عناصر الخطبة
1/تطوع ذي القرنين في بناء السد 2/تطوع موسى حين وصل ماء لمدين 3/معنى العمل التطوعي وآثاره وفضله 4/التعريف بالمنصة الوطنية للعمل التطوعي 5/مجالات العمل التطوعياقتباس
نبيُ اللهِ موسى الهاربُ المطارَدُ، المسافرُ الغريبُ المكدودُ، كلُ هذا لم يُقْعِدْهُ عن تلبيةِ دواعي المروءةِ والنجدةِ، بل تقدمَ للمرأتينِ؛ ليسقيَ لهما أولًا، كما ينبغي أن يفعلَ الرجالُ ذوو الشهامةِ, وإذا أحسنتَ إلى أحدٍ فابتعِدْ عنه؛ لئلا ترَى حياءَه عاريًا أمامَ عَينَيكَ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ كما خلقْتَنا ورزقْتَنا وهديتَنا, لكَ الحمدُ بالإسلامِ والقرآنِ والإيمانِ، ولكَ الحمدُ بالأهلِ والمالِ والمُعافاةِ, بسطْتَ رزقَنا، وأظهرْتَ أمنَنا، وجمعْتَ فُرقتَنا، ومِنْ كل -واللهِ- ما سألناكَ ربَنا أعطيتَنا, أشهدُ أن لا إلهَ إلا أنتَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُكَ ورسولُكَ، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ.
أما بعدُ: فكلما قرأتَ سورةَ الكهفِ كلَ جمعةٍ فارقُبْ آخرَ قِصةٍ فيها؛ فقد حكَتْ عن قومٍ مُفسِدِينَ منْ بَنِي آدمَ، عددُهمْ هائلٌ مخيفٌ؛ (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)[الأنبياء: 96], إنهم يأجوجُ ومأجوجُ الذينَ قالَ عنهمْ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا"(صحيح مسلم).
فكيفَ كُفِينا شَرَّهمْ؟! لقدْ كفانا اللهُ شَرَّهم عن طريقِ قومٍ متطوِّعين، قائدُهمْ رجلٌ صالحٌ مهندسٌ لَقَبُهُ ذو القَرنينِ؛ فقدْ بنَى ذلكَ السدَّ العظيمَ، الذي صارَ بِناؤُه نعمةً عُظمى دفعَ عن البشريةِ فسادًا ومفسدينَ لآلافِ القرونِ القادمةِ؛ (قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا)[الكهف: 94]؛ أي: نجمعُ لكَ مالًا لهذا المشروعِ الخيريِ العالمِي المُستَديمِ, فقال ذو القرنينِ بعفةٍ وديانةٍ وقصدٍ للخيرِ: (مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)[الكهف: 95]؛ أي: "إن الذي أعطانيهِ اللهُ من التمكينِ أعظَمُ من الذي تجمعونَه، ولكنْ ساعِدُوني برجالِكمْ وبآلاتِ البناءِ"(تفسير الطبري), (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)[الكهف: 95]؛ "فَجَعَلَ بَدَلَ اللَّبِنِ حَدِيدًا، وَبَدَلَ الطِّينِ نُحَاسًا"(البداية والنهاية), وبنَى سَدًا يَصُدُّ بَشَرًا لا ماءً؛ (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ)[الكهف: 97] لارتِفاعِهِ، (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)[الكهف: 97] لِسَماكَتِه.
ومنْ روائعِ أمثلةِ العملِ التطوعيِ ما قصَّهُ ربُنا علينا عنْ نبيِهِ موسى-عليهِ السلامُ-, فإنه لما: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[القصص: 23], نبيُ اللهِ موسى الهاربُ المطارَدُ، المسافرُ الغريبُ المكدودُ، كلُ هذا لم يُقْعِدْهُ عن تلبيةِ دواعي المروءةِ والنجدةِ، بل تقدمَ للمرأتينِ؛ ليسقيَ لهما أولًا، كما ينبغي أن يفعلَ الرجالُ ذوو الشهامةِ, وإذا أحسنتَ إلى أحدٍ فابتعِدْ عنه؛ لئلا ترَى حياءَه عاريًا أمامَ عَينَيكَ.
وهذا -يا كرامُ- هوَ العملُ التطوعيُ، بنفعِ الآخرينَ بعملٍ غيرِ واجبٍ، دونَ أخذِ مقابلٍ: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)[البقرة158].
العملُ التطوعيُّ تَعاطفٌ بشريٌ، وتكافلٌ أخويٌّ، وتكاملٌ إنسانيٌ، وأمنٌ أخلاقيٌ وفكريٌ، وتوفيرٌ اقتصاديٌ، وتخفيفٌ نفسيٌ، وليسَ مقصوراً على كوارثَ وطوارئَ.
وآثارهُ عظيمةٌ في نزْعٍ للنَزعةٍ الماديةٍ، وللنظرةِ الأنانيَّة، وتقويةِ الأملِ وتُشعِرُ المتطوعَ بإيجابيّتهِ وبركتهِ، ومشارَكَتِهِ في فلاحِ مجتمعِهِ ووطنِهِ؛ (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج77].
أما الأجورُ الأُخرويةُ فمضاعَفةٌ, قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَأَنْ أَعُولَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَهْرًا أَوْ جُمُعَةً، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ"(حلية الأولياء).
قلت ما سمعتم, وأستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ مُعطِينا ومُولِينا، والصلاةُ والسلامُ على داعِينا وهادِينا.
أما بعدُ: أتعرفُ المنصةَ الوطنيةَ للعملِ التطوعيِ؟ إنها منصةٌ رسميةٌ تُمَكِّنكَ أن تتطوعَ، في المكانِ، والزمانِ، والمجالِ الذي يُناسِبُ خِبْراتِكَ ومَهَاراتِكَ، مع توثيقِ ساعاتِكَ، وإصدارِ شهاداتِكَ التطوعيةِ, فانضمَّ إلى رَكْبِ المليونِ متطوعٍ؛ (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)[البقرة: 184].
وهذِهِ المنصَّةُ يَتوافَدُ عليها متطوِعونَ ومتطوِعاتٌ, لا يُريدونَ جزاءً ولا شُكورًا، من لجانِ تنميةٍ اجتماعيةٍ، وجمعياتٍ غذائيةٍ تعاونيةٍ، واستشاراتٍ عائليةٍ، ورعايةِ إنسانٍ يتيمٍ، وإعاشةِ برٍ لمتعفِفينَ، وتوعيةِ جالياتٍ، وكلماتٍ ومحاضراتٍ، وإكرامِ أمواتٍ، وتوقيرِ كبارٍ، وتحفيظٍ للقرآن، وحفظِ قوتٍ لجوعانَ، وسُقيا عطشانَ، وفَزعةٍ لتائهٍ وعالِقٍ، وتثقيفِ مُشاةٍ، وحِمَى وتشجيرِ مُتَنزّهاتٍ، وطُوافةٍ، وكشافةٍ، ومصمِمينَ، ومبرمِجينَ، ومُنْتِجينَ، وتِقنِيينَ، ومثقِّفِينَ في مَنَصاتٍ، لتسجيلِ فُرَصٍ تطوعيةٍ ودوراتٍ, فلِكُلِّهِمْ: للهِ دَرُّهُمْ؛ فقدْ شاعَ بِرُّهمْ!.
وأما الأطباءَ الزائرونَ، والمُمارِسونَ الصِحّيونَ، والمنسِّقونَ المحتسِبونَ، والباذِلونَ مستلزماتٍ طبيةً لمرضَى البيوتِ، فأولئكَ لا نَجْزِيهمْ، ولكنْ نَكِلُ جزاءَهم إلى اللهِ أن يُبوّئَهمْ جَناتٍ؛ (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الصافات: 44].
ومنذُ بَدءِ كورونا أبهجَتْنا وزارةُ الصحةِ بأعدادٍ تطوعيةٍ ضخمةٍ، منْ أبناءِ وبناتِ وطنِنا المِعطاءِ، بالإرشاداتِ وبالتنظيماتِ للمَسْحاتِ ثم اللَقاحاتِ.
فاللَّهُمَّ بارِكْ في حياةِ مَنْ نفعَ إخوانَه، ولكلِ مَنْ تطوَّع خيرًا خيرًا, واجْعَلْ خَيْرَ أعْمَارِنَا أواخِرَهَا، وخَيْرَ أعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا وخَيْرَ أيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاك, اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.
اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمون, اللهم واحفظْ علينا دينَنا، وأعراضَنا ومقدساتِنا، وباركْ في أرزاقِنا واقضِ ديونَنا, اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا أغَنْى خَلْقِكَ بكَ، وأفْقَرَ خَلْقِكَ إليْكَ, اللَّهُمَّ أغْنِنَا عَمَّنْ أغْنَيْتَهُ عَنَّا, اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا.
اللهم يا من حَفِظتَ بلادَنا طيلةَ هذهِ القرونِ، وكفيتَها شرَ العادياتِ الكثيراتِ المدبَّراتِ الماكراتِ، اللهم فأدِمْ بفضلِكَ ورحمتِكَ حِفْظَها من كل سوءٍ ومكروهٍ، وأدِمْ عليها نعمةَ النماءِ والرخاءِ.
اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ، ووليَ عهدِه لما فيهِ عِزُّ الإسلامِ وصلاحُ المسلمينَ, اللهم سدِدْ جنودَنا في غاراتِهم، واحفظهُمْ في حراساتِهمْ وثكناتِهمْ وتفتيشاتِهمْ، واخلُفهُمْ في أهليهمْ بخيرٍ.
اللهم يا ذا النعمِ التي لا تُحصَى عددًا نسألكَ أن تصليَ وتسلمَ على محمدٍ وآلهِ أبدًا.
التعليقات