيب- نفسك في موضع كليل النظر ضعيف العقل؛ فلا تقم بتصرف يفوق إدراكه وفهمه خاصة إن لم يكن ضروريًا ولا حتميًا، فقد عاينت أحد من تبدو عليه مظاهر العلم والصلاح وقد قام يومًا مصليًا في مكان عام وسط جموع من البشر الجالسين من حوله، وإلى هنا لا حرج، لكنه قام يصلي مرتديًا حذاءه يقوم ويركع ويسجد فيه.. وقد كان متاحًا له أن يخلعه.. وساعتها ثارت ثائرة من لا يعلمون، ووقعوا به وانتهروه وعابوا على "المتدينين" أجمعين ناعتين إياهم بالتنطع والتشدد إلى آخر تلك الاتهامات المحفوظة سلفًا...
ومع اليقين أن صاحبنا لم يخطئ "شرعًا" عندما صلى بالحذاء؛ فهو شيء جائز لا حرج فيه.. إلا أنني أدعي أنه قد أخطأ "دعوةً وفهمًا" لأحوال الناس؛ فقد كان الأولى -في نظري- أن يخلع حذاءه في صلاته مراعاة للعقول، وإذًا لكان أعون له على الإتيان ببعض السنن كالتورك، وجعل أصابع القدم إلى القبلة... وإذًا لعافى الناس من البلاء الذي أوقعهم فيه.
ولنا في نبينا -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة؛ فقد ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم -عليه السلام- خوفًا على عقول بعض الصحابة أن تقع في عنت أو فتنة، قائلًا لأم المؤمنين عائشة: "ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم، لنظرت أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألزق بابه بالأرض"([9]).
يتبع بإذن الله.
([1]) رواه البخاري (4015)، ومسلم (2961).
([2]) رواه مسلم (بعد رقم: 5).
([3]) رواه البخاري (127).
([4]) رواه البخاري (703)، ومسلم (467).
([5]) رواه البخاري (705)، ومسلم (465).
([6]) رواه البخاري (709)، ومسلم (470).
([7]) رواه البخاري (6023)، ومسلم (1016).
([8]) رواه مسلم (867).
([9]) رواه البخاري (126)، ومسلم (1333).
التعليقات
زائر
31-12-2023جزاك الله خيرا على هذا المجهود
زائر
31-12-2023جزيت عنا خيراً على هذه الإطلالة المميزة