عناصر الخطبة
1/ كثرة مواطن الجمال في الطيور 2/فضائل التوكل على الله تعالى 3/سر جمال وروعة أفئدة الطيور 4/أهمية صفاء القلوب وطهارتها 5/المؤمن بين الخوف والرجاء.اقتباس
هؤلاء القَومُ كَانتْ قُلوبَهم عَلى مِثلِ قُلوبِ الطَّيرِ، رِقَّةً لخَلقِ اللهِ، ورَحمةً لعِبادِه، وشَفقةً على المسلمينَ.. هناكَ قلوبٌ لا تَعرفُ الحِقدَ والخِيانةَ، ذاتُ صفاءٍ وأمانةٍ، تتعبُ في زمانٍ لا يعرفُ الحُبَّ والوفاءَ، وتمرضُ عندما تسمعُ أخبارَ الغدرِ والجَفاءِ، فليسَ لمثلِ هذه القلوبِ راحةٌ إلا في الجنَّةِ.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
أَمَّا بَعْدُ: هل تعلمونَ ما هو أجملُ شيءٍ في الطُّيورِ؟ .. هل هو شكلُها البديعُ وألوانُها الخلَّابةُ؟، أم صوتُها العذبُ وتغريداتُها الجذَّابةُ، أم خفةُ حركتِها رفرفتُها السَّاحرةُ؟، أم نشاطُها في ساعاتِ الفجرِ الباكرةِ؟
هل تأملتُم يوماً طيرانَها الجميلَ عندما تسبحُ شامخةً في الفضاءِ؟، قد صفَّتْ جناحيها لا يُمسكُها إلا ربُّ السماءِ، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)[الملك:19].
كثيرةٌ هي مواطنُ الجمالِ في الطَّيرِ، ولكن أينَ موطنُ الجمالِ الكبيرُ؟، اسمعوا إلى هذا الحديثِ، يقولُ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "يَدْخُلُ الجَنَّةَ أقْوامٌ، أفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أفْئِدَةِ الطَّيْرِ"، سبحانَ اللهِ!!.. ما هو السِّرُّ العجيبُ في أفئدةِ هذهِ المخلوقاتِ النَّحيلةِ، حتى أوصلتْ أقواماً إلى جنَّةِ اللهِ الغاليةِ الجليلةِ.
فهل يا تُرى سرُّ دخولِ الجنَّةِ هو ما في قلوبِ الطيرِ من التوكلِ على الله -تعالى-، فها هي تغدو كلَّ صباحٍ تبحثُ عن الطَّعامِ، فلا تعودُ إلى عِشِّها إلا وقد امتلأتْ الأجسامِ، كما جاء في الحديثِ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصاً وَتَرُوْحُ بِطَاناً".
ولا تحملُ أبداً همَّ الغِذاءِ والرِّزقِ؛ لأنَّ لها ربّاً قد تكفَّلَ بجميعِ الخَلقِ، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود:6]، ولذلكَ لا تجدُ طيراً يَجمعُ أكثرَ من حاجتِه، أو يُخزِّنُ طعاماً لمستقبلِه وعائلتِه، (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت:60].
وهكذا هم المتوكلون قد رضوا بما كتبَ اللهُ لهم، وآمنوا بما قدَّرَ اللهُ عليهم، يعملونَ المُستطاعَ من الأسبابِ، وينتظرونَ تقديرَ ربِّ الأربابِ، وشِعارُهم: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[هود:56].
فكيفَ يخافُ الفقرَ عبدٌ قد علمَ أنَّ رزقَه لن ينقصَ منه شيءٌ أبداً، يقولُ -عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ-: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها ، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ".
وكيفَ يقلقُ من المرضِ عبدٌ قد علمَ أن المقاديرَ، بيدِ العليمِ الخبيرِ، (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[هود:56]، وكيفَ يحملُ همَّ المستقبلِ عبدٌ قد علمَ أنَّ له ربّاً يعلمُ الغيبَ ويُدبرُ الأمرَ، (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[هود:23].
أم يا تُرى سرُّ دخولِ الجنَّةِ هو ما في قلوبِ الطيرِ من الصَّفاءِ والرَّحمةِ والرِّقةِ واللِّينِ، فتراها تطيرُ في أسرابٍ بديعةِ الانتظامِ، لا يخالفُ بعضُها بعضاً، ويُساعدُ بعضُها بعضاً، تعرفُ رحمةَ العصفورِ عندما تراه يُطعمُ فُروخَه وقد فتحوا الأفواهَ، في منظرٍ لا تملكُ إلا أن تقولَ عِندَه: سُبحانَ اللهِ، بل إن من رِقةِ بعضِ الطُّيورِ أنها تموتُ حينَ يموتُ شريكُ حياتِها حُزناً عليهِ.
يقول ابنُ هبيرةَ -رحمَه اللهُ-: "الذي أَراهُ في هذا الحديثِ: أنَّ هؤلاءِ القَومُ كَانتْ قُلوبَهم عَلى مِثلِ قُلوبِ الطَّيرِ، رِقَّةً لخَلقِ اللهِ، ورَحمةً لعِبادِه، وشَفقةً على المسلمينَ"، وصدقَ -رحمَه اللهُ- فهناكَ قلوبٌ لا تَعرفُ الحِقدَ والخِيانةَ، ذاتُ صفاءٍ وأمانةٍ، تتعبُ في زمانٍ لا يعرفُ الحُبَّ والوفاءَ، وتمرضُ عندما تسمعُ أخبارَ الغدرِ والجَفاءِ، فليسَ لمثلِ هذه القلوبِ راحةٌ إلا في الجنَّةِ.
أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حَمدًا كَثيرًا طيبًا مباركًا، مِلءُ السماواتِ ومِلءُ الأرضِ ومِلءُ ما بَينهما ومِلءُ ما شِئتَ من شَيءٍ بَعد، كَما يَنبغي لجلالِ وَجهِه وعَظيمِ سُلطانِه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَه لا شَريكَ لهُ، وأَشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صَلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصَحبِه وسَلمَ تَسليمًا كَثيرًا.
أما بعدُ: أم يا تُرى سرُّ دخولِ الجنَّةِ هو ما في قلوبِ الطيرِ من الخوفِ والوَجلِ، فها نحنُ نرى الطَّيرَ حَذراً خائفاً ينفرُ من كلِّ شيءٍ، تراهُ دائمَ الحركةِ كثيرُ التَّلفتِ ولا يكادُ يستقرُ على حالٍ، وهكذا هو خوفُ المؤمنِ من ربِّه، كما وصفَ اللهُ ملائكتَه: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[النحل:50].
تراهُ يخافُ من الخاتمةِ وتقلُّبِ الأحوالِ، فيُسارعُ بالخيراتِ ويدعو اللهِ بقبولِ الأعمالِ، كما كانَ الأنبياءُ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء:90]، تراهُ يمنعُ نفسَه من الهوى خوفاً من ذلكَ المقامَ، والذي يقفُ فيهِ بينَ يديِ ذي الجلالِ والإكرامِ: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات:40-41].
أولئكَ هم الذينَ سيأتونَ آمنينَ يومَ القيامةِ، كما قَالَ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ، وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؛ فاسألْ نفسَكَ يا من يُريدُ الجنَّةَ والخيرَ: فهل في قلبِكَ من التَّوكلِ والرِّقةِ والخوفِ كما في قلوبِ الطَّيرِ؟
اللهمَّ املأ قُلُوبَنا بِحُبِّكَ وتَعظِيمِكَ وحبِّ العملِ الذي يُقرِّبُنا إلى حُبِّكَ وتعظيمِكَ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ قُلوباً سَلِيمَةً حَنيفَةً مُوحِّدةً، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، وَالسَّلاَمَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ.
نَسْأَلُكَ أَلاَّ تَدَعَ لَنا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلاَ هَمًّا إِلاَّ فَرَّجْتَهُ، وَلاَ حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلاَّ قَضَيْتَهَا لَنا، اللهمَّ علِّمنَا ما ينفعُنا وانفعنَا بِما عَلَّمتَنا، اللهم أصلح القلوبَ والأعمالَ، أَصلِح مَا ظَهَرَ منها وما بطن، واجعلنا من عبادِك المخلَصين.
اللهم ثبتنا على دينِك وصراطِك المُستقيم، اللهم آمنا في أوطانِنا، وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم خذ بنواصيهم للبرِّ والتَّقوى ومن العملِ ما تَرضى.
اللهم أصلح حالَنا وأحسن مآلَنا، اللهم ارزقنا قلوباً خاشعةً، وعِلماً نافعاً، وعَملاً صَالحاً خَالصاً مُتقبَّلاً، اللهم إنِّا نعوذُ بك من الرياءِ والنفاقِ، وسُوءِ المُنقلَبِ، وسيئِ الأخلاقِ.
التعليقات