قسام (1)

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-03 - 1436/02/11
عناصر الخطبة
1/استمرار إرهاب دولة يهود في فلسطين 2/كيف أقام اليهود دولتهم؟ 3/فلسطين قضية المسلمين جميعا 4/بعض جرائم دولة يهود في حق الشعب الفلسطيني 5/أسباب هوان المسلمين وبعض عوامل انتصارهم 6/بعض واجبات المسلمين تجاه فلسطين 7/مكانة فلسطين في الإسلام 8/مآثر وتضحيات المسلمين من أجل فلسطين عبر التاريخ
اهداف الخطبة

اقتباس

إننا لا نستطيع مواجهتهم إلا بالإسلام، وبالإسلام وحده ننتصر -بإذن الله-، وبالإسلام يتصحّح الخلل وتستمد أسباب النصر، ومقومات الصمود، فليس الصراع مع اليهود صراعاً موسمياً، بل بدأ صراعنا معهم منذ نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وجاهر بها أسلافهم بعد ذلك من...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

ولا يزال الإرهاب الصهيوني جرح يتدفق على أرض فلسطين.

 

نعم، قد تأتي أحداث جديدة، فيُنسي آخرها أولها، لكن ما يحصل هذه الأيام بالذات، وفي فترة انشغال العالم بأحداث أخرى، فإن مجازر وحشية تُمارس هذه الأيام على أرض فلسطين.

 

لذا كان لا بد من التذكير بهذه القضية، وكلما تجدد الإرهاب اليهودي هناك كان لزاماً على المسلمين في كل مكان أن يعيدوا هم أيضاً طرح قضيتهم كل في مجاله واختصاصه، وبقدر طاقته.

 

إنها فلسطين -أيها الأحبة- نكبة النكبات في زمن التخاذلات.

 

فلسطين التي يدمي جرحها كل يوم.

 

فماذا فعلنا لها؟ وماذا قدمنا من تضحيات؟ وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟

 

حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفةٍ شبّت، ثم انطفأت أكثر من خمسين سنة، من تاريخ صراعنا مع اليهود، مع نكبة فلسطين، أكثر من خمسين سنة وفلسطين ومقدساتها تحت نير احتلال الصهاينة اليهود.

 

أكثر من خمسين سنة وأمتنا من نكبة إلى نكسة ومن تشرذم إلى خلافات.

 

أكثر من خمسين سنة وأمتنا الإسلامية تُنهش من أطرافها وأوساطها، ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب.

 

أيها المسلمون: كان اليهود شراذم وأقليات في بقاعٍ شتى من العالم، فعزموا على إعادة بناء أنفسهم بجدية، فأنشأوا حركة صهيونية تعمل وفق خطة مدروسة واضحة المعالم بوصاية بريطانية، وبدعم من قادتهم، واجتمع هدف اليهود والنصارى اللذين لم ينسوا الأحزاب وخيبر وبلاط الشهداء وحطين.

 

إن اليهود رفعوا منذ بدأت معركتهم رايةً واحدة هي راية التوراة، واندفعوا وراء غاية واحدة هي أرض الميعاد، فأسموا دولتهم باسم نبي هو يعقوب -عليه السلام- أو إسرائيل، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، وخاضوا معاركهم خلف الأحبار والخامات، وجعلوا لدولتهم بكل توجهاتها شعاراً واحداً هو نجمة داود، وقبلتهم هيكل سليمان الذي يريدون بناءه مكان المسجد الأقصى -كما يزعمون-.

 

إنها أكثر من خمسين سنة على قيام دولة يهودية أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع، والهزائم المنكرة، والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعددة من اشتراكيةٍ وقومية وتقدمية أو بعثية أو رافضية.

 

إنّ الذي هُزم وتراجع أمام اليهودية ليس هو الإسلام، بل مسميات أخرى بعيدة عنه مُشوِّهة له، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام، بل العلمانية.

 

الإسلام الذي لم يمكّن حتى الآن من التصدي لتلك المعركة العقائدية مع اليهود.

 

أيها الإخوة المؤمنون: بعد كل ذلك هل نستفيد من التاريخ؟ هل نرجع إلى الماضي لنقوّم الحاضر؟ هل لليل فلسطين من آخر؟ وهل لفجرها من موعدٍ؟

 

إن اليهود بما يملكون من قوى سياسيةٍ أو عسكرية أو اقتصادية أو إعلامية، هم أضعف بكثير مما يتصورهم عدد من الناس.

 

لكننا لا نستطيع مواجهتهم والوهن كامنٌ في نفوسنا، والمهابة منزوعة من صدور أعدائنا، وإعلامُهم ونظامُهم ينسج الحقيقة من وجهة نظرهم وحدهم.

 

إننا لا نستطيع مواجهتهم إلا بالإسلام، وبالإسلام وحده ننتصر -بإذن الله-، وبالإسلام يتصحّح الخلل وتستمد أسباب النصر، ومقومات الصمود، فليس الصراع مع اليهود صراعاً موسمياً، بل بدأ صراعنا معهم منذ نبوة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وجاهر بها أسلافهم بعد ذلك من بني قريظة وقينقاع وبني النضير، وعبد الله بن سبأ، وميمون القداح.

 

إن قضية فلسطين قضية إسلامية بالدرجة الأولى، وإن الصراع سيستمر، وهو صراع بين الإسلام والتحالف الغربي الصهيوني.

 

والجهاد الذي بدأه الأوائل سيستمر -بإذن الله-.

 

ويجب أن يعلم المسلمون: أن لا ثقة بوعود الغرب ودولة عاد هي راعية السلام المزعومة! وأنه من السذاجة، وهزال الرؤية: أن نستجدي الغرب ليساعدنا على اليهود، أو يوقفهم عن ارتكاب المجازر في حق شعب يعتبرونه همجياً وإرهابياً.

 

وإن نكبةً مثل فلسطين لا تسترد بالحلول السهلة، أو بالمؤتمرات والخطب فقط، أو بالجلوس مع يهود في مفاوضات سلامٍ لا تبحث إلا عن رضاء يهود ومصالح يهود.

 

وإن البحث عن حل لهذا الواقع المتردّي، هو: أول الوسائل للنصر.

 

أيها المسلمون: لقد هانت هذه الأمة حين ظهر فيها تفرق الكلمة، واختلاف الأغراض، وتجاذب الأهواء.

 

لقد برزت فيها الأحقاد، شُغل بعضهم ببعض، انقسموا إلى قوميات، وتفرقوا في دويلات، لهم في عالم السياسات مذاهب، ولهم في الاقتصاديات مشارب، استولت عليهم الفرقة، ووقعت عليهم الهزيمة، بل نهش بعضهم بعضاً، وسلب بعضهم حقوق بعض، حتى صيح بهم من كل جانب، فانصرفوا عن قضاياهم الكبرى، واستغل الأعداء الأجواء.

 

وفي هذه الأجواء المظلمة، والأحوال القاتمة يزداد الصهاينة في مقدساتنا عتواً وفساداً وتقتيلاً وتخريباً، يريدون في زعمهم أن يبنوا هيكلهم المزعوم على أنقاض ثالث المسجدين، أو أن يُجهضوا انتفاضة الحجر لأطفال فلسطين ورجالها ونسائها.

 

ألا ساء ما يزعمون، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار والمسكنة لمن غضب عليه: (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ)[المائدة: 60].

 

لقد تبين لكل ذي لب أن النزاع مع هؤلاء الصهاينة نزاع هوية ومصير، وعقيدة ودين، وإن حقوق الأمة لن تُنال بمثل هذا الخور.

 

لقد أوضحت الانتفاضة كما أوضحت البوسنة والشيشان وغيرها من بلاد الله، أن الجهاد في سبيل الله هو السبيل الأقوم، والطريق الأمثل لأخذ الحق، والاعتراف به.

 

وأيقن المسلمون أن راية الدين إذا ارتفعت تصاغرت أمامها كل راية.

 

إن حقاً على أهل الإسلام: أن تربيهم التجارب والوقائع، وتصقلهم الابتلاءات والمحن، وإن بلوى نكبة فلسطين وتكرارِ ذكرِها ينبغي أن يكون دافعاً لنا لا محبطاً، محركاً للجهود لا جالباً لليأس من عدم النصر، فلا: (يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف:87].

 

ومن الابتلاء ما جلب عزاً، وخلّد ذكراً، وكتب أجراً، وحفظ حقاً.

 

كيف تحلوا الحياة لمن يضيّع دياره؟ وإذا ضاع الحِمى فهل بعد ذلك من خسارة؟

 

ولتعلموا: أن الكفاح في طريق مملوء بالعقبات الكؤود عند أصحاب الحق والكرامة والصرامة ألذ وأجمل من القعود والتخلف من أجل راحة ذليلة، وحياة حقيرة، لا تليق بهمم الرجال.

 

وإن صاحب الحق لا بد له من المدافعة عن حقه، وتهيئة كل أسباب القوة لانتزاع حقه من أيدي الغاصبين، والانتصار لا يتحقق للضعفاء، فلا حل إلا بالجهاد، ولا بد من الإعداد: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)[الأنفال: 60].

 

أيها المسلمون: إن الشدائد والنوازل التي أصيب بها المسلمون خلال أكثر من خمسين عاماً في فلسطين تستجيش مكنون القوى، وكوامن الطاقات.

 

وعندما تدلهم الخطوب والأحداث يتميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والثقة من القنوط.

 

وإن التساؤلات التي تفرض نفسها في حال فلسطين ونكبتها لتبين لنا كيف جبنت الهمم، وضعفت العزائم، وخارت القوى عن تقديم أبسط وسائل النصرة لشعب فلسطين الذي يقصف صباح مساء على أيدي الصهاينة اليهود، والمسلمون لا يتكلمون، بل علّقوا آمالهم على سلام مهترئ يسمى زوراً وبهتاناً: "سلام الشجعان" أو على مبادرات تؤخر ولا تقدم، وتَعِدُ ولا تُنجز، فأي سلام هذا الذي يهدم البيوت ويزرع المستوطنات، ويشرد من الديار، ويحاصر الشعوب، ويقتل الآلاف وينتهك المقدسات؟! سلامٌ يلغي الكرامة، ويولي مجرمي الحرب رؤساء ومفاوضين.

 

إنها صورٌ مأساوية للبغي وإرهاب ما بعده إرهاب على شعب فلسطين يراها العالم بكل فئاته، فلا يحرك ساكناً.

 

حتى الحس المسلم تبلّد، فما أصبح له أثر.

 

إنهم الإرهابيون المتوحشون -كما يزعم- شارون حين يقصِفهم وجنوده في منازلهم وفي طرقاتهم وعلى أسرّتِهم بدعوى مقاومة الإرهاب، وإنما هم أطفال لم يحركوا ساكناً، والعالم صامت! طفلة ذات الأربعة أشهر يقصفها اليهود بقذيفة تشق صدرها بدعوى مقاومة الإرهاب في فلسطين: (بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)[التكوير: 9].

 

وهي بطفولتها البريئة في مهد جنازتها إنما ترينا جبننا وخورنا عن نصرة قضية فلسطين ونحن صامتون.

 

لقد ماتت بالسلاح الصهيوني الذي لا زال حتى الآن يهدم البيوت، ويقصف الآمنين، ونحن عابثون لا هون عن نصرتهم.

 

إن الله سائلنا ولا شك عما قدمناه من نصرة لهؤلاء الضعفاء الذين خذلهم القريب قبل البعيد، أين أبسط أدوار المناصرة التي نقدمها إلى فلسطين؟

 

إنه ليس من عذرٍ لأحد اليوم يرى مقدساته تنتهك، ويرى أطفالاً أبرياء يقتلون في أسرهم، ويهود متسلطون، ثم لا يدعم إخوانه هناك، ولا يتأثر لمصابهم، بل قد يتلهى عنهم بأنواع من الملهيات، فأين أخوة الإسلام؟ بل أين نخوة عرب وعدنان؟ ألم تروا جنائز الشهداء وتسمعوا بكاء النساء؟.

 

وفي المحيا سؤال حائر قلق *** أين الفداء وأين الحب في الدين

أين الرجولة والأحداث دامية *** أين الفتوح على أيدي الميامين

ألا نفوس إلى العلياء نافرة *** توّاقة لجنان الحور والعين

يا غيرتي أين أنتِ أين معذرتِي *** ما بال صوت المآسي ليس تشجيني

 

إن الناظر فيما أصاب المسلمين من ابتلاءٍ هذه الأيام يرى اختلافاً في مواقف الناس من صابر ثابت، وجَزعٍ خائف، ظهر في بعض مسالك أقوام تعلقٌ بغير الله، واعتمادٌ على أسباب لا تغني عنهم من الله شيئاً.

 

ومن هنا، فحقيقٌ بالأمة أن تعي حالها، وتنظر في واقعها لمستقبلها.

 

أيها المؤمنون بالله ورسوله: إن هذه الأمة أمةُ جهادٍ ومجاهدة، والجهادُ فيها أرفعُ العبادات أجرًا، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا تستطيعونه، قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا، وهو يقول: لا تستطيعونه، وقال في الثالثة: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفترُ من صيامٍ ولا صلاةٍ، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله"[متفق عليه].

 

أيها المسلمون: إن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ العدد والعُدة الظاهرة بين المؤمنين وعددهم، سيما اليهودُ الجبناء، فيكفي المؤمنين أن يُعدّوا ما استطاعوا من القوى، وأن يتقوا الله، ويثقوا بنصره، ويثبتوا ويصبروا: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا)[آل عمران: 120].

 

وإن الانتصار على النفس وشهواتها والخذلان وآفاته انتصارٌ على الشح والغيظ والذنب، والرجوع إلى الله والالتصاق بركنه الركين فيه النصر على الهزائم والنكبات التي طالت في الأمة، وإن الأعداء ما كانوا أعداء إلا لمخالفتهم أمر الله، فإذا اشترك الفريقان في المعصية والمخالفة، فليس هناك مزية، فالمؤمن حين يعادي ويعارك ويجاهدُ فهو إنما يعادي لله ويعارك لله ويجاهدُ في سبيل الله.

 

أيها الإخوة المؤمنون: إن المأساة أليمة، والخطب جسيمٌ، والذي يحدث هو مسؤولية على كل من رآه أو علم به.

 

وإننا -والله- مسؤولون عن مناظر القتل التي يمارسها يهود على إخواننا في فلسطين، وكثير منا لا يحرك ساكناً، بل لديهم الوقت لمتابعة مباراة كروية، أو حفلات غنائية.

 

والله إننا نخشى أن يصيبنا الله بعقوبة من عنده إن لم نقم بأدنى واجبات النصرة لهم.

 

أيها المسلمون: إن أسلحة المال والدعاء لها أعظم الأثر -بإذن الله- في دعم إخواننا المسلمين، ودحر اليهودِ الغاصبين.

 

وإنه ليس من عذر لأحدٍ منا اليوم يرى مقدساته تنتهك، ويرى أطفالاً أبرياء يقتلون في حجر آبائهم، ويهود متسلطون، ثم لا يدعم إخوانه هناك، أو يتأثر لمصابهم.

 

فنسأل الله -تعالى- الفرج لهذ الأمة ...

 

نفعني الله وإياكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد أصبحنا في زمن لا يدري المسلم أيّ الأحداث يتابع؟ وأيّ المآسي يعطيها الأولوية؟

 

نعم، هناك جراحات في هذه الأيام تفتت كبد الحجر قبل الإنسان، ويجد المسلم مضطراً أن يتابعها أولاً بأول، لكن لا ننسى ولا يجوز لنا أن ننسى مصيبتنا الأولى فلسطين، والتي من أجلها ذرفت عيون، ومن أجلها شد الرجال عزائم الأبطال، وأحيوا في نفوسهم الحماسة والنضال.

 

إنها فلسطين! أرض القدس أولى القبلتين، وثالث المسجدين، ومسرى نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

 

إنها فلسطين! الأرض المباركة بنص كتاب الله، قال الله -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)[الإسراء: 1].

 

وقال عز وجل: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً)[سبأ: 18].

 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس".

 

إنها فلسطين! أرض الأنبياء والمرسلين، فعلى أرضها عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيى وعيسى -عليهم الصلاة وأتم السلام-.

 

إنها فلسطين! التي تبسط عليها الملائكة أجنحتها ؛فعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا طوبى للشام! يا طوبى للشام!" قالوا: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: "تلك الملائكة باسطة أجنحتها على الشام"[حديث صحيح].

 

إنها فلسطين! أرض المحشر والمنشر ؛فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس؟" قال: "أرض المحشر والمنشر".

 

إنها فلسطين! موئل الطائفة المنصورة الثابتة على الحق؛ فعن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك"، قيل يا رسول الله: وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس"[رواه الإمام أحمد].

 

إنها فلسطين! مصرع الدجال ومقتله، حيث يلقاه عيسى -عليه السلام- عند باب "لد" فيذوب كما يذوب الملح في الماء، فيقول له: "إن لي فيك ضربة لن تفوتني ،فيضربه فيقتله"[رواه مسلم].

 

إنها فلسطين! موطن الكثير من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد عاش على أرضها عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأسامة بن زيد بن حارثة، وواثلة بن الأسقع، وفيروز الديلمي ،ودحية الكلبي، وعبد الرحمن الأشعري، وأوس بن الصامت، ومسعود بن أوس، وغيرهم من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم-.

 

إنها فلسطين! موطن الآلاف من أعلام الأمة وعلمائها الذي أضاؤوا في سمائها بدوراً، ولمعوا فيها نجوماً؛ كمالك بن دينار، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وابن شهاب الزهري، والشافعي، وابن قدامة المقدسي، وغيرهم.

 

نعم، هذه هي فلسطين بعِبقها وتاريخها، بخيراتها وبركاتها وفضائلها، بشموخها وكبريائها.

 

هذه هي فلسطين بجمالها الساحر، وحسنها الفتّان:

 

أقول والقلب يشدو في خمائلها *** هذا الجمال إلى الفردوس ينتسب

يا للجبال إذا ما زُيّنت وعلى *** سفوحها غَرّد الزيتون والعنب

يا للربى والمروج الخضر مصبحة *** والورد من كل لون منظر عَجَب

هنا السموات بالأرض التقين وقد *** عم السرور جميع الكون والطرب

هذي فلسطين يا من ليس يعرفها *** كأن أحجارها القدسية الشهبُ

 

نعم، هذه فلسطين -يا عباد الله- ما أحببناها لترابها ولا لجبالها، ولكن لبركاتها وخيراتها، ولما لها ولمسجدها الأقصى من مكانة في ديننا.

 

إنها فلسطين -أيها الأحبة-: شد الأبطال عزائمهم، وأسرجوا خيولهم، وطاروا يسابقون الريح.

 

إنها فلسطين! أراق الشهداء دماءهم، وبذلوا أرواحهم رخيصة لأجلها.

 

كم سجل التاريخ من مواقف عظيمة لأبطال عظماء هبوا دفاعاً عن فلسطين، وبذلوا كل غالٍ ونفيس.

 

لقد سار إليها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- على بعير يعتقب عليه هو وغلام له، حتى إذ اعترضته مخاضة نزل من بعيره فنـزع خفّه وخاض في الماء!.

 

ثم لما وصل إلى بيت المقدس صلى في محراب داود -عليه السلام-، وترنم ب"سورة الإسراء".

 

إنها فلسطين! امتنع الملك البطل نور الدين زنكي عن التبسم، وقال: أستحي من الله أن أتبسم وبيت المقدس في الأسر!.

 

فوقف هذا الملك الفذ على تل وسجد لله، ومرغ وجهه في التراب، ودعا ربه، وقال: اللهم انصر دينك، ولا تنصر محموداً!.

 

ثم لقي الصليبيين الذين استولوا على بيت المقدس، لقيهم بثلاثين ألفاً، وهم أزيد من مئة وخمسين ألفاً، فكسرهم وقتل منهم عشرة آلاف، وأسر عشرة آلاف.

 

إنها فلسطين! شمخ صلاح الدين برأسه، وشحذ سيفه، وأعد عدته، ليُخرج الصليبيين من أرض الأقصى.

 

كان في بيت المقدس نحواً من ستين ألف مقاتل صليبيّ، كلهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها.

 

فجهّز صلاح الدين جيشه الذي لا يزيد عن اثني عشر ألف مقاتل، وجابه به جيوش الفرنجة التي تجاوز عددها ثلاثة وستين ألف مقاتل.

 

والتقى الفريقان على أرض حطين، وحاصر المسلمون الصليبيين، وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم.

 

فاجتمع عليهم حر الشمس، وحر العطش، وحر النار، وحر السلاح.

 

ثم أمر صلاح الدين بالحملة الصاعقة، فمنح الله المسلمين أكتاف الفرنج، فقتلوا منهم ثلاثين ألفاً، وأسروا ثلاثين ألفاً، وبيع الأسير الصليبي يومئذ بدرهم، بل باع مسلمٌ أسيراً صليبياً بنعلين! فقيل له: ما أردت بذلك؟ قال: أردت أن يكتب التاريخ هوانهم، وأن أحدهم بيع بنعلين!.

 

وقد كتب التاريخ ذلك.

 

إنها فلسطين! جرد العملاق مظفر قطز سلاحه، ووقف على عين جالوت ليصد عن فلسطين ومصر طوفان التتار الهادر.

 

لقد بعث له هولاكو وهو في الأشهر الأولى من ملكه رسالة، يقول له فيها: اتعظوا بغيركم فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا، أي أرض تؤويكم؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟

 

فما لكم من سيوفنا من خلاص، ومن مهابتنا مناص، الحصون عندنا لا تُمنع، والعساكر لقتالنا لا تَنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع!

 

قرأ قطز هذه الرسالة العاصفة، ثم ألقى ببصره ناحية القدس.

 

وفي رمضان من عام 658هـ، اصطدم الجبلان في عين جالوت شمالي شرق فلسطين، وصاح قطز صيحته الشهيرة: "وا إسلاماه!".

 

فانتفض الجند المسلم، ومنح الله للمسلمين أكتاف الكافرين، وترجل قطز عن فرسه، ومرغ وجهه في التراب شكراً لله.

 

إنها فلسطين! ضحى السلطان عبد الحميد بعرشه وملكه، وصك سمع هرتزل بكلماته المدوية: لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من فلسطين؛ لأنها ليست لي، بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها.

 

إنها فلسطين! وقف الشيخ يوسف الجرار شيخ الجبل -رحمه الله- أمام حملات الفرنسيين، وتمكن وحده مع قلة من جنده أن يدوخ نابليون القائد الشهير الأسطوري الذي دوخ العالم، واستطاع هذا الشيخ بمن معه أن يصد جيوشه عن عكا، ومن ثم عن فلسطين، وأن يبخّر أحلامه بتأسيس إمبراطورية تمتد من مصر والشام، وصحارى الجزيرة إلى العراق وإيران والهند.

 

وقد بلغ الغيظ بنابليون من هزيمته أمام الشيخ يوسف أن وقف بجوار سور عكا وقذف بخوذته إلى الأعلى، وقال: إن لم أدخل أنا فلتدخل خوذتي.

 

إنها فلسطين! قام الشيخ المجاهد عز الدين القسام، ليكون شوكة في حلوق أبناء القردة والخنازير.

 

قام بإمكاناته المتواضعة، وعُدده اليسيرة، ليجابه مدافع اليهود ورشاشاتهم وقنابلهم.

 

لقد باع بيته الوحيد في حيفا، وباع حليّ زوجته، وبعض أثاث بيته، ليوفّر الرصاص والبنادق!.

 

وتمكن القسام من أن يقض مضاجع اليهود سبع سنوات كاملات، إلى أن بذل روحه بعد معركة دامية.

 

نعم، يا فلسطين من أجلِكِ نهض هؤلاء!.

 

فِدى لِعينيك رِبّيون ما وهنوا *** تُجددين بهم أيامَكِ الأُوَلا

خضر الطيور هم العليا منازلُهم *** كلٌ يغرّد في قنديله جذلا

 

أيها المسلمون: واليوم انتفض أبناء الحجارة يحملون حصى أرضهم وترابها ليرموا بها وجوه الدخلاء الغاصبين.

 

لقد نطقت حجارتهم حين أُخرست المدافع، ووقّعوا بدمائهم شهادة ميلاد جيل جديد لا يؤمن بالخوف، ولا يعترف بالعجز، ولا يرضى بالهوان، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

 

وهو يوم قادم -بإذن الله -تعالى-، نقول ذلك تحقيقاً لا تعليقاً.

 

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا ...

 

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، وعبادك الصالحين.

 

اللهم واحفظ دماء المسلمين وأعراضهم في كل مكان.

 

اللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، ووحد صفهم، وبلغهم فيما يرضيك آمالهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين.

اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء، اللهم فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيره تدميراً عليه.

 

اللهم أحقن دماء المسلمين، واحم اللهم نساءهم وأطفالهم وشيوخهم وبلادهم وأموالهم.

 

اللهم عليك باليهود والنصارى، فإنهم لا يعجزونك.

 

اللهم أحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، ولا تغادر يا ربي منهم أحداً.

 

اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والكفر، والزيغ والعناد، وانشر رحمتك على العباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المآب.

 

اللهم يا ولي الصاحين، ويا ناصر عبادك المستضعفين، نسألك اللهم أن تعين وتنصر إخواننا في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان.

 

اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم، واحفظهم اللهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم ...

 

اللهم بلغنا رمضان ...

 

اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ...

 

 

المرفقات
قسام (1).doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life