عناصر الخطبة
1/قصة فتاة اشتكت والدها للقضاء 2/تذكير أولياء البنات ببعض فضائل الزواج 3/تحذير أولياء البنات من عضل البنات عن الزواج 4/بعض صور ومظاهر عضل أولياء البنات عن الزواج 5/مفاسد وعواقب عضل البنات عن الزواج 6/حكم الولي إذا امتنع من تزويج موليته 7/بعض ما يجب تجاه ظاهرة عضل البناتاهداف الخطبة
اقتباس
أيها الولي: هل فكرت بابنتك يوم أن تتقلب على فراش نومها ذلك الفراش الوثير الذي قدمته لها، وهيئته لها، واخترته من أرقى الأنواع؟ هل فكرت ماذا يدور عليه في ليلة ظلماء نام الناس ورقدوا، وضم كل حبيب حبيبَهُ، وسكن كل خليل إلى خليله، وابنتك تتقلب على ذلك الفراش الذي قدمته لها، بلا أنيس ولا حبيب تسكن إليه، وتبث شكواها إليه، فكرت مراراً وتكراراً، فيما يغضب الله، فكرت في الحرام، لكن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فهي وصية رب العالمين، للأولين والآخرين: (وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)[النساء: 131].
فاتقوا الله -تعالى- في أنفسكم وأهليكم: (وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1].
أما بعد:
عباد الله: كثيرة هي القصص والوقائع التي تحرك المشاعر، وتُدمع الأعين، وتبعث الحزن والأسى في القلوب.
وها أنا ذا أسوق لكم هذه القصة التي تقع مثيلاتها، وأشد منها في بيوت كثيرة من بيوت المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كنت أقوم بعملي في كتابة العدل، وإذ بفتاة تبلغ من العمر الخامسة والثلاثين عاماً تدخل عليَّ، وإذ بها تطلب وكالة لقريب لها، ليمثلها أمام القاضي، ويرفع قضية ضد والدها، هل تعرفون لماذا؟
خذوا الجواب منها: تقول؛ لأن والدي لم يزوجني ويرد الخاطبين ليست أنا وحدي على هذا الحال، بل عندي أختين أخريتين الصغرى تبلغ الثلاثين.
عباد الله: إنها قصة فتاة من بين مئات، بل آلاف الفتيات اللاتي حُرِمن الزواج، وفاتهن قطار السعادة الزوجية.
قصة تدمي القلب يوم أن تقوم الفتاة بشكاية والدها، ورفع قضية ضده، والتشهير به أمام الناس: أنه لم يزوجها، أنه رد الخطاب عنها.
أيها الولي: ابنتك أمانة في عنقك أنت مسؤول عنها أمام الله، ولن تسأل عن إطعامها وكسوتها فحسب، بل وعن زواجها هل زوجتها بزوج كفء؟ هل يسرت أمر زواجها؟
أيها الأب: أذكرك ببعض فضائل الزواج، فهو سنة الأنبياء والمرسلين، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)[الرعد: 38].
وهو سبيل المؤمنين، استجابة لأمر الله -سبحانه-: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 32-33].
والزَّوَاجِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الذُّرِيَّةِ الصَّالِحَةِ التي يَنْفَعُ اللهُ -تعالى- بِهَا الزَّوْجَينِ وَالمُجْتَمَعَ والأُمَّةَ بأَسْرِهَا؛ وَقَدْ قَالَ: "تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الْوَدُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ"[رواه النسائيُّ وأبو داود].
وهو وقاية للدين من غائلة الشهوة، ليغض المسلم بصره ويحفظ فرجه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج"[متفق عليه].
أيها الولي: قال ابن قدامة: ومعنى العضل منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك ورغب كل واحد منهما في صاحبه. ا. هـ.
وقد نهى الله الأولياء عن العضل، حيث قال عز وجل: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)[البقرة: 232].
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: ( إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ) أي الخُطاب والنساء. ا. هـ.
فلتعلم أن عضل ابنتك، ومنعها من الزواج بالكفء أمر محرم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[ النساء: 19].
عباد الله: وإن من أولياء الأمور: من يحجرون الفتيات؛ إمَّا على أقاربهم، إمّا من بني العمِّ أو بني الخال.
ولا يمكِن لهذه المرأةِ أن يتزوَّجها إلاّ قريب من أقاربها من بني عمِّها، أو بني أخوالها.
وإذا خطبها أجنبيٌّ عن هذا البيت لم يرضَوا بهذا الزواج، لماذا؟
لأنَّ الكِبْرَ في نفوسهم يحول بينهم وبين أن يُعطُوا المرأةَ حقَّها المناسب، والله -جل وعلا- أمرنا بقوله: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 32].
ففي الآية أمر بتزويج الفتاة، ولو من غير أقاربها، وأن من حجرها، فقد ارتكب جرماً عظيماً.
"إن حصر الزواج وحجره بأحد الأقارب من أبناء العم، أو الخال، أو غيرهم، والمرأة لا تريده، أو أقاربها لا يريدونها، وحصرها في أقاربها، أو حجرها عليهم، إما أن يكون بتكبر من العائلة، وتعال على الناس، أو أنه خضوع لعادات وتقاليد بالية، وحصر المرأة وحجرها على أقاربها وهم لم يتقدموا إليها، أو هي لا ترغب فيهم ظلم وعدوان وتمسك بالعصبية الجاهلية والحمية القبلية " [من كلام الشيخ صالح بن حميد].
معاشر المسلمين: ومِن الظّلمِ الذي نراه ونسمع عنه: ما يحصل من كثير من الأولياء ممن طغت عليهم المادة، حتى ألهتم عن التفكير في مشاعر الآخرين.
نعم لم يفكروا ببناتهم لم يراعوا مشاعرهن، لم يقف الواحد منهم يوماً مع نفسه، ماذا تريد ابنتي؟ كيف مشاعرها؟ كيف هي أحاسيسها؟ كيف نفسيتها، بلا زواج؟.
الكثير غرته دريهمات يأخذها من ابنته إن كانت معلمة، أو في أي وظيفة أخرى، أو أنها في الضمان الاجتماعي ولا يريد تزويجها، حتى لا يسقطوا اسمها من سلم الضمانات.
أي تفكير هذا؟ أي عقل هذا الذي يحمله مثل هذا الأب الذي عبد الدينار والدرهم؟
تعس من كانت هذه أفكاره وتطلعاته، فقد دعى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى أمثاله ممن يحبون المادة: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتَقَش"[رواه البخاري عن أبي هريرة].
أي كب على وجهه وعثر فلا يفيق وقيل هو الهلاك.
وقوله: "انتكس" أي عاوده المرض.
وهو دعاء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حبيب الله خير الخلق أجمعين على أولئك الذين عبدوا المال.
فيأيها الولي: يا من جعل ابنته باباً لجمع الأموال وحرمها من السعادة الزوجية حرمها من أن تسمع كلمة "ماما" حرمها من إشباع غرائزها، هل تحب أن تنالك دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
التعاسة والانتكاسة لجمعك المال وحبك له على أمر ابنتك.
يا سبحان الله! كيف يجرؤ إنسان مؤمن يعلم فطرة المرأة وغريزتها، ومع ذلك يمنعها من الزواج ليستفيد من مالها، هي تكدح وهو يأخذ ويتفكه، وقد حكم عليها بالسجن المؤبد إلى أن يأذن الله بالفرج؟!
عباد الله: وإن من الأولياء من يكون عضله: باشتراط الشروط التي فيها تعجيز، وإرهاق لكاهل المتقدم، أو يشترط أن تكمل دراستها وأنه من حرصه عليها لا يريد أن يشغلها عن دراستها، أي فائدة لبنتك بمواصلة دراستها وقد خسرت الزواج وفاتت لذته عليها، أو تظن أيها الأب أنك أحسنت لها بذلك لا والله، فهي إساءة قصدتها أم لم تقصدها.
وهل الزواج يمنعها من مواصلة دراستها؟
لقد سمعنا وشاهدنا من تزوجت، وهي طالبة، وأنجبت وتخرجت، ونالت الشهادات العليا، فهل منعها الزواج من الرقي من التعلم ودفع الجهل عن نفسها؟.
عباد الله: وبعض الأولياء يرد الكفء؛ لأنه ليس في وظيفة مرموقة، أو أن دخله ضعيف، وأنه فقير الحال، وقليل ذات اليد.
وهذا خطأ، فقد تكفل الله بالرزق، وهو الرزاق ذو القوة المتين.
ووعد الزوجين بالغنى، فقال: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النــور: 32].
فهذا أمرٌ من الله -عز شأنه- للأولياء بنكاح من تحت ولايتهم من الأيامي -جمع أيم- وهم من لا أزواج لهم من رجال ونساء.
وهو من باب أولى أمر لهم بإنكاح أنفسهم، طلباً للعفة والصيانة من الفاحشة.
ولهذا نهى الله -سبحانه- عن العَضْلِ، وهو: منع المرأة من الزواج، قال الله -تعالى-: (فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ) [البقرة: 232].
قال الصديق أبو بكر -رضي الله عنه-: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم به من الغنى".
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "عجبت لمن ابتغى الغنى بغير النكاح والله -عز وجل- يقول: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النور: 32].
ففي هذا قطع لحجة الأولياء الذين يرفضون تزويج الفقير خشية أن يزيده النكاح بؤساً إلى بؤسه.
وهذه النظرة المادية يكذبها الواقع أيضاً، فكم من فقير أصبح بعد زواجه موفور النعمة، قرير العين.
روى مسلم وأحمد واللفظ لأحمد وابن حبان وغيرهم عن أنس، قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- على جُليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتى استأمر أمها. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فنعم إذاً" فانطلق الرجل إلى امرأته، فذكر ذلك بها، فقالت: لها الله.
وعند أبي يعلى: "لا لعمر الله لا تزوجه إذا ما وجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا جليبيباً، وقد منعناها من فلان وفلان.
قال: والجارية في سترها تستمع.
قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره إن كان قد رضيه لكم فانكحوه، فكأنها جلت عن أبويها -أي كشفت وأوضحت أمراً خفي عليهما- وقالا: صدقت.
فذهب أبوها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضينا، قال: فإني قد رضيته فزوجها".
ثم فزع أهل المدينة، فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم.
وعند مسلم: فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه.
فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فوقف، ثم قال: "قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني، وأنا منه هذا مني وأنا منه".
قال: "فوضعه على ساعديه ليس له سرير إلا ساعدا النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: فحُفر له، ووضع في قبره، ولم يذكر غسلاً".
قال أنس: فلقد رأيتها، وإنها لمن أنفق بيت في المدينة.
وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً: قال هل تعلم ما دعا لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
قال: "اللهم صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كدّاً كدّاً".
قال: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها.
أيها الولي: إنك بردك الأكفاء، وعدم تيسيرك لأمور زواج ابنتك، تكون بذلك قد ظلمتَ تلك الفتاةَ، فكنتَ ظالمًا ومسيئًا.
والظلم عاقبته وخيمة، فهو -ورب الكعبة- ظلمات يوم القيامة: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [الشورى: 8].
وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا"[رواه مسلم].
وقد حذر منه صلى الله عليه وسلم، فقال: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم"[رواه مسلم عن جابر].
فيا أيها الأب: اتق الظلم، والذي منه عضل ابنتك وعدم زواجها.
واحذر أن تصيبك سهام الليل، احذر من دعوة ترفعها هذه المسكينة المظلومة، مع دمعات حارة، وبكاء مرير، وأنين متواصل، فتقول: يا رب، يا رب، يا رب، حرمني الزواج، يا رب احرمه العافية احرمه التوفيق، احرمه، واحرمه، واحرمه، فتفتح لها أبواب السماء، ويقال: إنها دعوة مظلوم، فينتصر الله لها.
فاتق الله -يا عبد الله- دعوة المظلوم، فإنها مستجابة، وليس بينها وبين الله حجاب؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذا إلى اليمن، فقال: "اتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب"[رواه البخاري ومسلم].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث دعوات مستجابات، لا شك في فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم"[رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 3031].
هل تريد أن تدعو ابنتك عليك بحرمانك من الجنة ونعيمها؟ أولم تسمع عن تلك الفتاة التي قالت لوالدها، وهي تلفظ أنفسها الأخيرة من الدنيا، ولم تتمتع بلذة الزواج بلذة الولد، خرجت ولم ترزق بولد يدعو لها بعد مماتها، فقالت: يا أبتي، قل: آمين، فقال: آمين، فقالت: حرمك الله الجنة، بحرمانك لي من الزواج.
ولا تقف صور الظلم على ابنتك، بل تتجاوزها لنفسك، فقد ظلمتَ نفسَك، فارتكبتَ الخطأ، ومعصيةَ الله؛ إذ الله جعلك راعيًا وأمينًا، فخنتَ الأمانة، ولم تقم بحقّ الرعاية.
وقد حذر سبحانه من الخيانة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27].
وظلمت كذلك ذلك المتقدِّم، فحُلتَ بينه وبين حقِّه المشروع، وحرمته من الاقتران بهذه الفتاة.
أيها الولي: إنك بمنعك وعضلك لابنتك من الزواج تكون قد تسببت في الفساد في الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضَونَ دينَه وأمانَتَه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلُوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"[رواه الترمذي السلسلة الصحيحة للألباني (1022)].
وهذا الفساد يحدث إذا منعت المرأة من كفئها؛ فكيف إذا منعت بتاتا؟!
لقد كثرت اليوم المغريات والمثيرات، وتنوعت وسائل الشرور والفتن، من أفلام وأغان ماجنة، وصور فاضحة، وقنوات فضائية، ومواقع إباحية، وقصص غرامية، حتى اتسع الخرق على الراقع.
فيا أولياء الأمور: رحمة بالفتيات، فرحمة بالفتيات، فرحمة بالفتيات، ورحمة بالشباب، رحمة بالشباب، رحمة بالشباب: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
ارحموا بناتكم، زوجوهن، فهذا رحمة بهن، وفي رحمتهن رحمة رب العالمين.
يا من انتزعت الرحمة من قلوبهم: إن الله لا يرحم من لا يرحم، في الحديث: "من لا يرحم لا يرحم"[رواه البخاري ومسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"[رواه الطبراني في الكبير عن جرير، وحسنه الألباني في صحيح الجامع].
وقال عليه السلام: "ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء"[رواه الطبراني في المعجم الكبير عن جرير والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود وأبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 909].
أيها الولي: هل فكرت بابنتك يوم أن تتقلب على فراش نومها ذلك الفراش الوثير الذي قدمته لها، وهيئته لها، واخترته من أرقى الأنواع؟ هل فكرت ماذا يدور عليه في ليلة ظلماء نام الناس ورقدوا، وضم كل حبيب حبيبَهُ، وسكن كل خليل إلى خليله، وابنتك تتقلب على ذلك الفراش الذي قدمته لها، بلا أنيس ولا حبيب تسكن إليه، وتبث شكواها إليه، فكرت مراراً وتكراراً، فيما يغضب الله، فكرت في الحرام، لكن إيمانها وحياؤها يردعها عن ذلك، فهي مسلمة، وأبوها وأمها كذلك، وهي من بنات المسلمين اللاتي حفظن فروجهن، وأعراض آبائهن؟
وكأني بها، وهي تتمثل قول تلك الفتاة التي مر عليها أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-، وهي تقول:
تطاول هذا الليل وأخضل جانبه * * * وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره *** لحرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدني *** وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ولكنني أخشى رقيبا موكلا *** بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه
فكر -يا عبد الله-: ولا تكن جامد المشاعر والأحاسيس، ولا تظن أن من بلغ من ذكر وأنثى لا يفكر في إشباع الغريزة التي غرسها الله فيه فطرة الله التي فطر الناس عليها.
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الحكيم في شرعه، العليم بمصالح عباده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، لا يكمل الإيمان إلا بمحبته والاهتداء بهديه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المسلمين: قد ذكر أهل العلم -رحمهم الله-: أن الولي إذا امتنع من تزويج موليته بكفء رضيته، سقطت ولايته، وانتقلت لمن بعده، الأحق فالأحق، أو انتقلت إلى السلطان؛ لعموم حديث: "فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له" [أخرجه الترمذي من حديث عائشة -رضي الله عنها-، وقال: حديث حسن].
وقال أهل العلم أيضاً: إذا تكرر من الولي ردّ الخطاب من غير سبب صحيح صار فاسقاً، ودخل عليه النقص في دينه وإيمانه.
فاتقوا الله -أيها الناس- واتقوا الله -أيها الأولياء-" واحذروا من أفعال بعض الجهال من بادية وحاضرة، من أمور منكرة في دين الله، وأفعال ممقوتة لدى العقلاء في تقاليد بالية، ونظرات جاهلية، وجفاء في المعاملة، وضيق في التفكير " [من كلام الشيخ صالح بن حميد].
واعلموا أن الواجب علينا جميعاً: أن نتعاون لمحاربة ظاهرة عضل البنات، وأن نيسر مهور بناتنا، ونختار لهن الرجل الكفء، المرضي في دينه وخلقه.
ونبتعد عن عادات الجاهلية، وتقليد الضالين المضلين، وأن نتبع سبيل خير المرسلين، ونلتزم هديه، فهو خير الهدي.
ونحذر من المحدثات، وإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
التعليقات