عناصر الخطبة
1/ انقضاء رمضان 2/ الإعراض عن الطاعات بعد رمضان 3/ المحافظة على الصلاة 4/ المحافظة على قيام الليل 5/ صيام النوافل 6/ قراءة القرآن 7/ ذكر الله شفاء من الأسقام 8/ الإحسان إلى الناس 9/ التوبة 10/ أحب العمل إلى الله أدومه
اهداف الخطبة

اقتباس

عَرَفتُم فَالزَمُوا، وَبَدَأتُم فَاستَمِرُّوا، وَوُفِّقتُم فلا تَنكُصُوا، ذُقتُم حلاوةَ الإيمانِ وعرفتُم طَعمَه، صُمتُم وقُمتُم وصَلَّيتُم، وتَصَدَّقتُم وَفَطَّرتُم وَزَكَّيتُم، فَالزَمُوا هذا الطريقَ المُنيرَ، واستَمِرُّوا على هذا الصراطِ المستقيمِ، قال -صلى اللهُ عليه وسلم-: "يا أيها الناسُ: عليكم مِنَ الأعمالِ ما تُطيقون؛ فإن اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأعمالِ إلى اللهِ ما دُووِمَ عليه وَإِنْ قَلَّ".

 

 

 

 

أيها المسلمون: ها هو رمضانُ قد انتهى وانقضى، فَمَن كان من عُبَّادِ رمضانَ فإن رمضانَ قد مضى وفات، ومن كان يعبدُ اللهَ فإن اللهَ حَيٌّ لا يموتُ، انتهى شهرُ الصيامِ والقيامِ والقرآنِ، انقضى شهرُ البِرِّ والجودِ والإِحسانِ، رَبِحَ فيه مَن ربح، وخَسِرَ فيه من خسر، فيا ليت شِعري مَنِ المقبولُ منا فيه فنُهنِّيه، ومَنِ المطرودُ المحرومُ منا فنُعزِّيه. 

يَا عينُ جُودِي بِصَافي الدَّمعِ مِن أَسَفٍ *** على فِـراقِ لَيَـالٍ ذَاتِ أَنـوَارِ
على ليالٍ لِشهرِ الصـومِ مَا جُعِلَـت *** إلا لِتَمـحِـيـصِ آثـامٍ وَأَوزَارِ
مَا كَان أَحسَنَنَـا والشَّمـلُ مُجتَمِـعٌ *** مِنَّا المُصلِّي ومِنَّا القَانِتُ القَـارِي
فَابكُوا على ما مضى في الشَّهرِ وَاغتَنِمُوا *** يَا قومُ مَا قَد بَقِي مِن فَضلِ أَعمَارِ

أيها المسلمون: مما لا ريبَ فيه أن اللهَ -جل وعلا- قد فَضَّلَ شهرَ رمضانَ على سائرِ الأزمانِ والشهورِ، وضاعف فيه الحسناتِ والأجورَ، واختصه بكثيرٍ من رحماتِهِ وبركاتِهِ، وَيَسَّرَ فيه الطاعةَ لِعِبادِهِ، إِذْ غَلَّقَ أبوابَ الجحيمِ وفتَّحَ أبوابَ النَّعِيمِ، وَغَلَّ مَرَدَةَ الجِنِّ والشياطينِ، فلا عجبَ أن تنشطَ فيه النُّفُوسُ وتَسموَ إلى الطاعةِ، وتقبلَ على خالقِها وترجعَ إلى مولاها، وتخِفَّ إلى كثيرٍ مِنَ الأعمالِ الصالحةِ والطاعاتِ.

ولكن مما يُحزِنُ القَلبَ ويُؤلمُ النفسَ أنك ترى كثيرًا ممن صاموا وصلوا وقاموا في رمضانَ، وزكوا وتصدقوا واجتهدوا في ذلك الموسمِ العظيمِ، تراهم يُعرِضُون عن تلك الطاعاتِ بَعدَ رمضانَ، يَهجُرُون المساجدَ بَعدَ اعتيادِها، وتَقِلُّ أَعدَادُهُم في الجماعةِ بَعدَ كَثرَتِها، ويتركون الصلاةَ بَعدَ المحافظةِ عليها، ويَبخلون بَعدَ عطاءٍ وإِنفاقٍ، ويُسيئُون بَعدَ إِحسانٍ، ويَرجِعُون إلى المعاصي بَعدَ التوبةِ منها، وينقضون في يومٍ ما فتلوه في شهرٍ، وكأنهم في رمضانَ يَعبدون رَبًّا آخرَ، أو كأن اللهَ لا يُعرفُ إلا في رمضانَ، أو كأنهم قدِ استغنوا عن ربِّهِم وخالقِهم بَعدَ رمضانَ.

أيها المسلمون: إنه وإِنِ انتهى رمضانُ وانقضى، فإنَّ زمانَ المُسلمِ كُلَّه رمضانُ، وله ثوابتُ لا يحيدُ عنها وأصولٌ لا يَترُكُها، الصلاةُ والصيامُ والقرآنُ، البِرُّ والصدقةُ والإِحسانُ، الذِّكرُ والاستغفارُ والتوبةُ، كُلُّها طاعاتٌ ثابتةٌ وأنهارٌ جاريةٌ، يجبُ أن لا تتوقفَ ولا تنقطعَ.

أَمَّا الصلاةُ فهي الركنُ الثاني مِن أركانِ هذا الدينِ، واللهُ قد أمر بالمحافظةِ عليها في كُلِّ وقتٍ وحِينٍ، قال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، وقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77]، وحَذَّرَ سبحانَه أَشَدَّ التحذيرِ مِن تَضييعِها ومِن تركِها، فقال -جل وعلا-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم: 169]، وقال -جل وعلا-: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر: 38-43].

فيا مَن أعانه اللهُ في رمضانَ على المحافظةِ على الصلاةِ: لا تُضِعِ الصلاةَ؛ فإن الصلاةَ صِلةٌ لك بِاللهِ، وَمَعِينٌ يغسِلُك مِنَ المعاصي ويُطَهِّرُك من الذنوبِ، في الصحيحين من حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- أن النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "مَن غدا إلى المسجدِ أو راح، أَعَدَّ اللهُ له نُزلاً في الجنةِ كُلَّمَا غَدَا أو راح".

وفي صحيحِ البخاريِّ عن أبي هريرةَ أنه سمع رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- يقولُ: "أرأيتم لو أن نهرًا بِبَابِ أَحَدِكُم يَغتَسِلُ فيه كُلَّ يومٍ خمسًا ما تقولون؟! هل ذلك يُبقِي من دَرَنِهِ؟!"، قالوا: لا يُبقِي من دَرَنِهِ شيئًا. قال: "فذلك مَثَلُ الصلواتِ الخمسِ يمحو اللهُ بها الخطايا".

وفي صحيحِ مُسلمٍ من حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- أن النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "ألا أَدُلُّكُم على ما يمحو اللهُ به الخطايا ويرفعُ به الدرجاتِ؟"، قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ. قال: "إِسباغُ الوُضُوءِ على المَكَارِهِ، وكثرةُ الخُطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بَعدَ الصلاةِ، فذلكم الرِّبَاطُ، فذلكم الرِّبَاطُ، فذلكم الرِّبَاطُ".

وقدِ افترض اللهُ على المؤمنين الصلاةَ وتَعَبَّدَهُم بها في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، حتى يلقوه فَيَسأَلَهُم أَوَّلَ ما يَسأَلُهُم عنها؛ عن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- أن النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "إن أَوَّلَ ما يُحاسَبُ بِهِ العبدُ يَومَ القيامةِ مِن عَملِهِ صلاتُهُ، فَإِنْ صَلَحَت فقد أفلح وأنجح، وإِنْ فسدت فقد خاب وخسر".

ومن الثوابتِ الإيمانيةِ قيامُ الليلِ؛ ففي رمضانَ صلاةُ التراويحِ والقيامِ، لكنَّ ذلك ليس خاصًّا برمضانَ، بل هو طُوالَ العامِ، قال -صلى اللهُ عليه وسلم-: "عليكم بِقيامِ الليلِ؛ فإنه دَأَبُ الصالحين قَبلَكم، وقُربةٌ إلى اللهِ تعالى، ومَنْهَاةٌ عنِ الإِثمِ، وتكفيرٌ للسيئاتِ".

فاعمل -أخي المسلمَ- على أن تُكتَبَ مِنَ القائمين الليلَ ولو بِركعةٍ واحدةٍ، اعمل على أن تكونَ ممَّن قال اللهُ فيهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [السجدة: 16].

وَأَمَّا الصيامُ فهو وإن كان في رمضانَ وَاجِبًا، إلا أن صيامَ التطوُّعِ مَشروعٌ طُوالَ العامِ، فهُناكَ سِتَّةُ أيَّامٍ مِن شَوَّالٍ، يَقولُ فيها النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "مَن صام رمضانَ وأتبعه بِستٍّ مِن شَوَّالٍ، كان كَمَن صامَ الدَّهرَ".

وهناك يَومُ عَرَفَةَ ويَومُ عاشوراءَ، ويومُ الاثنينِ ويومُ الخميسِ، وثلاثةُ أيامٍ مِن كُلِّ شهرٍ؛ قال -صلى اللهُ عليه وسلم- في يومِ عرفةَ: "أحتسبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السنةَ الماضيةَ والآتيةَ"، وقال في يومِ عاشوراءَ: "أحتسبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السنةَ الماضيةَ"، وقال أبو هريرةَ -رضي اللهُ عنه-: "أوصاني خليلي بثلاثٍ: أن أصومَ مِن كُلِّ شهرٍ ثَلاثةَ أيَّامٍ، وأن أُصَلِّيَ ركعتي الضُّحى، وأن أوترَ قَبلَ أن أنامَ". ويقولُ -صلى اللهُ عليه وسلم- في يومِ الاثنينِ: "ذاك يومٌ وُلِدتُ فيه، ويومٌ بُعِثتُ فيه، ويومٌ أُنزِل عليَّ فيه"، وتقولُ عائشةُ -رضي اللهُ عنها-: "كان رسولُ اللهِ يَتَحَرَّى صيامَ الخميسِ والاثنينِ".

وقد أخبر -صلى اللهُ عليه وسلم- أنَّ الأعمالَ تُعرَضُ على اللهِ في ذَينكَ اليومينِ وقال: "أُحِبُّ أن يُعرَضَ عملي على ربِّي وأنا صائمٌ"، وكان -صلى اللهُ عليه وسلم- يُكثِرُ أَنْ يَصومَ في شَعبَانَ ما لا يَصومُ في بَقيَّةِ الشهورِ؛ لأنَّ الناسَ يَغفلون عنه قَبلَ رمضانَ، وأخبر أنَّ أفضلَ الصيامِ بَعدَ رَمضانَ شهرُ اللهِ المحرَّمُ، وحثًّ على صيامِ داودَ -عليه السلامُ- بِصومِ يَومٍ وإِفطارِ يَومٍ.

وَأَمَّا القرآنُ فهو حياةُ القلوبِ والأرواحِ والأبدانِ، حياةُ النفوسِ والصدورِ، هو شرابُ النفوسِ وطعامُها، وهو دواءُ الأرواحِ وقِوامُها، فهل يستغني مؤمنٌ عن رُوحِهِ؟! هل يستغني مؤمنٌ عن أصلِ حياتِهِ؟! (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9].

إنه حبلٌ متينٌ، طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَطَرَفُهُ بِأيديكم، فمن تمسَّكَ بهذا الحبلِ المتينِ فَلَن يَضِلَّ وَلَن يَهلِكَ أبدًا، يَقولُ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآنَ، فإنه يأتي يَومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِهِ، اقرؤوا الزَّهرَاوَينِ: البقرةَ وآلَ عمرانَ؛ فإنهما تأتيانِ يَومَ القِيامةِ كأنهما غمامتانِ أو غيايتانِ، أو كأنهما فِرقانِ مِن طَيرٍ صَوَافَّ تحاجان عن صاحبِهما"، ويقولُ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "اقرؤوا سورةَ البقرةِ؛ فَإِنَّ أَخذَهَا بَرَكَةٌ، وتركَها حَسرَةٌ، ولا تَستطيعُها البَطَلَةُ"، ويقولُ: "لا حَسَدَ إلا في اثنتينِ: رجلٍ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يتلوه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، ورجلٍ أعطاه اللهُ مالاً فهو يُنفِقُهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ". أَيْ في سائرِ العامِ.

فلا تهجروا القرآنَ -يا أُمَّةَ القرآنِ- بَعدَ رمضانَ، واجعلوا لأنفسِكم منه وِردًا يَوميًا وحافظوا على قراءتِهِ.

وَأَمَّا ذِكرُ اللهِ فهو شِفاءٌ مِنَ الأسقامِ، وَمَرضَاةٌ للرحمنِ وَمَطرَدَةٌ للشيطانِ، فَمَا أَطيَبَ لِسانًا رُطِّبَ بِهِ دَومًا! وما أَشَدَّ بَرَكَةً وقتٍ قُضِيَ فيه! يَقولُ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "ألا أُخبِرُكُم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عِندَ مليكِكُم، وأرفعِها لدرجاتِكُم، وخيرٍ لكم مِن إِنفاقِ الذهبِ والفِضَّةِ، وخيرٍ لكم مِن أَنْ تلقوا عَدُوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟!"، قالوا : بلى يا رسولَ اللهِ. قال: "ذِكرُ اللهِ -عز وجل-". وفي الصحيحين أنه -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "قال اللهُ -جل وعلا-: أنا عِندَ ظَنِّ عبدي بي، وأنا مَعَه حِينَ يذكُرُني، فإذا ذكرني في نفسِهِ ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ، ذكرتُهُ في ملأٍ خيرٍ منه، وإَنْ تَقَرَّبَ إلىَّ شِبرًا تَقَرَّبتُ إليه ذِراعًا، وإِن تَقَرَّبَ إليَّ ذراعًا تَقَرَّبتُ إليه باعًا، وإذا أتاني يمشى، أتيتُهُ هَروَلَةً".

ويكفى أن نَعلَمَ أن الذي يذكرُ رَبَّهُ حَيٌّ والذي لا يَذكُرُهُ مَيِّتٌ، وأن الذكرَ حِرزٌ مِنَ الشيطانِ وحِصنٌ منه حَصينٌ، قال -عليه السلامُ-: "…وَآمُرُكُم أَنْ تَذكُرُوا اللهَ، فَإِنَّ مَثَلَ ذلك كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ في أَثَرِهِ سِرَاعًا، حتى إذا أتى على حِصنٍ حَصينٍ أَحرَزَ نَفسَه منهم، وكذلك العبدُ لا يُحْرِزُ نَفسَهُ مِنَ الشيطانِ إلا بِذِكرِ اللهِ".

ومِنَ الثوابتِ الإيمانيةِ في رمضانَ وفي غيرِهِ الإحسانُ إلى الناسِ؛ فإنك ترى كثيرًا من الناسِ لا تظهرُ عليهم علاماتُ الجُودِ والكرمِ إلا في رمضانَ فقط، فإذا ما انتهى رمضانُ فلا تجدُ منهم إلا العُبُوسَ في وُجُوهِ الفُقَرَاءِ، لا ترى منهم إلا البخلَ والشُّحَّ، فَيَا مَن مَنَّ اللهُ عليك بالإِنفاقِ على الفقراءِ والمساكينِ، وتقلبتَ في كثيرٍ مِن أَوجُهِ الخيرِ في رمضانَ: هَلاَّ عَوَّدتَ نَفسَكَ على الإنفاقِ حتى ولو بالقليلِ في سائرِ الشهورِ؟! ألا تجعلُ لنفسِك وِقايةً مِنَ النارِ بما تجودُ به؟!

في الصحيحين أنه -صلى اللهُ عليه وسلم- قال: "ما منكم مِن أحدٍ إلا وَسَيُكلِّمُهُ رَبُّهُ، ليس بَينَه وبَينَه تُرجمانٌ، فَيَنظرُ أَيمَنَ منه فلا يَرَى إلا ما قَدَّمَ، ويَنظُرُ أَشأَمَ منه فلا يَرَى إلا ما قَدَّمَ، وَيَنظرُ بَينَ يديه فلا يَرَى إلا النَّارَ تِلقاءَ وَجهِهِ، فاتقوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ".

ومن الثوابتِ الإيمانيةِ التوبةُ؛ فَمَا مِنَّا من أحدٍ إلا وقد تاب إلى اللهِ في رمضانَ وأناب، فهل إِذَا انتهى رمضانُ ينتهي زمنُ التوبةِ ولا نحتاجُ إليها مَرَّةً أُخرى؟! انظرْ إلى حالِ كثيرٍ مِنَ المسلمين لِتَرَى العَجَبَ، فما تَكَادُ تَغرُبُ شمسُ آخرِ يومٍ مِن رمضانَ ويُعلَنُ العِيدُ، إلا ويعودون إلى المعاصي والشهواتِ، وكأنهم كانوا في سجنٍ وحبسٍ مُقيَّدِينَ، وبمُجرَّدِ أَن أُفرِجَ عنهم انطلقوا وانكبوا على أنواعِ معاصيهم وشهواتِهِم، كَجَائِعٍ انكب على الطعامِ بَعدَ جُوعٍ شديدٍ، وما تلك بحالِ المؤمنِ، فإن المؤمنَ عُمُرُهُ كُلُّهُ عبادةٌ لِرَبِّ الأرضِ والسماواتِ، فتجدُهُ يَنتقِلُ مِن عُبُودِيَّةٍ إلى عبوديةٍ، ومن طاعةٍ إلى طاعةٍ، ومن فضلٍ إلى فضلٍ، واللهُ تعالى قد قال لِنبيِّهِ -عليه السلامُ-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، وقال له: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112].

ويقولُ -عليه السلامُ-: "يا أيها الناسُ: توبوا إلى اللهِ واستغفروه، فإني أتوبُ إليه وأَستغفرُهُ في اليومِ مِائةَ مَرَّةٍ"، فإذا كانت هذِهِ حالَ إِمامِ المرسلينَ وسَيِّدِ الخلقِ أجمعينَ فما حالُنا؟! فاتقوا اللهَ -أيها المسلمون-، وتوبوا إليه جميعًا -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت: 30-32].

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَمَّا بعدُ:

فاتقوا اللهَ تعالى حَقَّ تُقَاتِهِ، وسارعوا إلى مَغفرتِهِ ومَرضاتِهِ، واعبدوا رَبَّكم حتى يَأتيَكم اليقينُ.

أيها المسلمون: عَرَفتُم فَالزَمُوا، وَبَدَأتُم فَاستَمِرُّوا، وَوُفِّقتُم فلا تَنكُصُوا، ذُقتُم حلاوةَ الإيمانِ وعرفتُم طَعمَه، صُمتُم وقُمتُم وصَلَّيتُم، وتَصَدَّقتُم وَفَطَّرتُم وَزَكَّيتُم، فَالزَمُوا هذا الطريقَ المُنيرَ، واستَمِرُّوا على هذا الصراطِ المستقيمِ، قال -صلى اللهُ عليه وسلم-: "يا أيها الناسُ: عليكم مِنَ الأعمالِ ما تُطيقون؛ فإن اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأعمالِ إلى اللهِ ما دُووِمَ عليه وَإِنْ قَلَّ".

وفي صحيحِ مسلمٍ من حديثِ عائشةَ -رضي اللهُ عنها- قالت: "كان رسولُ اللهِ إذا عَمِلَ عمَلاً أَثبَتَه"، أَيْ دَاوَمَ عليه وحَافَظَ عليه.

وعن سفيانَ بنِ عبدِ اللهِ الثقفيِّ -رضي اللهُ عنه- أنه قال للنبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: قُلْ لي في الإسلامِ قولاً لا أَسأَلُ عنه أَحَدًا بَعدَكَ. قال الحبيبُ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "قُلْ: آمنتُ بِاللهِ، ثم استقِمْ". فهنيئًا لمن ثَبَتَ واستَقَامَ، وَاستَمَرَّ على الطاعةِ وَدَامَ، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [فصلت: 30].

ألا فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- واستعينوا باللهِ ولا تَعجِزُوا، فَإِنَّ مَن أعانه اللهُ على الطاعةِ وَرَحِمَهُ فهو المُعانُ المَرحومُ، وَمَن خَذَلَه وَحَرَمَه فهو المخذولُ المحرومُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللهِ العَلِيِّ العظيمِ.

في الحديثِ أن النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلم- قال لمُعاذِ بنِ جبلٍ يَومًا: "يا مُعاذُ: وَاللهِ إني لأُحِبُّكَ، فلا تَدَعَنَّ دُبَرَ كُلِّ صلاةٍ أن تقولَ: اللهم أَعِنِّي على ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادَتِكَ"، فاطلبوا العَونَ مِنَ اللهِ على عبادتِهِ، واسألوه الثَّبَاتَ على طاعتِهِ، واكلَفُوا مِنَ العِبادةِ ما تُطِيقُونَ، والقَصدَ القَصدَ تَبلغُوا، وجاهدوا أَنفُسَكم يُوَفِّقْكُم اللهُ ويَهدِكُم ويُثَبِّتْكم، فهو سبحانَه القائلُ: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، واصبروا ولا تجزعوا، فإن الجنةَ عاليةٌ غاليةٌ: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35].
 

 

 

 

المرفقات
كنا في رمضان.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life