عناصر الخطبة
1/امرأة تزاحم النبي عند باب الجنة 2/فضل كفالة اليتيم 3/عناية الإسلام بالأيتام 4/من بركة كفالة الأيتاماقتباس
"آتي بابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ، فأسْتفْتِحُ، فيَقولُ الخازِنُ: مَن أنْتَ؟ فأقُولُ: مُحَمَّدٌ، فيَقولُ: بكَ أُمِرْتُ، لا أفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ"، فَتُفتَحُ الأبوابُ الثَّمَانيَّةُ، فَيَتَقَدَّمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-؛ لِيَكونَ أَولَ الدَّاخِلينَ، فَإذا بِامرأةٍ تُزَاحِمُهُ في الدُّخولِ عِندَ بَابِ الجَنَّةِ، فَمَن هيَ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ، الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، يُعْطِي السَّائِلِينَ، وَيَجْبُرُ الْمُنْكَسِرِينَ، وَيُفَرِّجُ كَرْبَ الْمَكْرُوبِينَ، وَيُجِيبُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، رَبٌّ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَبْتَلِيهِمْ إِلَّا وَيُعَافِيهِمْ، وَلَا يَمْنَعُهُمْ إِلَّا وَيُعْطِيهِمْ، وَلَا يَحْرِمُهُمْ إِلَّا وَيَمْنَحُهُمْ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَجَدَهُ ربه يَتِيماً فَآواهُ، وضَالاًّ فَأَرشَدَهُ وهَداهُ، وعَائلاً فَرَزَقَهُ وأَغنَاهُ، رَبَطَ عَلَى قَلْبِهِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ، وَأَزَالَ حُزْنَهُ، وَمَلَأَ نَفْسَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: بَعدَ يَومٍ كَانَ مِقدَارُهُ خَمسينَ أَلفَ سَنةٍ، هَا هُم أَصحَابُ الجَنَّةِ يَقِفونَ أمَامَ أَبوابِ الجَنَّةِ يَنتَظِرونَ أَن تُفتَحَ لَهم، يَقولُ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "آتي بابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ، فأسْتفْتِحُ، فيَقولُ الخازِنُ: مَن أنْتَ؟ فأقُولُ: مُحَمَّدٌ، فيَقولُ: بكَ أُمِرْتُ، لا أفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ"، فَتُفتَحُ الأبوابُ الثَّمَانيَّةُ، فَيَتَقَدَّمُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-؛ لِيَكونَ أَولَ الدَّاخِلينَ، فَإذا بِامرأةٍ تُزَاحِمُهُ في الدُّخولِ عِندَ بَابِ الجَنَّةِ، فَمَن هيَ تِلكَ المَرأةُ يا تُرى؟!.
قَاَل -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ بَابُ الْجَنَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ تَأْتِي امْرَأَةٌ تُبَادِرُنِي، فَأَقُولُ لَهَا: مَا لَكِ؟ وَمَا أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي"، فَلا إلهَ إلا اللهُ، هَنيئاً لَها اهتِمَامَها بأَيتَامِها.
فَيَا كَافلَ اليَتيمِ: كَم لَكَ مِن ثَوابٍ وفَضيلةٍ وَأَجرٍ، عَلى مَا كَانَ مِن إِحسَانٍ وتَربيةٍ وَصَبرٍ، فَتَدخلَ الجَنَّةَ مَعَ أَولِ الدَّاخلينَ، ويَكونَ مَجلِسُكَ بِجِوارِ سَيِّدِ المُرسلينَ، كَمَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا"، قالَ ابنُ بَطَّالٍ: "حَقٌّ على مَنْ سَمِعَ هذا الحديثَ أنْ يَعْمَلَ بهِ؛ ليكُونَ رَفِيقَ النبيِّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ- في الجنَّةِ، ولا مَنْزِلَةَ في الآخِرَةِ أفْضَلُ مِنْ ذلكَ".
يَا كَافِلَ الأيتامِ، كَأسُكَ أَصبَحَتْ *** مَلأَى، وَصَارَ مِزَاجُها تَسنيمَاً
أَبشِرْ بِصُحبةِ خَيرِ مَنْ وَطِيءَ الثَّرى*** في جَنَّةٍ كَمُلَتْ رِضَاً وَنَعيمَاً
البَيتُ الذي يُحسَنُ فِيهِ إلى يَتيمٍ تَتَنزَّلُ فِيهِ البَركةُ والرِّزقُ الكَريمُ، تَقولُ حَليمةُ السَّعديةُ: "قدِمتُ مكَّةَ في نِسْوةٍ مِن بَني سَعدٍ نَلْتمِسُ بها الرُّضَعاءَ في سنةٍ شَهْباءَ، فَواللهِ مَا علِمتُ مِنَّا امرأةً إلَّا وقد عُرِضَ عَليهَا رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-، فَإذا قِيلَ: إنَّه يَتيمٌ ترَكْناهُ، فإنَّما نَرْجو المعروفَ مِن أَبي الوَلَدِ، فواللهِ ما بقِيَ مِن صَواحِبي امرأةٌ إلَّا أخَذتْ رَضيعًا غَيري، فلمَّا لم نَجِدْ غَيرَه، وأجمَعْنا الانطلاقَ، قُلتُ لزَوجي الحَارثِ بنِ عَبدِ العُزَّى: واللهِ إنِّي لأكرَهُ أنْ أَرجِعَ مِن بينِ صَواحبي ليسَ معي رَضيعٌ، لأنطَلِقنَّ إلى ذلكَ اليَتيمِ، فلآخُذَنَّه.
فَذهَبتُ فأخَذتُه، فواللهِ ما أخَذتُه إلَّا أنِّي لم أجِدْ غَيرَه، فَمَا هو إلَّا أنْ أخَذتُه فجِئتُ به رَحْلي، فأقبَلَ عَليهِ ثَدْيايَ بِمَا شَاءَ مِن لَبنٍ، فَشَرِبَ حَتى رَوِيَ، وشَرِبَ أَخوهُ حَتى رَوِيَ، وَقَامَ صَاحبي إلى شَارِفٍ لَنَا، واللهِ ما تبِضُّ بقَطْرةٍ، فَإذا إنَّها لَحَافِلٌ، فَحِلَبَ مَا شَرِبَ وَشَرِبتُ حَتَى رَوينا، فبِتْنا بخَيرِ لَيلةٍ، فَقَالَ صَاحبي: حِينَ أصبَحْنا: يا حَليمةُ، واللهِ إنِّي لأراكِ قَد أخَذتِ نَسَمةً مُبارَكةً"، فَتَتابعَ عَليهم الخَيرُ لَمَّا رَجَعوا إلى بِلادِهم؛ بِسَببِ هَذا اليتيمِ المُباركِ.
حَسْبُ اليَتيمِ سَعادةً أنَّ الذي *** نَشَرَ الهُدَى في النَّاسِ عَاشَ يَتيمَاً
لَقَد أَمرَ اللهُ -سُبحَانَهُ- في كِتَابِهِ بِمُراعاةِ مَشَاعرِ اليَتيمِ اللَّطيفةِ، فَقَالَ -تَعالى-: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ)[الضحى: 9]، وحَذَّرَ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ- من حُقوقِ الفِئةِ الضَّعيفةِ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: حَقَّ الْيَتِيمِ، وَحَقَّ الْمَرْأَةِ"؛ ولِذَلكِ كَانتْ عِنايةُ السَّلفِ بالأيتَامِ مِن عَجَائبِ الأُمورِ، فَقَدَّمُوهم عَلى أَنفُسِهم لِما يَرجُونَ عِندَ اللهِ منَ الأُجورِ، قَالَتْ مَولاةٌ لِدَاودَ الطَّائيِّ: "يَا دَاودُ، لو طَبختُ لَكَ دَسَمًا"، قَالَ: "فَافعَلي"، فَطَبَختْ لَهُ شَحمَاً، ثُمَّ جَاءتْهُ بِهِ، فَقَالَ لَها: "مَا فَعَلَ أَيتَامُ بَني فُلانٍ؟"، قَالتْ: "عَلَى حَالِهم"، قَالَ: "اِذهبي بِهِ إليهم"، قَالَتْ: "فَدَيْتُكَ، أَنْتَ لَمْ تَأْكُلْ أُدْمًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا"، فَقَالَ: "إنِّي إذا أَكَلتُهُ كَانَ في الحُشِّ -يَعني في الخَلاءِ-، وإذا أَكَلَهُ الأيتامُ كَانَ عِندَ اللهِ مَذخُورًا".
أَستغفرُ اللهَ لي ولكم ولِسَائرِ المسلمينَ مِنْ كُلِّ ذَنبٍ وَخَطيئةٍ فَاستغفروه؛ إنَّهُ هُو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على قُدوتِنا وحَبيبِنا مُحمدٍ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وَصحبِهِ، ومن تَبعَ سُنتَهُ واقتدى بأثرِهِ إلى يَومِ المَزيدِ.
أَما بَعدُ: إذا كَانَ في بَيتِكَ يَتيمٌ فَفِيهِ الدَّواءُ لأعظمِ داءِ، ألا وهوَ قَسوةُ القَلبِ، فَقَد جَاءَ رجُلٌ يَشكُو إلى النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- قَسوةَ قَلبِهِ، فَقَالَ لَهُ: "أتُحبُّ أَنْ يَلينَ قلبُكَ، وتُدرِكَ حَاجتَكَ؟"، قَالَ: نَعم، قَالَ: "ارْحَمْ اليَتيمَ، وامْسَحْ رَأسَهُ، وأطعِمهُ مِنْ طَعامِكَ، يَلِنْ قَلبُكَ، وَتُدْرِكْ حَاجَتُكَ"، يَقولُ أَبو جَعفرٍ بنُ الخِرقَيُّ: "كَانَ أَبو شُجاعٍ مُحمدٌ بنُ حُسينٍ الوَزيرُ -رَحمَهُ اللهَ- كَثيرُ الإنعامِ عَلى الأَراملِ واليَتَامى، فَعُرِضَتْ عَليهِ رِقعَةٌ من بَعضِ الصَّالحينَ يَذكرُ فيها: أَنَّ امرأةً مَعَها أَربعةُ أَطفالٍ أَيتامٍ، وَهُم عُراةٌ جِياعٌ، فَقَالَ للرَّجلِ: امضِ الآنَ إليهم، واحمِلْ مَعكَ مَا يُصلِحُهم، ثُمَّ خَلعَ أَثوابَهُ، وَقَالَ: واللهِ لا لَبستُهَا ولا دَفئتُ حَتى تَعودَ، وتُخبرني أَنَّكَ كَسوتَهم وأَشبَعتَهم، فَمَضَى وَعَادَ، فَأَخبَرهُ وهَو يَرعدُ من البَردِ".
إذا كَانَ في بَيتِكَ يَتيمٌ فَفي بَيتِكَ عَظيمٌ مِن العَظماءِ، إذا أحسَنتَ تَربيتَهُ وَأكثَرتَ لَهُ مِنَ الدَّعاءِ، فَمنَ الأيتَامِ الشَّافعيِّ وأَحمدَ بنِ حَنبلٍ والبُخاريِّ، ومن الأنبياءِ عيسى بنِ مَريمَ -عَليهِ السَّلامُ-، وأَعظَمُ الأيتامِ هو نَبيُّ الأُمَّةِ وقَائدُها وإمامُها -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- الذي نَشأَ يَتيمًا؛ وَكَانَ يُتمُهُ تَشريفًا لُكُلِّ يَتيمٍ، فَأدَبَّهُ اللهُ وآواهُ كَما قَالَ -تَعالى-: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى)[الضحى: 6]، وَهَكَذا عِندَمَا يَغيبُ الأبُّ يَتَولَّى العِنايةَ الربُّ.
اللهمَّ اجعلنا مِن المحسنينَ إلى الأَرملةِ واليَتيمِ والمِسكينِ، اللهمَّ أصلحْ لنا دِينَنا الذي هو عِصمةُ أَمرِنا، وأَصلحْ لَنا آخرتَنا التي إليها مَعادُنا، واجعلِ الحياةَ زِيادةً لنا في كُلِّ خَيرٍ، والمَوتَ رَاحةً لنا مِن كُلِّ شَرٍّ يا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ ارحمنا رَحمةً تُغنينا بها عن رَحمةِ مَنْ سِواكَ، اللهمَّ مُنَّ عَلينا بصَلاحِ أَبنائنا، اللهمَّ أَقرْ عُيونَنا بهدايتِهم وصَلاحِهم واستقامَتِهم، اللهمَّ اجعلهُم هُداةً مُهتدينَ، لا ضَالينَ ولا مُضلينَ، اللهمَّ وَفقهُم لهُداكَ، واجعلْ عَملَهم في رِضاكَ، بِرحمتِكَ يا أرحمَ الرَّاحمينَ، اللهمَّ اجعلنا مَفاتيحَ للخَيرِ، مَغاليقَ للشَّرِّ بِرحمتِكَ يَا أَرحمَ الرَّاحمينَ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ جَنتَكَ، وَنَعوذُ بِكَ مِن نَارِكَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
التعليقات