عناصر الخطبة
1/ الحث على الدعوة إلى الله 2/ المقصود بكونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون 3/ أهمية اتصاف الداعية بالأخلاق الحسنة 4/ منزلة السلامة وأهميته وفضله 5/ أحكام السلام وآدابهاهداف الخطبة
اقتباس
سؤال طرحه بعضهم على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عندما قال: "كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون"، فقالوا: وكيف ذاك؟ قال: بأخلاقكم"، وصدق رحمة الله عليه؛ لأنّ التحلّي بالأخلاق الحميدة، والآداب الرّشيدة من أعظم الطّرق للدّعوة إلى الله، وممّا يجعل الضالّ يقبل عائدا إلى مولاه، ويؤكّد ذلك...
الخطبة الأولى:
بعد الحمد والثّناء.
أمّا بعد:
فإنّ موضوع خطبتنا اليوم -إن شاء الله تعالى- هو: "كونوا دُعاةً إلى الله وأنتم صامتون".
نعم -معاشر المؤمنين- كونوا دعاةً؛ لأنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَو آيَةً" قال العلماء: "بلِّغوا" تكليف، و "عنِّي" تشريف، و "لو آية" تخفيف.
"وأنتم صامتون" فإذا عجز المسلم عن الكلام، والأمر بالخير والنّهي عن المعاصي والآثام، فعليه أن يكون داعيةً إلى الله وهو صامت ساكت، أي دون أمر ولا نهي، وهذا يستطيعه كلّ أحد، فكيف ذلك؟
سؤال طرحه بعضهم على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عندما قال: "كونوا دعاة إلى الله وأنتم صامتون"، فقالوا: وكيف ذاك؟ قال: "بأخلاقكم"، وصدق رحمة الله عليه؛ لأنّ التحلّي بالأخلاق الحميدة، والآداب الرّشيدة من أعظم الطّرق للدّعوة إلى الله، وممّا يجعل الضالّ يقبل عائدا إلى مولاه، ويؤكّد ذلك أمران:
أوّلا: أنّ الأخلاق الحسنة من أعظم ما يدفع الشّبهة عن الدّين، فكثير من النّاس أعرض عن ربّه بسبب جفاء أهل الحقّ عليه، وعدم الالتفات إليه، وقد علّمنا المولى أن ندعُوَه متضرّعين: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الممتحنة: 5]، فهذه الآية تحتمل الدّعاء بأن لا يُسلّط الله على المؤمنين من يعذّبهم ويفتنهم، وتحتمل الدّعاء بأن لا يجعل الله المؤمنين فتنة تصدّ الكافرين عن الدّين، فإذا كان هذا واجبنا مع الكافرين، فكيف مع المسلمين؟! لذلك خاطب الله نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم- الذي وصفه بأحسن الصّفات، وهو ينبّهه قائلا: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
ثانيا: قف عند الحديث الّذي رواه أبو داود عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضيَ الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ"، واسأل نفسك هذا السّؤال: وهل القرآن الّذي هو كلام الله قبيح حتّى يحتاج إلى تزيين؟
الجواب: لا، ولكنّ الله يأمر دوما بالأحسن، والأحسن هو تحسينه بالصّوت حتّى يكون أعظم أثرا في النّفوس والقلوب، فإذا كان هذا هو حال كلام الله -تعالى-، فكيف بحال كلامنا ودعوتنا، وأمرنا ونهينا؟!
وإنّ من آداب الإسلام، والأخلاق العِظام، الّتي لا يحلّ التّفريط فيها، ولا إغفالها، ولا نسيانها أو إقفالها: إفشاء السّلام.
ولنا في ذلك نقطتان اثنتان: الأولى: تعظيم أمر السّلام، والثّانية: ذكر بعض أحكام السّلام.
النّقطة الأولى: تعظيم أمر السّلام، فاعلم -أخي المسلم- أنّ السّلام اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى-، بدليل قوله تعالى في أواخر الحشر: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الحشر: 23]، وبدليل ما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- فِي الصَّلَاةِ، قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لَا تَقُولُوا السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ! فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو"، وروى مسلم عَنْ ثَوْبَانَ -رَضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ".
ومعنى: السّلام، قال الخطّابي في "شأن الدّعاء"، ص: 41": "هو الذي سلم من كلّ عيب، وبرئ من كلّ آفة ونقص يلحق المخلوقين، وقيل: سلم الخلق من ظلمه ".
واشتُقّت تحيّة المسلمين من اسمه المبارك، بدليل ما رواه الطّبراني في "الكبير" (10/182) عن عبد الله بْنِ مَسْعُودٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِنَّ السَّلاَمَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ وَضَعَهُ فِي الأَرْضِ، فَأَفْشُوهُ فِيكُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى القَوْمِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلُ دَرَجَةٍ، لأَنَّهُ ذَكَّرَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ"، فجعل الله اسمَهُ السّلام هو التحيّة الّتي تُفشى في الدّنيا والآخرة لمؤمني عباده، إذا تلاقوا ودعا بعضهم لبعض بأجمعِ الدّعاء أن يقولوا: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فعلّمها الله آدم؛ فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي َالله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ثُمَّ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ".
وأرشد الله إليها في جميع المواطن، قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام: 54]، (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود: 69].
بل إنّه تعالى جعلها تحيّة يُدفع بها جهل الجاهلين، قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55]، (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) [مريم: 47]، (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزّخرف: 89]، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الفرقان: 63].
وجعلها تحيّة الملائكة للمؤمنين عند الموت: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32].
وجعلها تحيّة الملائكة لأهل الجنّة: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرّعد: 24].
وجعلها الله تحيّة أهل الجنّة فيما بينهم، قال الله -عزّ وجلّ-: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) [إبراهيم: 23]، وفيما بينهم وبين الخالق: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يـس: 58]، (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) [الأحزاب: 44].
لذلك سمّاها الله: دار السّلام، فقال: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس: 25].
فلا ينبغي للمسلمين أن يستبدلوا الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، فيتركوا تحيّة الإسلام إلى غيرها من أنواع التحيّة الأعجميّة، أو التحيّة السّوقيّة، فإنّ هذا من تثبيط الشّيطان عن الحقّ، وتلبيسه على الخلق.
النّقطة الأولى: بعض أحكام وآداب السّلام.
الحكم الأوّل: "حكم إلقاء السّلام" أجمع العلماء على أنّ الابتداء بالسّلام سنّة مرغّب فيها، وإفشاؤها أكثر أجرا، وهو نشرها، والإكثار منها، وفيه جاءت الأحاديث الكثيرة، منها: روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ!"، وفي سنن التّرمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ -رضي َالله عنه- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- الْمَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-! قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-! قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-! فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ"، وروى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضي الله عنه- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ -صلّى الله عليه وسلّم-: أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ".
بل جعل الاقتصار في السّلام على من يعرف من أشراط السّاعة المذمومة، ففي معجم الطّبراني عن علقمة قال: لقيَ عبدَ الله بنَ مسعودٍ أعرابيٌّ، ونحن معه، فقال: السّلام عليك يا أبا عبد الرّحمن! فضحك، فقال: صدق الله ورسوله، سمعت رسول الله يقول: "لاّ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ السَّلاَمُ عَلَى المَعْرِفَةِ"، وإنّ هذا عرفني من بينكم فسلّم عليّ.
وتأمّل حرص الصّحابة على السّلام، فقد روى مالك أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضي الله عنه- فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ، قَالَ: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَاطٍ -وهو صاحب المتاع الرّديء-، وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ، وَلَا مِسْكِينٍ، وَلَا أَحَدٍ، إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، قَالَ الطُّفَيْلُ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا، فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيِّعِ وَلَا تَسْأَلُ عَنْ السِّلَعِ وَلَا تَسُومُ بِهَا وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ قَالَ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رَضي الله عنه-: "يَا أَبَا بَطْنٍ! -وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ- إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا".
وتأمّل هذا المشهد للصّدّيق الأكبر أبو بكر -رضي َالله عنه-، فقد روى الطّبراني عن الأغرّ أغر مزينة قال: وعدني أبو بكر المسجد إذا صلّينا الصّبح، فوجدته حيث وعدني فانطلقنا، فكلّما رأى أبا بكر -رَضي الله عنه- رجلا من بعيد سلّم عليه، ويقول: "أما ترى ما يصبّ القومُ عليك من الفضل، لا يسبقْك إلى السّلام أحد، فكنّا إذا طلع الرّجل بادرناه بالسّلام قبل أن يسلّم علينا " [قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"]، وقال عمر -رضي َالله عنه-: "ثلاث يصفّين لك ودّ أخيك: أن تسلّم عليه إذا لقيته، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحبّ أسمائه إليه".
بل بالغ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في تعظيم أمر السّلام حتّى شرع لنا ابتداء السّلام عند الإقبال والانصراف، وفي ذلك روى أبو داود والتّرمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتْ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنْ الْآخِرَةِ"، وفي سنن أبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أَيْضًا".
الحكم الثّاني: حكم ردّ السّلام، أمّا ردّه ففرض، والدّليل على أنّ الردّ فرض قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) [النساء: 86]، وما رواه البخاري ومسلم عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي َالله عنه- قَالَ: "أَمَرَنَا النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- بِسَبْعٍ: أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ"، وروى البخاري ومسلم أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي َالله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ"، وروى البخاري ومسلم أيضا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي َالله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ!" فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا؟ قَالَ: "فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا!" قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: "غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ".
فإذا كان الردّ فرضا، فهل هو فرض كفاية أو عين؟ اختلف العلماء في ذلك والصّواب: أنّه فرض كفاية.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظّالمين.
أمّا بعد:
فالحكم الثّالث من أحكام السّلام: صيغة السّلام وردّها.
أمّا صيغة الردّ، فقد ثبت فيها طريقتان: الأولى: المماثلة، وهذا جانب العدل، وقد أباحه الله -تعالى-: (أَوْ رُدُّوهَا) [النساء: 86].
الثّانية: المفاضلة، وهو جانب الفضل، ولا ريب أنّ الفضل أولى؛ لذلك بدأ الله به في الآية، (فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا) [النساء: 86]، ثمّ قال: (أَوْ رُدُّوهَا)، وجاء في سنن أبي داود والتّرمذي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ! فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "عَشْرٌ" ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ! فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: عِشْرُونَ! ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ! فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: ثَلَاثُونَ"، وروى أبو داود عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ -رَضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- بِمَعْنَاهُ، زَادَ ثُمَّ أَتَى آخَرُ فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ" فَقَالَ: أَرْبَعُونَ".
ويُكره تقديم الجار والمجرور في الإلقاء، فقد روى التّرمذي وأبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: "طَلَبْتُ النَّبِيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَجَلَسْتُ، فَإِذَا نَفَرٌ هُوَ فِيهِمْ وَلَا أَعْرِفُهُ وَهُوَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَامَ مَعَهُ بَعْضُهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، -ثَلَاثًا- ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: "إِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَلْيَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ" ثُمَّ رَدَّ عَلَيَّ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ".
الحكم الرّابع: ردّ السّلام على الغائب، فإذا بلغك سلام من شخص، يجب أيضا ردّه لعموم قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم) [النساء: 86]، ولك فيها وجهان:
الأوّل: أن لا تجمع بين المسلّم والنّاقل، كما في صحيح البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ! هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ" فَقَالَتْ: "وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ تَرَى مَا لَا أَرَى".
الثّاني: أن تجمع بين المبلّغ والنّاقل، كما في جاء في سنن أبي داود ومسند أحمد بسند ضعيف عَنْ غَالِبٍ قَالَ: "إِنَّا لَجُلُوسٌ بِبَابِ الْحَسَنِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ بَعَثَنِي أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- فَقَالَ: ائْتِهِ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّ أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلَامَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ".
الحكم الخامس: ردّ السّلام في الصّلاة، اتّفق الأئمّة الأربعة على أنّ ردّ السّلام بالقول محرّم في الصّلاة، مبطلٌ لها، ولكنّ السنّة أن تردّ عليه بالإشارة، وهل هو مستحبّ أو واجب؟ فيرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه يستحبّ الرّدّ بالإشارة، والرّاجح عند المالكيّة: أنّ الرّدّ بالإشارة واجبٌ، والأدلّة:
أ- ما رواه مسلم عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- بَعَثَنِي لِحَاجَةٍ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيَّ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي، فَقَالَ: "إِنَّكَ سَلَّمْتَ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي"، قال: وَهُوَ مُوَجِّهٌ حِينَئِذٍ قِبَلَ الْمَشْرِقِ".
ب- وروى التّرمذي عَنْ صُهَيْبٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: "مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- وَهُوَ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ إِلَيَّ إِشَارَةً، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ إِشَارَةً بِإِصْبَعِهِ".
ولنا هنا وقفتان:
1- طرق الإشارة: هناك الردّ بالإصبع، والإشارة باليد، والإشارة بالرّأس.
أمّا الإشارة بالإصبع فهو ما دلّ عليه حديث صهيب -رضي َالله عنه-.
أمّا الإشارة باليد فكيفيه ذلك أن يجعل بطن كفّه إلى الأرض، فقد جاء في صحيح مسلم أنّه قال: "وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْضِ"، وروى أهل السّنن الأربعة عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- إِلَى قُبَاءَ يُصَلِّي فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَارُ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، قَالَ: فَقُلْتُ لِبِلَالٍ كَيْفَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: "يَقُولُ هَكَذَا" -وَبَسَطَ كَفَّهُ وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى فَوْقٍ-".
أمّا الإيماء بالرّأس، فقد روى للبيهقيّ -رحمه الله- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي َالله عنه- قَالَ: "لَمَّا قَدِمْتُ مِنَ الحَبَشَةِ أَتَيْتُ النَبِيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ".
الوقفة الثّانية: الأصل أنّ الإشارة باليد والرّأس تكره، لما رواه التّرمذي وغيره عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ -رضي َالله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا! لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى! فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ"، وروى علقمة عن عطاء بن أبي رباحٍ قال: "كانوا يكرهون التّسليم باليد" يعني الصّحابة. قال العلماء: "لا تحصل سنّة ابتداء السّلام بالإشارة باليد أو الرّأس للنّاطق، ولا يسقط فرض الرّدّ عنه بها"؛ لأنّ السّلام من الأمور الّتي جعل لها الشّارع صيغاً مخصوصةً، لا يقوم مقامها غيرها، إلاّ عند تعذّر صيغتها الشّرعيّة، ولكن يجوز ذلك بلا كراهة في حالات ثلاث:
الأولى: في الصّلاة -كما سبق-.
الثّانية: فقد اتّفق الفقهاء على استحباب الإشارة إلى الحجر الأسود عند تعذّر الاستلام؛ لحديث البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي َالله عنه- قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ.
الثّالثة: الأصمّ ومن في حكمه، وهو غير المقدور على إسماعه كالبعيد، فالإشارة مشروعةٌ في حقّه، وقال بعض الفقهاء: "إذا سلّم على أصمّ لا يسمع ينبغي أن يتلفّظ بالسّلام، لقدرته عليه، ويشير باليد، ويسقط فرض الرّدّ من الأخرس بالإشارة، لأنّه مقدوره، ويردّ عليه بالإشارة والتّلفّظ معاً"، ومنه ما رواه البخاري في الأدب المفرد والتّرمذي بإسناد حسن عن أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنْ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ"، ورواية البخاري وأبي داود ذكرت: "فسلّم عليهنّ".
الحكم السّادس: تأكيد إلقاء السّلام عند دخول البيت، قال تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [النّور: 61]، وروى التّرمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي َالله عنه- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ"، وروى أبو داود عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رضي َالله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ كُلُّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ، حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"، قال الخطّابي -رحمه الله-: "يحتمل وجهين: أحدهما: أن يسلّم إذا دخل منزله كقوله تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ) [النور: 61] الآية، والوجه الآخر: "أن يكون أراد بدخول بيته بسلام، لزومَ البيت من الفتن، يرغّب بذلك في العزلة، ويأمر في الإقلال من المخالطة".
الحكم السّابع: بدء غير المسلمين بالسّلام، لا يجوز بدء غير المسلمين بسلام اتّفاقا، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضيَ الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ"؛ لأنّ الابتداء به إعزازٌ للمسلم، ولا يجوز إعزازهم.
فإذا اضطُرّ إلى ذلك المسلم أو أراد أن يُلقِي السّلام، فعليه بالكناية، فيقول: "السّلام على من اتّبع الهدى"، بدليل ما رواه البخاري ومسلم في الحديث الطّويل عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ: "مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى".
الحكم الثّامن: ردّ السّلام على غير المسلمين، روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ"، وروى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي َالله عنه- قَالَ: "مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "وَعَلَيْكَ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ!" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ: "لَا إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ"، وفي ذلك نزل قول الله -تعالى-: (وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) [المجادلة: 8].
وذهب بعض أهل العلم أنّه إذا تبيّن للمسلم أنّه قال: "السّلام عليكم"، فجائز ردّ السّلام فقط، امتثالا للآية من جهة: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النّساء: 86]، وهذا حكاه الحافظ ابن حجر عن بعض السّلف، وحكاه القرطبي عن طاووس، وهو الصّحيح.
الحكم التّاسع: مراعاة الأحوال في السّلام، فيسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصّغير على الكبير، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي َالله عنه- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ"، زاد في رواية: "والصَّغِيرُ عَلَى الكَبِيرِ"، وفي رواية التّرمذي وغيره: "المَاشِي عَلَى القَائِمِ"، قال شارح السّنن: "المراد بالقائم المستقرّ في مكانه، سواء كان قائما، أو قاعدا، أو مضطجعا"، قال الحافظ في "الفتح": "قد تكلّم العلماء على الحكمة فيمن شُرِعَ لهم الابتداء، فقال ابن بطّال عن المهلّب: تسليم الصّغير لأجل حقّ الكبير؛ لأنّه أُمِر بتوقيره والتّواضع له، وتسليم القليل لأجل حقّ الكثير لأنّ حقّهم أعظم، وتسليم المارّ شبّهه بالدّاخل على أهل المنزل، وتسليم الرّاكب لئلا يتكبّر بركوبه فيرجع إلى التواضع.
الحكم العاشر: من السّنن المهجورة: التّسليم على الصّغار، روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضي الله عنه-: أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- يَفْعَلُهُ"، وفي صحيح مسلم عَنْ سَيَّارٍ بْنِ أَبِي سَيَّارٍ قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَحَدَّثَ ثَابِتٌ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ أَنَسٍ -رَضي الله عنه- فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَحَدَّثَ أَنَسٌ -رضي َالله عنه- أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ".
خاتمة: وفيها تنبيهان:
الأوّل: وعن أبي هريرة -رضي َالله عنه- قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ فِي الدُّعَاءِ، وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلاَمِ" [رواه الطبراني في "الأوسط"، وقال المنذري في الترغيب: "إسناده جيّد قوي"].
الثّاني: وأخيراً فلا تنس كثرة السلام على نبيك الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- ما تعاقب الليل والنهار؛ فعن أبي هريرة -رَضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلاَّ رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي، حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ" [رواه أبو داود واللفظ له، وأحمد في المسند وقال الألباني: "حديث حسن"].
التعليقات