عناصر الخطبة
1/كمال الله عز وجل وعظمته 2/رفعة مقام الرسل والأنبياء 3/مكانة الدين الإسلامي عظيمة 4/أفضل الملائكة وأفضل الكتب وأفضل الأمم والبلاد 5/أعلى الجنة وأفضلها.اقتباس
وقد اجتمعت هذه الفضائلُ العظيمةُ في هذا القرآن الكريم، فهو أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة، على أفضل الخلق، على أفضل بَضْعة فيه وهي قَلبُه، في أفضل شهر، وأعظم ليلة، على أفضل أمة أخرجت للناس، بأفضل الألسنة وأفصحِها، وأشملها بيانًا، وهو: اللسان العربي.
الخطبة الأولى:
يبحث المرء في هذه الدنيا عن الكمال والتمام، ويسعى في تحصيله، ويُفْنِي عمرَه في إيجاده، وبعد البعثة النبوية المباركة تجلت صنوفُ الكمالِ والجلالِ في كتاب الله وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
والله -سبحانه- لا أكملَ ولا أجلَ ولا أعظمَ منه: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الأنبيَاء: 22]، فهو -سبحانه-: (يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ)[المؤمنون: 88]، وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر، ولا مُعقّب لحكمه، لا يُمانَع ولا يُخالَف، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو الذي خلَق فسوَّى، وأعطى كلَّ شيء خَلْقَه ثم هدى.
وقد ذكر الله وصف المشركين: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ)[يس: 74-75]، أي: لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل، وأحقرُ وأذل، بل لا تقدر عل-ى الاستنصار لأنفسها، ولا الانتقامِ ممن أرادها بسوء، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل، وأُجملت قواعدُ صفات الله -عز وجل- في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشّورى: 11].
ومقام الرسالة والنبوة أعلى المراتبِ وأجلُّها، وأهلها هم صفوة الخلق، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فضّل الله النبيين بعضَهم على بعض، وفضّل الرسلَ على غيرهم، وأولو العزم أفضلُ من سائر الرسل".
ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو أفضلهم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفَّع"(رواه أبو داود)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"(رواه مسلم).
قال البيهقي -رحمه الله- في مَعْرِض ذِكْرِ فضل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "منها شرفُ أصله، وطهارةُ مولِده، ومنها إشادة الله -تعالى- بذِكْره قبل أن يخلقه حتى عَرفَهُ الأنبياءُ -صلوات الله عليهم- وأُممُهم قبل أن يَعرِِفَ نفسَه وتعرفَه أمَّتُه، ومنها حُسْن خَلْقه وخُلُقه، وهو صاحبُ اللواء المحمود، وصاحبُ الحوض المورود، وأقسم الله بحياته، ولم يخاطبه باسمه في القرآن ولا كنيتِه، بل دعاه باسم النبوة والرسالة".
بل فضّله الله على بقية إخوانه الأنبياءِ بخصالٍ قاربت ستين خصلة كما قاله أبو سعيدٍ النَّيسابوريُّ -رحمه الله-.
ومكانة الدين الإسلامي عظيمة، فهو الدين الذي ارتضاه الله -عز وجل- لنا، قال -سبحانه-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)[المَائدة: 3]، فلا يقبل الله من أحد دينًا سواه (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)[آل عِمرَان: 85].
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة -يهودي ولا نصراني- ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار"(رواه مسلم). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "طوبى لمن هدي للإسلام"(رواه الترمذي).
وأفضل القرون قرنُ الصحابِة -رضي الله عنهم-، ثم القرون الثلاثة التي تليه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"(متفق عليه).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "إنهم أفضل الأمة عقلاً، وعلمًا، وفقهًا، ودينًا"، وقد أحسن الشافعيُّ -رحمه الله- في قوله: "هم فوقَنا في كلِّ فقهٍ وعلم، ودين وهدى، وفي كل سبب ينال به علم وهدى، ورأيهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا".
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فضَّل الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على غيرِهم، وكلُّهم أولياء الله، وكلُّهم في الجنة، وقد رفع الله درجاتِ بعضِهم على بعض".
وصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفضلهم أبو بكر -رضي الله عنه- فهو أفضل الصحابة على الإطلاق، ثم عمرُ، ثم عثمانُ، ثم عليُّ بنُ أبي طالب، ثم العشرةُ المبشرون بالجنة.
واتفق أهلُ السنةِ والجماعة على تفضيل المهاجرين على الأنصار، وأهلِ بدرٍ على غيرهم، ومن بايع تحت الشجرة ممن لم يحضر البيعة، فهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أولو المناقبِ المأثورة، والفضائلِ المذكورة، وليس هذا التفضيل يؤدي إلى استنقاص أحدٍ منهم، بل لكلٍّ منهم منزلةٌ وفضل (وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)[الحَديد: 10].
وأما الملائكة: فأفضلُهم جبريلُ -عليه السلام- لشرف عمله، فهو مُوكَّلٌ بالوحي من الله -تعالى- إلى رسل الله -عليهم السلام-، قال -سبحانه-: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ)[الشُّعَرَاء: 193].
وقد وصفه الله بالقوة والأمانة على تأدية مهمته، وخصه الله بالذكر في سورة القَدْر: (تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)[القَدر: 4]؛ للدلالة على شرفه وعلوِّ فضله عليهم، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الليل يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل"، وهؤلاء الثلاثةُ المذكورون هم أفضل الملائكة.
وأفضل الكتب المنزلة القرآن العظيم، قال الله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا)[الكهف: 1-2]، ومعنى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) على ما قبله من الكتب السماوية، أي مهيمنًا عليها، ويبين هذا التفسيرَ قولُه -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)[المَائدة: 48]، ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال -تعالى-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[النَّمل: 76].
وقد اجتمعت هذه الفضائلُ العظيمةُ في هذا القرآن الكريم، فهو أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة، على أفضل الخلق، على أفضل بَضْعة فيه وهي قَلبُه، في أفضل شهر، وأعظم ليلة، على أفضل أمة أخرجت للناس، بأفضل الألسنة وأفصحِها، وأشملها بيانًا، وهو: اللسان العربي.
وأفضل الأمم: أمةُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آل عِمرَان: 110]، وهذه الأمة لها مزية كبرى، ومِنَّةٌ عظمى، قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده! إني أرجو أن تكونوا رُبُعَ أهل الجنة، فكبَّرنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثلثَ أهل الجنة، فكبَّرنا، فقال: أرجو أن تكونوا نِصف أهل الجنة، فكبَّرنا، فقال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاءَ في جلد ثور أسود"(متفق عليه).
وهذه الأمة المباركة تشهد على باقي الأمم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يجيء نوح وأمته، فيقول الله -تعالى-: هل بلغتَ؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جل ذكره: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[البَقَرَة: 143]"(رواه البخاري).
وأما أفضل أرض الله وأحب بلاد الله إلى الله فمكة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مكة: "والله إنك لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منكِ ما خرجت"(حديث صحيح على شرط الشيخين)، وهي أيضًا أحب أرض الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في قوله "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت"(رواه الترمذي والنسائي).
ثم بعد مكة في الفضل المدينةُ النبوية، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم -عليه السلام- لمكة"(متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها، فاجعلها بالجحفة"(متفق عليه).
وأفضل الشهور شهرُ رمضان، وأما الأيام فأفضلها عشر ذي الحجة، وأفضل الليالي ليلة القدر.
وأعدل الأحكام حُكمُ الله، ومِنْ أَصْل إيمان المؤمن الحكمُ والتحاكمُ بشريعة الله لا بغيرها، قال -سبحانه-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المَائدة: 50]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فأخبر -سبحانه وتعالى-: أنه ليس وراءَ ما أنزله إلا اتباعُ الهوى، الذي يضل عن سبيله، وليس وراءَ حُكمِه إلا حكمُ الجاهلية".
وقال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المَائدة: 50]: "أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عَقَلَ عن الله شرعَه، وآمن به، وأيقن وعَلِم أن الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه -تعالى- هو العالم بكل شيء، القادرُ على كل شيء، العادلُ في كل شيء".
وفّقنا الله لطاعته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الجنة التي أعدها الله لعباده المؤمنين درجات، وأصحابها يتفاوتون في منازلها على قدر أعمالهم، وأفضلها الفردوس الأعلى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائةَ درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، أُراه فوقه عرش الرحمن، ومنه تُفَجر أنهار الجنة"(رواه البخاري).
وأَلذُّ النظر هو النظر إلى وجه الله الكريم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله -تبارك وتعالى-: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم -عز وجل-"(رواه مسلم).
والدنيا متاع، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الدنيا كلها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"(رواه مسلم)، قال القرطبي فُسِّرت في الحديث بقوله: "التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله".
قال المناوي -رحمه الله- في قوله -تعالى-:"(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ)[آل عِمرَان: 14]، الآية، : "وتلك السبعة هي ملاذُّها وغايةُ آمال طُلاَّبها، وأعمها زينةً وأعظمها شهوةً النساء، لأنها تحفظ زوجَها عن الحرام، وتُعِينه على القيام بالأمور الدنيوية والدينية، والمراد بالصالحة النّقية المُصلحة لحال زوجها في بيته، المُطيعة لأمره".
وفقنا الله لهداه، وجعل عملنا في رضاه.
وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات