اقتباس
وربما يأتيك من يسألك في مسألة من مسائل الميراث أو الطلاق وهو في أسلوب عرضه لسؤاله وفي جميع كلماته يريد أن ينتزع منك كلمة يستحل بها المال أو الفرج! فانتبه وتحفَّظ واحتط لنفسك أن يكون له حلوها وعليك مُرُّها، واسأله أكثر مما يسألك حتى تستبين مراده ومقصده...
أعلم جيدًا أنك من الخطباء ولست من المفتين، وأن مهمتك هي خطبة الجمعة والدروس والمحاضرات وإمامة المسلمين في الصلاة، وأنك لم تتصدر يومًا لأن تكون مفتيًا، لكن الواقع يخبرك كما يخبرني أن الناس لا تنفك تسأل الخطباء وأئمة المساجد في أمور دينهم ودنياهم، فأنت إذن معرَّض لأن تُسأل، وما منا من خطيب إلا والناس يستفتونه ويسألونه فيما أهمهم.
ومن الملاحظ أنه كلما كانت إجادة الخطيب على منبره كلما تصوَّر البسطاء أنه عالم من العلماء وفقيه من الفقهاء لا تخفى عليه خافية في دين الله بل ولا في دنيا الناس! وهم -حقًا- لا يستطيعون التفريق بين الخطيب والفقيه والمحدث والمفسر والداعية والمحاضر... بل كل من تكلم في الدين وأبهرهم فهو عندهم كل ذلك وزيادة!
ولأنك -أخي الخطيب- لست مفتيًا فإنني لم أعنون هذا المقال بـ"كيف تصدر فتوى" مثلًا، لكني عنونته: "كيف تجيب سؤالًا"؛ ليكون أعم من العنوان الأول، وليكون أدل على حالنا معاشر الخطباء.
ولكي لا أقع أنا وأنت في الحرج سطرت هذا المقال، ولكي لا نتورط فيما لا تحمد عقباه حبرت هذه السطور، ولكي ننجو من ورطة الإفتاء ونخرج منها بسلام كانت هذه الاستراتيجية؛ "استراتيجية جواب السائلين"، فإليك بعض أركانها.
أولًا: تبَين حال السائل وعُرْف بلده:
فلا تنطق بكلمة -أخي الخطيب- حتى تعرف أحوال سائلك؛ من تعليم وثقافة ومكانة اجتماعية وحالة مادية... وحتى تعرف عُرْف المكان الذي جاء منه؛ والسبب: أن ما يصلح لشخص قد لا يصلح لآخر، وما يكون يسيرًا على إنسان قد يكون عسيرًا على آخر، وما يكون مفهومًا لأحدهم قد يكون معقدًا للآخر، وما يكون سائغًا في مجتمع قد يكون مستبشعًا في آخر...
وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يراعي حداثة إسلام قريش ورقة إيمانهم فيترك إعادة الكعبة المشرفة إلى قواعد إبراهيم لئلا يفتنهم في دينهم؛ فعن أم المؤمنين عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين: بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة"([1]).
وها هو -صلى الله عليه وسلم- يراعي نفسية المسافر البعيد عن أهله ووطنه وماله، فيعطل الحد حتى يعود إلى بلده، قائلًا: "لا تقطع الأيدي في الغزو"([2])، فلربما لو قطعنا يده في الحرب ارتد ولحق بالعدو! فكانت مراعاة حاله تقتضي أن يعطل الحد في الغزو.
وإنما أوردت هذين المثاليين لأبين إلى أي مدى يجب مراعاة حال الناس وظروفهم قبل التعامل معهم، وقد كفانا ابن القيم فوضع القاعدة قائلًا: "ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل"([3]).
ويقول القرافي -المتوفى: 684هـ-: "فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجْرِه عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح"([4]).
ولنتدبر هذا التجسيد العملي لما نريد أن نقول، يروي سعد بن عبيدة فيقول: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: لمن قتل مؤمنًا توبة؟ قال: "لا، إلا النار"، فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنًا توبة مقبولة، فما بال اليوم؟ قال: "إني أحسبه رجل مغضب يريد أن يقتل مؤمنًا"، قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك"([5])، فلو جاء السائل دامع العين نادم القلب مطأطأ الرأس ممتلئًا حسرة وكمدًا على نفس قتلها، لأفتاه ابن عباس بأن له توبة... لكنه لو أفتاه بقبول توبته وهو مقبل عازم على القتل لكان شريكًا له في جريمته، فتدبر.
وتظهر مراعاة أحوال الناس وظروفهم في إجابات النبي -صلى الله عليه وسلم- إجابات مختلفة على السؤال الواحد؛ تبعًا لاختلاف حال السائل واحتياجاته، كسؤال: "أي الأعمال أفضل؟"، فقد أجاب مرة: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله"، وفي أخرى قال: "الصلاة لأول وقتها"، وأجاب على الثالث: "أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله"، وكانت إجابته للرابع: "طول القيام"، وأجاب الخامس: "إيمان لا شك فيه"، وقال للخامس: "أن تدخل على أخيك المسلم سرورًا"، وأجاب السادس: "العج والثج"...
وتعددت إجاباته -صلى الله عليه وسلم- كذلك على من قال: "أوصني"، فقال لأحدهم: "أوصيك بتقوى الله -تعالى- والتكبير على كل شرف"، وللثاني: "لا تغضب"، وللثالث: "اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئًا"، وللرابع: "لا تسبن أحدًا"... والمتتبع للأحاديث النبوية يجد من هذا الشيء الكثير، وما اختلفت إجاباته -صلى الله عليه وسلم- على نفس السؤال إلا تبعًا لاختلاف حال المستفتي.
وهنا لعلك تسألني -أخي الخطيب-: ماذا لو لم أكن أعرف السائل أصلًا، ولم أتمكن من معرفة حاله؟ والإجابة: تعرَّف عليه من لسانه؛ فاسأله عن مؤهله الدراسي لتعرف مستواه الثقافي، واسأله أين يسكن؛ لتعرف مستواه المادي، واسأله أمتزوج هو؟ وهل يعول أسرة؟ لتتعرف على حالته الاجتماعية... ثم أنت تستطيع أن تستنتج من جلسته ومن طريقة تحدثه ومن ملابسه ومن نظراته أشياء أخرى كثيرة، وقد قيل: "ما لا يدرك كله، لا يترك جله".
ثانيًا: أحسن التركيز والإصغاء لتضمن فهم مراد السائل:
لقد حدث بالفعل أن جاء أحد العاملين على جباية الأموال فقال: إن صاحب أحد الشركات أثناء تقييمي لنشاطاته لتقدير المبلغ المستحق عليه، طلب مني القيام له بعمل مستقل مقابل أجر معلوم، ثم سأل: فهل علي من حرج، علمًا بأنه لا يؤثر بأي صورة على تقديري للمستحق عليه تجاه الدولة؟ وعندها تسرع إمام المسجد ولم يستفهم من السائل وأجابه: ما دام العمل الذي طلبه منه منفصلًا، وما دام لن يؤثر في تقديرك للمبالغ المستحقة عليه للدولة، فلا حرج عليك، فأنت تأخذ أجرًا في مقابل عمل منفصل.
وانصرف السائل سعيدًا داعيًا وشاكرًا، وبعد حين أدرك ذلك الخطيب فداحة ما أفتى به، فسُقِط في يده([6]) وطالت حسراته؛ فقد تذكر حديث ابن اللتبية؛ ذلك العامل الذي استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جمع الصدقة فجاء فقال: يا رسول الله، هذا لكم وهذا أهدي لي، فقال له: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك، فنظرت أيهدى لك أم لا؟"([7]).
فلو جلس ذلك السائل في بيته أكان صاحب تلك الشركة يأتيه فيعرض عليه عملًا!... وكيف يعمل عنده ويتقاضى منه أجرًا ثم لا يؤثر ذلك على تقديره للمبالغ المطلوبة من الشركة!!... فوالله إني لأعرف ذلك الخطيب الذي يكاد يتمزق قلبه منذ سنوات طويلة كلما تذكر تلك الواقعة! وتلك عاقبة التسرع وعدم الفهم عن السائل وتدبر كلامه الذي يتفنن فيه لاستخراج تلك الفتوى من خطيب المسجد...
وربما يأتيك من يسألك في مسألة من مسائل الميراث أو الطلاق وهو في أسلوب عرضه لسؤاله وفي جميع كلماته يريد أن ينتزع منك كلمة يستحل بها المال أو الفرج! فانتبه وتحِفَّظ واحتط لنفسك أن يكون له حلوها وعليك مُرُّها، واسأله أكثر مما يسألك حتى تستبين مراده ومقصده.
وقد سئل ابن باز -رحمه الله-: "ما رأي سماحتكم فيمن يقوم بالفتوى في أمر لا يملك التصور الكافي عنه؟" فأجاب: "ما يجوز هذا، هذا لا يجوز، المفتي يجب عليه أن يتصور السؤال ويعرف ما يترتب على السؤال... ولا مانع من أن يعيد السؤال، ويقول للسائل: أعد، حتى يتحقق ما أراده السائل، وحتى يفهم مراد السائل، ولا يعجل في الفتوى حتى يطمئن إلى أنه فهم السؤال، ثم يفتي بعد ذلك"([8]).
أقول: أخي الخطيب، حتى لو فهمت السؤال من أول كلمات السائل فلا تقاطعه واتركه يتم سؤاله، لسببين، أولًا: لعله يأتي في آخر كلامه بما يغير مجرى الإجابة، وثانيًا: تأدبًا، كما كان يصنع سفيان الثوري الذي يقول: "إن الرجل ليحدثني بالحديث قد سمعته أنا قبل أن تلده أمه فيحملني حسن الأدب أن أسمعه منه"([9]).
([1]) البخاري (1584)، ومسلم (1333).
([2]) الترمذي (1450)، والدارمي (2534)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي).
([3]) إعلام الموقعين، لابن القيم (3/66) ط: دار الكتب العلمية - ييروت.
([4]) الفروق، للقرافي (1/177).
([5]) ابن أبي شيبة في مصنفه (27753)، ينظر: تفسير القرطبي (5/333) ط: دار الكتب المصرية - القاهرة.
([6]) سُقط في يده: ندم وشعر بخطئه، ومنه قوله -تعالى-: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا)[الأعراف: 149].
([7]) البخاري (6636)، ومسلم (1832).
([8]) نقلًا عن الموقع الرسمي لفضيلته.
([9]) تاريخ دمشق، لابن عساكر (5/66) ط: دار الفكر للطباعة.
التعليقات