عناصر الخطبة
1/ حسن الخلق من أصول التدين 2/ القاعدة النبوية في أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك بهاهداف الخطبة
اقتباس
هذه القاعدة هي القانون العادل للحياة، فمقاربتها مقاربة للصلاح والإصلاح، ومجانفتها مجانفةٌ لسبل الصلاح والإصلاح؛ إذ لا أحد من العقلاء يرضى أن يستخفَّه الناسُ، أو يسخروا من خِلقته، أو يحقِّروا من شأنه، أو يطعنوا في نسبه وشرفه، أو ينالوا من عرضه، أو يأكلوا ماله بالباطل. إذا كنت لا ترضى من الناس أن يعاملوك بشيء من هذه المعاملات، فإن الناس –كذلك- لا يرضون منك إلا ما رضِيْتَه لنفسك ..
أما بعد: فإن الدين باطنٌ وظاهر، جوهر ومظهر، قولٌ وعمل، عبادةٌ ومعاملة، فكرٌ وسلوك، علمٌ وعمل؛ والشرائع كلُها لم تأت لتصحيح التصورات والمشاعر القلبية فحسب، بل جاءت لهذا ولما هو أبعد من هذا، وإذا كانت الشريعة قد جاءت لتصحيح علاقة المرء بربه، فقد جاءت –كذلك- بتصحيح علاقته بالناس، من خلال تصحيح الأخلاق وتهذيبها.
لم تجعل الشريعةُ تصحيحَ الأخلاق من قَبيل المستحَبات التي يسعُ المسلمَ تركُها؛ كذلك، لم يرضَ الشرعُ الحكيمُ أن يكون خطابه في إصلاحِ الأخلاق خطاباً مجملاً بأدلة عامة مقتضبة؛ لأن مقامَها من الدين مقامٌ رفيعٌ يوجب أن تكون أدلتُها أكثرَ إيراداً وتفصيلاً، وأن تكون محكمةً بقواعدَ وضوابطَ مُفصَّلةٍ.
وكذلك شأن الأخلاق في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فأكثرُ الأحكام تفصيلاً في كتاب الله هي الأحكام المتعلقة بالأخلاق، وأكثر الأحكام تفصيلاً في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي الأحكامُ المتعلقة بمُخالقة الناس؛ حتى فصَّلت في آداب ابتداء السلام وردِّه، وفي آداب الأخذِ والإعطاء، وفي آداب المجلس والحديث، بل جاءت نصوصُ السنة لتفصِّلَ تفصيلاً آخرَ في آداب المعاملة والمخالقة، ففصلت في آداب معاملة الوالدين، والزوجة، والخادم، والصغير، والكبير، بل وجاوزت ذلك إلى البهائم.
وإذا كان من أصول التدين حسنُ العبادة لله وتوحيدُه وإقامةُ فرائضه، فإن من أصول التدين كذلك حسنَ الخلق والمعاملةِ، كما يشهد لذلك قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "إنما بعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق".
هذا الحديث يدل على أن حسن الخلق أصل عظيم من أصول التدين، لا يجوز إهمالُه، ولا احتسابه من مستحَبَّات الشريعة، ومن المعلوم أن القيام بأصل لا يغني عن القيام بالأصول الأخرى، فتوحيد الله أصل عظيم؛ لكنه لا يغني عن غيره؛ كما أن غيره لا يغني عنه.
ومَن تتبَّع نصوصَ الكتابِ والسنة، وجد فيها قواعدَ تنتظمُ أحكامَ المعاملة والمخالقة، ومن المؤسف أن يتتبَّعَ بعضُنا قواعدَ التعامل والأخلاق في كلام الحكماء والأدباء ويتغافل عن قواعد ذلك في كتاب الله -جل جلاله-، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
من القواعد الشرعية في التعامل ما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فمن سرَّه أن يُزَحزح عن النار ويُدخلَ الجنةَ فلْتُدركْه منيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ولْيأتِ إلى الناس الذي يُحب أن يَأتوا إليه".
إنَّ معنى هذا أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وألا تعاملهم بما تكره أن يعاملوك به، ويشهد لهذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؛ وهذه قاعدة عظيمة في أصول المخالقة والمعاملة، لو التزمها الناس في تعاملهم لانكفَّ شرُّهم عن الآخرين، ولَما وصل الناسَ منهم إلا كلُّ خير.
هذه القاعدة هي القانون العادل للحياة، فمقاربتها مقاربة للصلاح والإصلاح، ومجانفتها مجانفةٌ لسبل الصلاح والإصلاح؛ إذ لا أحد من العقلاء يرضى أن يستخفَّه الناسُ، أو يسخروا من خِلقته، أو يحقِّروا من شأنه، أو يطعنوا في نسبه وشرفه، أو ينالوا من عرضه، أو يأكلوا ماله بالباطل.
فإذا كنت لا ترضى من الناس أن يعاملوك بشيء من هذه المعاملات، فإن الناس –كذلك- لا يرضون منك إلا ما رضِيْتَه لنفسك، إنه لا معنى أن تغضب من احتقار الناس لقدرك ما دمت مقيماً على هذا الخلقِ الذميم (احتقارِ الناس).
لا معنى أن يستفزَّك طعنُ الناس في نسبك، أو لمزُهم لقبيلتك، وأن تغضب لذلك، ما دمت لا تجد حرجاً أن تطعن في أنسابهم، وتلمزَ عشيرتَهم؛ ولا معنى أن تحاول تأديبَ زوجتك لاستهانتها ببعض حقوقك ما دمت مضيعاً لحقوقها، مهيناً لكرامتها؛ وإذا كان الرجلُ قد استمرأ أن يأكل أموال الناس بالباطل غشاً وخداعاً، فلا معنى لِأَنْ يغتاظَ منهم إن هم غَشُّوه وخادَعوه؛ فهم لم يعاملوه إلا بما كان يعامل به غيرَه!.
وبهذه القاعدة الشرعية -قاعدة أن تعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به- يقومُ ميزانُ القسط بين الناس بالحق والعدل، وهذه القاعدة الشرعية الجليلةُ تحملُ الإنسانَ على أن يُنصِفَ الناسَ من نفسه أَنْ تطغَى عليهم، أو تظلمَهم، ولو لم يسعَوا لذلك، أو يطالبوا به.
هذه القاعدة الشرعية تقتل في الإنسانِ روحَ الأثرة، ونزعة الأنانية الشيطانية، التي تسول له أن يعامل الناس بغير معيار ولا ميزان؛ إلا ميزان الهوى الذي ترجح فيه كفة المصلحة الشخصية؛ لتحيا مكانها -ببركة هذه القاعدة النبوية- روحُ التجرد والنـزاهة والإنصاف.
وبهذه القاعدة الجليلة عالج القرآن والسنةُ نزَعاتِ الهوى، ونفَثاتِ الأنانية البغيضة. اقرأ القرآنَ؛ لتجد فيه قولَه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ، وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة:267]. فأَمَرَهم أن يُخرجوا الزكاة من أموالهم المكتسبة وما أخرجته الأرض من الحبوبِ والثمار، ثم نهاهم أن يقصدوا الرديء في إخراج الزكاة ليستأثروا هم بالجيد، وجاء النهي –هنا- على وفق هذه القاعدة الجليلة، مقبِّحاً منهم أن يعمدوا إلى إخراج شيء لو أُعطوه لما أخذوه إلا على مضض، وبإغماض العين عنه؛ كناية عن كراهتكم لذلك.
والرسالة هنا مفهومة: كما لا تحبون أن يعطوكم الناسُ الرديء من أموالهم، فإن الناس –كذلك- لا يحبون أن تعطوهم الزكاةَ من رديء أموالكم. لا شك أنها رسالةٌ لها وقعُها العظيمُ المؤثِّرُ على الضمائر الحيَّةِ المرهفةِ الإحساس.
ثم انظر في سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؛ لتجد فيها معالجةً للانحرافات السلوكية بمقتضى هذه القاعدة الشرعية -أن تعامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به- فقد جاء الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- شابٌّ عزَبٌ، فقال: يا رسول الله: ائذن لي في الزنا! فلم يعنفه -صلى الله عليه وسلم- وقد سأله كبيرة من أكبر الكبائر؛ لأنه لولا خوفُه من إثم الزنا لما جاءه يسأله أن يحلله له؛ ولكنه -صلى الله عليه وسلم- عالج مسألته بالحكمة والمنطق الصحيح إعمالاً لتلك القاعدة الشرعية، فقال له: أترضاه لأمك؟ فقال: لا، فقال: فكذلك النساء لا يرضونه لأمهاتهم. ثم سأله: أترضاه لأختك؟ فقال: لا. فقال: فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم. ثم وضع يده -صلى الله عليه وسلم- على صدره ودعا له، فقام من عنده وليس في قلبه شيءٌ أكرهُ إليه من الزنا.
بارك الله ...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإننا حين ندعو أنفسنا إلى التزام قواعد التعامل والسلوك، فإن ذلك لا يعني -كما يزعم بعضهم- أننا ندعو إلى مثاليةٍ مفرطةٍ متعالية على الواقع، متجاهلين طبيعة النفس البشرية، وما جبلت عليه من النقص، وما رُكّب فيها من الشهوات؛ إننا ندرك أن المثالية صفة لا تتحقق إلا بالعصمة، وقد أبى الله العصمة إلا لرسله وأنبيائه، ففيهم تحقق الكمال البشري، ليظلَّ مَن عداهم يقاربون هذا الكمال، ولا يدركونه.
ولقد أمرنا الله بالاقتداء بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وهو يعلم -سبحانه- أننا لن نبلغ شأوه، ولن نبلغَ منزلته، ذلك أن المقصودَ هو المقاربةُ، وإنْ تعذَّرت المطابقة والموافقة المطلقة.
فَتَشَبَّهُوا إنْ لم تكونوا مِثْلَهم *** إنَّ التَّشَبُّهَ بالكِرامِ فَلاحُ
ونحن نعلم من أنفسنا وقوعَها في أخطاء سلوكية، ومخالفات شرعية، ولكننا نفرق تمام التفريق بين من يقع في الخطأ ثم يسارع إلى التوبة منه وتصحيحه، ومجاهدةِ نفسه على عدم الرجوع إليه، وبين مَن يستسلم لنوازع نفسه، ويصر على الخطأ؛ حتى يصبحَ عادةً يُعرف بها.
والناس بفطرتهم يتغاضَون عمن تقع منه هَنات يسيرة ليست من مألوف طِباعهم؛ لأنهم يدركون أن ذلك مفروضٌ بواقع طبيعة النفس المجبولة على الضعف والنقص؛ ولكنهم لا يغتفرون الخطأ ممن عُرف منه إصرارُه عليه، واستهانته بعواقبه.
فلْنجتهدْ في التزام قواعد السلوك قدْرَ وُسْعِنا، وإذا وقع منا الخطأ والتقصير فلْنمنعْ أنفسنا من أن يصبح عادةً نُصرُّ عليها فنُعْرَف بها .
التعليقات