عناصر الخطبة
1/ إرسال صالح عليه السلام إلى قومه 2/ إنكارهم عليه نبوته 3/ محاولات الملأ لصد صالح عليه السلام عن دينه 4/ تعجيزهم إياه وطلبهم ناقة معجزة 5/ ضيقهم من الناقة واتفاقهم على نحرها 6/ نزول العذاب على القوم الكافريناقتباس
حديثنا اليوم عن قوم صالح -ثمود-، الذين فجروا العيون وغرسوا الحدائق والبساتين، ونحتوا من الجبال بيوتًا، وأمِنوا غوائل الدهر، ونوائب الحدثان، وكانوا في سعة من العيش ورغد ونعمة وترف، ولكنهم لم يشكروا الله، ولم يحمدوا له فضله، بل زادوا عتوًّا في الأرض وفسادًا، وبُعدًا عن الحق واستكبارًا، وعبدوا الأوثان من دون الله، وأشركوا به، وأعرضوا ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله منجي أوليائه ومهلك أعداءه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واحمدوه واشكروه وراقبوه، فإن خير الزاد التقوى.
عباد الله: حديثنا اليوم عن قوم صالح -ثمود-، الذين فجروا العيون وغرسوا الحدائق والبساتين، ونحتوا من الجبال بيوتًا، وأمِنوا غوائل الدهر، ونوائب الحدثان، وكانوا في سعة من العيش ورغد ونعمة وترف، ولكنهم لم يشكروا الله، ولم يحمدوا له فضله، بل زادوا عتوًّا في الأرض وفسادًا، وبُعدًا عن الحق واستكبارًا، وعبدوا الأوثان من دون الله، وأشركوا به، وأعرضوا عن آياته، وظنوا أنهم في هذا النعيم خالدون، وفي تلك السّعَة متروكون.
بعث الله -عز وجل- إليهم صالحًا عليه السلام، وكان من أشرفهم نسبًا، وأوسعهم حلمًا، وأصفاهم عقلاً، فدعاهم إلى عبادة الله، وحضّهم على توحيده، فهو الذي خلقهم من تراب، وعمر بهم الأرض، واستخلفهم فيها، وأسبغ عليهم نِعَمه ظاهرة وباطنة، ثم نهاهم أن يعبدوا الأصنام من دونه، فهي لا تملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا تُغني عنهم من الله شيئًا.
ذكّرهم بأواصر القُربى التي تربطه بهم، ووشائج النسب التي تصل بينه وبينهم، فهم قومه وأبناء عشيرته، وهو يحب نفعهم، ويسعى في خيرهم، لا يضمر لهم سوءًا، ولا يريد بهم شرًّا، وأمرَهم أن يستغفروا الله، ويتوبوا إليه مما اقترفوا من ذنب، واجترحوا من إثم، فالله -عز وجل- لمن دعاه قريب، ولمن سأله مجيب، ولمن أناب إليه سميع.
فما كان منهم إلا أن صمَّت منهم الآذان، وغُلّفت القلوب، وعمِيت الأبصار، فأنكروا عليه نبوَّته، وهزئوا بدعوته، وأنها بعيدة عن الحق الصدق، ثم لاموه فيها، أنّبوه على صدورها منه، وهو الراجح عقلاً، الصائب رأيًا، وقالوا له: يا صالح: عهدناك ثاقب الفكر، مصيب الرأي، وقد كانت تلوح عليك ملامح الخير وأمارات الرشد، وكنا ندّخرك لملمّات الدهر، تضيءُ ظلماتها بنور عقلك، وتحُل معضلاتها بصائب رأيك، وكنا نرجو أن تكون عُدتنا حين يحزب الأمر ويشتد الخطب، فنطقت هُجرًا، وأتيت نُكرًا. ما هذا الذي تدعونا إليه؟! أتنهانا أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا، وقد درجنا عليه، ونشأنا مُستمسكين به! إننا لفي شك مما تدعونا إليه مُريب، لا نطمئنّ إلى قولك، ولا نثق بصدق دعوتك، ولن نترُك ما وجدنا عليه آباءنا ونميل مع هواك وزيْغِك.
فحذرهم صالح عليه السلام من مخالفته، وأعلن فيهم رسالته، وذكّرهم بما أسبغ الله -عز وجل- عليهم من نِعمه، وخوّفهم بأسه وبطشه، وأبان لهم أنه لا يقصد من وراء دعوته إلى نفع، ولا يطمع في مغنم، ولا يتطلع إلى رياسة، وهو لم يسألهم أجرًا على الهداية، ولا يطلب جزاءً على النصيحة، وإنما أجره على الله رب العالمين، درءًا لكل شبهة قد تساور نفوسهم، ودفعًا لكل شك قد يجول في خواطرهم.
فآمن به بعض المستضعفين من قومه، أما الملأ الذين استكبروا فأصرُّوا على عنادهم، وتمادوا في طغيانهم، واستمسكوا بعبادة أوثانهم، وقالوا له: إنك قد خُولطت في عقلك، وضاع صوابك، وما نظنّ إلا أن أحدًا سلّط عليك شيطانه، أو أعمل فيك سحره، فأصبحت تهرف بما لا تعرف، وتنطق بما لا تفقه: فلست إلا بشرًا مثلنا، وما أنت بأشرفنا نسبًا، أو أفضلنا حسبًا، أو أوسعنا غنى وجاهًا، وفينا من هو أحق منك بالنبوّة، وأجدر بالرسالة، فما حملك على انتهاج هذه الطريق، وسلوك تلك السبيل، إلا رغبتك في تعظيم نفسك، وتطلُّعك إلى الرياسة على قومك.
حاولوا صده عن دينه، وصرفه عن دعوته، وزعموا أنهم إن اتبعوه حادوا عن الصراط المستقيم، وخالفوا الطريق القويم، فأعرض عن بهتانهم، ولم يستمع إلى غوايتهم، وقال: يا قوم: إن كنت على بيّنة من ربي، وآتاني منه رحمة، ثم اتبعت طريقكم، وسرت في سبيلكم وعصيت ربي، فمن يمنعني من عذابه، أو يعصمني من عقابه؟! إن أنتم إلا مفترون.
فلما وجدوا منه استمساكًا برأيه، واعتصامًا بحقه، خاف المستكبرون من قومه أن يكثر تابعوه، ويعظم ناصروه، وعزّ عليهم أن يكون المرشد للقوم، والملجأ عند الشدائد، والكوكب المنير إذا ادلهم الأمر، فينصرف الناس عنهم، ويفزعون إليه في كل شأن، ويطرقون بابه كلما حزبهم أمر وأهمهم، ولا شك أنه سيهديهم إلى ما يقرّبهم إلى الله، ويصدّهم عما يُنئيهم عنه، فخافوا زوال دولتهم، وذهاب سلطانهم، وأرادوا أن يظهروا للناس عجزه، فطلبوا منه أن يأتيهم بآية يتبيّنون بها صدق دعوته، ومعجزة ظاهرة تصدّق رسالته. فقال لهم: هذه ناقة لها شِرْبٌ ولكم شِربُ يوم معلوم، فذَرُوها تأكل في أرض الله.
لم ير الناس قبلاً ناقة تستأثر يومًا بمائهم، ولم يعهدوا غيرها يَكُفُّ يومًا عن شربهم، ولا شك أن صالحًا عليه السلام قد عهد فيهم إصرارًا على الكفر، واستمساكًا بالباطل، وعلم أن المنكر يُفزعه ظهور حجّة خصمه، ويخيفه وضوح برهانه، بل يحرك كامن غيظه ومستور حقده قيام شاهده، وقوة آيته، لذلك خاف إقدامهم على قتل الناقة، وحذّرهم من الفتك بها، فقال لهم: (وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ) [هود:117] .
مكثت الناقة بينهم زمنًا تأكل في أرض الله، ترِد الماء يومًا، وتصدر عنه يومًا، ولا شك أن قيامها قد استمال إليه كثيرًا من قومه، إذ استبانوا بها صِدْقَ رسالته، وأيقنوا بصحة نبوّته. فأفزع ذلك المستكبرين من قومه، وخافوا على دولتهم أن تبيد، وعلى سلطانهم أن يزول، فقالوا للمستضعفين من قومه وهم الذين أشرق نور الإيمان في قلوبهم، وعمرت به صدورهم، واستضاءت إليه أفئدتهم: (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [الأعراف:75]. فلم تلن قناة القوم، ولم يخفِّفوا من غلوائهم، بل أعلنوا كفرهم، وصارحوهم بتكذيبهم وقالوا لهم: (إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَافِرُونَ) [الأعراف:76].
كل ذلك وغيره حملهم على الإقدام على عقر الناقة، ودفعهم إلى قتلها، رغمًا من تحذيرهم بالعذاب وتوعُّدهم بالهلاك إن مسُّوها بسوء من نبي الله صالح عليه السلام.
ومع ذلك بقوا زمنًا لم يجرؤا على إيذائها، ولم يتقدم أحد إلى مسها بسوء، ثم عزموا على قتل الناقة، آية صالح البينة، وحجته البالغة، فانطلقوا إلى الناقة يرصدونها، وخرجوا يرقبونها، فلما صدرت من وردها، ورجعت عن مائها، رماها أحدهم بسهم انتظم عظم ساقها، وابتدرها قدار بن سالف -عاقر الناقة- بالسيف، فكشف عن عرقوبها، فخرت على الأرض، ثم طعنها في لبتها فنحرها: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) [الأعراف:77]، ورجعوا يزفون البشرى إلى أعوانهم، واستخفوا بوعيد الله، وقالوا: يا صالح: ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين، قالوا ذلك تحديًا.
وسنكمل في الخطبة الثانية إن شاء الله، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بهدي كتابه وسنة خاتم أنبيائه، وأن يجعلنا هداة مهتدين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا *إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) [الشمس11 :15].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، ورحم الله امرءًا اتعظ بغيره. واستكمالاً لحديثنا عن قصة صالح عليه السلام مع قومه نقول وبالله التوفيق: إن صالحًا عليه السلام قال لقومه بعد أن عقروا الناقة وقتلوها: قد حذرتكم إن أصبتموها بأذى، ولكنكم قد اجترحتم الذنب، فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام يأتيكم بعدها العذاب، ويحل عليكم في نهايتها العقاب، ذلك وعد غير مكذوب.
مع ذلك كذبوا وعادوا في الضلال واستعجلوا العذاب تحديًا، ثم قالوا لصالح: ( اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) [النمل:47]، أي تشاءمنا بك وبمن معك، واجتمع نفر من قومه وتقاسموا على أن يتسللوا إليه في جُنْح الظلام، ويباغتوه وأهله والناس نيام، فيوقعوا به دون أن يراهم أحد، وجعلوا ذلك سرًّا بينهم، فبيّتوا له الشر، وأضمروا له ولأهله القتل، ظنًّا منهم أن ذلك يعصمهم من العذاب، ولكن الله -عز وجل- لم يُمهلهم، بل أحبط مكرهم، وردّ إليهم كيدهم، ونجّاه مما أرادوا به، وأنقذه الله والذين آمنوا معه من العذاب، وأنزل بالكافرين عقابه تصديقًا لوعده: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِم جَاثِمِينَ) [هود:67] .
ولم يمنعهم ما شادوا من قصور شامخة، وما جمعوا من أموال وافرة، وغرسوا من جنات واسعة، ونحتوا من بيوت آمنة.
ورأى صالح عليه السلام ما حلّ بهم؛ إذ أصبحت جثثهم هامدة، وديارهم خاوية، فتولى عنهم والأسى يملأ نفسه، والحسرة تقطع نِياط قلبه: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف:79].
لقد أخذتهم الصيحة التي تحصل منها الزلزلة الشديدة، فأصبحوا ساقطين على وجوههم ميتين هامدين لا يتحركون، وقد روى أحمد والإمام البخاري والإمام مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحجر -أي في عزوة تبوك-، وهي مدائن صالح حاليًا قرب تبوك، قال لأصحابه: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكون باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم"، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي.
عباد الله: هذه لمحة عن قصة نبي الله صالح عليه السلام مع قومه، أسأل الله لي ولكم الاعتبار والموعظة وأخذ الدروس المفيدة منها.
ومن أراد الاستزادة ففي كتب التفسير المزيد، فاقرؤوا كتاب الله واتعظوا بما جاء فيه من العبر والعظات والقصص.
وصلوا وسلموا -عباد الله- على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
التعليقات