عناصر الخطبة
1/ علو فرعون في الأرض وإفساده 2/ قصة مولد موسى ومَبدأ نشأته 3/ دروس مستفادة من القصة 4/ صوم يوم عاشوراءاهداف الخطبة
اقتباس
في هذا الجو الإرهابي، الملبَّد بغيوم الظلم المتكاثفة على بيوتات بني إسرائيل خاصة، وفي تلك الأوضاع البالغة القساوة، والخطر محدق ببني إسرائيل من كل جانب، يولد موسى -عليه الصلاة والسلام-، في أحد بيوت بني إسرائيل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23]، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [يس:82].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أن الله -عز وجل- بحكمته البالغة، ومشيئته النافذة، وعدله المطلق، ورحمته الواسعة، يملي للظالم، ولكنه لا يغفل عنه، حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيز مقتدر.
عباد الله: يقول الله -تعالى-: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص:4-6]، وقال -تعالى- في سورة يونس: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس:83].
العلو في الأرض، والتسلط والتجبر، والطغيان، لا يقف عند حد، بل يتمادى بالطاغية، حتى يدعي الألوهية: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات:24].
(إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ): الإفساد في الأرض بكل أنواع الفساد وأشكاله: التنكيل بالطائفة المستعبدة، وتصفية رجالهم، وإبقاء نسائهم خدما عندهم.
هذا فرعون، قد علا في الأرض، وتجبر، وجعل أهلها شيعاً، أي: فرقاً؛ كل فرقة في شأن من شؤونه، يستضعف طائفة منهم، وهم بنو إسرائيل، فيذبح الأبناء، ويبقى النساء للخدمة في قصور الفراعنة.
يذبح الأبناء خوفاً على عرشه الذي قام على الخيلاء، والمخادعة، والكذب، والاستخفاف؛ يبعث الجواسيس إلى بيوت بني إسرائيل ليقتلوا كل مولود ذكر: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة:49].
في هذا الجو الإرهابي، الملبَّد بغيوم الظلم المتكاثفة على بيوتات بني إسرائيل خاصة، وفي تلك الأوضاع البالغة القساوة، والخطر محدق ببني إسرائيل من كل جانب، يولد موسى -عليه الصلاة والسلام-، في أحد بيوت بني إسرائيل.
وإسرائيل هو نبي الله يعقوب والد يوسف وابن إسحاق بن إبراهيم، عليهم الصلاة والسلام، وموسى من ذرية إسرائيل.
وتخاف أم موسى على وليدها من العدو أن يصل إليه، وقد سخر كافة إمكانياته لتتبع وتعقب من يولد جديداً من بني إسرائيل؛ لأن سحرته وكهنته أفادوه بأن زوال ملكه يكون على يد رجل من بني إسرائيل يولد في ذلك العام. (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7].
(ولا تخافي ولا تحزني): إنه هنا في اليم في رعاية الله الذي جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، فهو قادرٌ على أن يجعل الماء ملجأً آمناً لموسى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) [القصص:8]، خاطئين في كل تقديراتهم وتصرفاتهم.
لكن؛ أهذا هو الأمن؟ أهذا هو الوعد؟ أهذه هي البشارة؟ هل كانت أم موسى تخشى عليه إلا من فرعون وجنوده؟ وهل كان شيء يقلقها إلا أن يتكشف أمرها لآل فرعون؟ ويأتيها الرد: نعم، هنا الأمن، وهنا الرعاية.
إن إرادة الله فوق كل إرادة، وقدرة الله فوق كل قدرة، وأمر الله فوق كل أمر، وهذه هي المعادلة الحرجة التي عجز عن حلها الكفار والمتسلطون في الماضي والحاضر، وسيعجزون عنها في المستقبل: لا راد لقضاء الله، ولا معقب لحكمه، إذا قال للشيء كن فسيكون، يُرِي العبادَ ضعفهم وعجزهم، مهما تجبروا، وطغوا، وبغوا، إن قوة فرعون وجبروته، وحذره، وتفطنه، لا تغني عنه شيئاً، بل لا تمكنه من موسى الطفل الصغير، الرضيع، المجرد بنفسه من كل قوة وحيلة.
يا أيها الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده، وقوة بأسه، ومدى سلطانه، قد حكم العظيم الذي لا يُغلب، في سابق علمه، أن هذا المولود الذي تحتاطُ، وتحذرُ منه، والذي تكون نهايتك على يده، وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى، أن لا يكون مَرْباه إلا في دارك، وعلى فراشك، ولا يُغذى إلا بطعامك وشرابك في منزلك، وأنت الذي تتبناه وتربيه، ثم يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يده؛ لمخالفتك ما جاء به من الحق المبين، وتكذيبِك بما أوحي إليه، لتعلم أنت وجميع الخلق أن رب السماوات والأرض هو الفعال لما يريد، فقوة الله -تعالى- ورعايته تتحدى قوة وحذر وبطش فرعون وهامان وجنودهما.
نعم، ليكون لهم عدواً وحزناً، فهو عدوهم الذي يحتاطون منه، ويخططون من أجله، ويلتقطونه هم بصورة تنبئ عن الفرح والسرور به كالتقاط الذهب والفضة، ثم يبحثون له عن سبب غذائه، بعد أن كانوا يبحثون عنه لقتله! (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [القصص:9].
وتتم عناية الله -تعالى- بهذا الرضيع وأمِّه، حيث ربط الله على قلبها، وسكَّنها حتى لا تظهر للعدو فقدانه من فرط لوعتها على صغيرها.
وحرّم الله عليه قبول جميع المرضعات، حتى يرجع إلى أمه التي كانت تخشى عليه من قَتَلَة فرعون، يرجع إليها وليدها آمناً منهم، وترضعه وهي آمنة! بل بأجر! ويرى إحسانها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [القصص:10-11].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه...
أما بعد: أيها المسلمون، يوم الاثنين القادم يوافق العاشر من شهر الله المحرم، وهذا اليوم لعظيم شأنه عند الله -تعالى- كان صيامه فرضاً أول الإسلام، لما روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: يوم عاشوراء يوم تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه، وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان قال: "مَن شاء صامه -يعني عاشوراء- ومن شاء تركه" متفق عليه.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي-صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: "هذا؟"، قالوا: يومٌ صالحٌ نجّى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. فقال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "أنا أحق بموسى منكم"،ما فصامه وأمر بصيامه. متفق عليه.
وفي صحيح مسلم، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان العام القادم -إن شاء الله- صمنا اليوم التاسع". وفي لفظ: "لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع"، يعني مع يوم عاشوراء.
فالسنة إذاً أن تصوم اليوم العاشر، ولكن مخالفة لليهود تصوم معه يوماً قبله أو يوماً بعده
التعليقات