عناصر الخطبة
1/دور التربية والتعليم في بقاء الأمم 2/ مقاييس مناهج التعليم 3/ مشكلة التعليم لمجرد التعليم 4/ النظرة في واقع المناهج 5/ التربية الصحيحة مبنية على الدين.اهداف الخطبة
توجيه المهتمين إلى أهمية دور التعليم والحاجة إلى الاهتمام بالمناهج.اقتباس
لا فائدة في علم لم يكس بخلق، ولا جدوى من تربية لا تُثْمرٌ عملاً صالحاً، لا خير في معارف تورث بلبلاتٍ فكرية، ولا نفع في ثقافاتٍ تشككُ في الصحيح من المعتقدات.. تستخفُّ بالدين، ومستوثقات التاريخ، ويجاهرُ أصحابها بالتطاول على عظماء الأمة، والنيل من سلفها الصالح.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمدُ في الآخرة والأولى. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله. بعثه بالحق والهدى، بعثه في الأميين، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وقد كانوا قبله في ضلال وعمى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين حازوا ميراث الأنبياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعدُ:
أيها المؤمنون؛ إن هذه الأمة، أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس. الصدارة منزلتها، والقيادة مرتبتها (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) [البقرة: 143]، إنها مصدرُ الأصالة، ومنبر التوجيه، ومنار التأثير، هكذا أراد الله لها إن هي استقامت على النهج، وقامت بالحق: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [آل عمران: 110].
أمةٌ رفع الله من شأنها، ليس لها أن تنحدر إلى مستوى التقليد والتبعية، تقبع في مؤخرة القافلة يصيح بها كل ناعق.
إن أهل الإسلام –أيها الإخوة- هم معقلُ الحق، ومآزر الإيمان. رسالتهم عالمية، أكرمهم الله بها، وحملهم أمانة المحافظة عليها، وتبليغها في كل عصر، وفي كل مصر.
بنظرة فاحصة في واقع الأمة في ناشئتها وأبنائها، يتبين أن الأمة –أي أمةٍ- إنما تبقى محافظة على كيانها، مدركة لمسؤولياتها ثابتة في موقعها، حين يربى صغارها ليكونوا ورثةً صالحين للإسلام، أمناء على الميراث، يصاغون في قوالب عقائد الأمة، ومناهج حياتها، عليها تتربى، ومن أجلها تكافح، ومن ثم تنقلها صافية إلى الأجيال المتعاقبة.
ومن هنا أمة الإسلام، فإن التربية لباسٌ ودثارٌ يفصل على قامة الشعوب، منبثقاً من عقائدها، منسجماً مع أهدافها وآدابها.
تُصبغُ العلوم بصبغة الإيمان، وتؤخذ العقول بميزان الدنيا والآخرة، توضع الأشياء في مواضعها، يفرق بين الوسائل والغايات.
إن مناهج التربية وطرائق العلوم، يجبُ أن تكون قائدة إلى الإيمان، قاصدةً إصلاح الأنفس، وتهذيب الأخلاق.
إن مظاهر القوة المادية وحدها لا تغني شيئاً، إذا تداخلت في العقول الثقافات المتناقضة، والعلوم المتنافرة، فتفرقت بطلابها السبل، و تنازعتها التيارات والأهواء.
ليس مقياس النجاح مجرد معرفة القراءة والكتابة، وليس دليل التفوق كثرة دور العلم وأفواج الخريجين.
إن كثيراً من البلاد الإسلامية في عصورها المتأخرة خسرتْ أكثر مما ربحت، حين ظنتْ أن مبادئ التربية وأصول التعليم تستوردُ كما تستورد البضائع والصنائع، وضلت حين ظنتْ أنها تقايض في معاملات تجارية؛ لتكسب علماً أو تمحو أمية.
وإن أخطاء كبرى تولَّدتْ في بلدان الشرق حين مجدت التعليم، لمجرد التعليم، حين مجدته مقطوعاً عن غاياته وأهدافه، ومصادره، لقد ظهر مسخٌ وتشويهٌ للثقافة والتربية والتعليم. إنها أخطاءٌ جعلت كثرة كاثرةً يغضون النظر عن واقع أليم، وصورةٍ منكرةٍ، وعيوب فاضحةٍ في بعض الطبقات المثقفة المتعلمة انقلبت عندهم الموازين، فعظموا المتعلم المنحرف ذا الاتجاهات المريبة، وقدموه على الكريم المستقيم، ولو قل نصيبه من التعليم.
امتدحوا عصراً كثر فيه المتعلمون، وعموا عما انتشر معه من الشك في المبادئ الصحيحة، والحقائق الواضحة، والبدهيات الجلية، وما ساد فيه من التفسخ الخلقي، وفقدان الحمية الدينية، بُنيتْ فيه الشاهقاتُ من المباني على أنقاض الأخلاق والفضيلة، استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
عجزوا أن يميزوا بين هذا وبين عصور سابقةٍ، توافرتْ فيها الفضائل، وسمت فيها الأخلاق، وتواصلت فيها الأرحام، في استقرار نفسي، وطمأنينة قلبية على قلة المتعلمين وندرة المثقفين. ورحم الله مسروقاً حين قال: "بَحسْبِ امرئ من العلم أن يخشى الله وبَحسْب امرئ من الجهل أن يُعجبَ بعلمه".
أيها الإخوة، لم يكن هذا الانقلاب في المفاهيم، والاختلال في الموازين، لولا خضوع كثير من المجتمعات المعاصرة للبريق الخداع الذي رفع من شأن التعليم وشهاداته، لمجرد أنها شهاداتٌ، أو لأن صاحبها تلقاها من هنا، أو نالها من هناك.
أيها المسلمون، لا فائدة في علم لم يكس بخلق، ولا جدوى من تربية لا تُثْمرٌ عملاً صالحاً، لا خير في معارف تورث بلبلاتٍ فكرية، ولا نفع في ثقافاتٍ تشككُ في الصحيح من المعتقدات.. تستخفُّ بالدين، ومستوثقات التاريخ، ويجاهرُ أصحابها بالتطاول على عظماء الأمة، والنيل من سلفها الصالح.
كيف يكون مستقبل أمةٍ تنبتُ فيها مثل هذه النوابت، ويرضع أبناؤها من هذا الكدر؟!.
ومن هنا كان لزاماً –أيها الإخوة، أيها المربون- النظر الجاد في واقع التربية ومناهجها، فلا تُرسمُ خطوة، ولا يوضع منهج، إلا مع الإدراك الجازم أن هذه الأمة، وهذا النشء هم غرس المصطفى صلى الله عليه وسلم وثمرةُ دعوته وجهاده، وأحفادُ أصحابه المؤمنين، رضوان الله عليهم أجمعين. تنسجم المناهج في كل هذا وتعيش في ظله؛ لتبقى محصنةً بدينها، متماسكةً بقوته، مرتبطةً بحبله، بعيدة عن كل فوضى فكريةٍ أو صراعاتٍ مذهبية، تُنقى من عوامل الفساد، وأسباب الزيغ والإلحاد، واتجاهات الزندقة والتحليل.
من لم تطبْ نفسه بهذا الدين، ولم ينشرحْ صدره لنبوةِ محمد صلى الله عليه وسلم وإمامته، وآمن بفلسفاتٍ أجنبيةٍ منحرفةٍ؛ فليس له محلٌ بين المسلمين، ولا يحلُّ أن تتاح له الفرص، أو تهيأ له الوسائل لتوجيه العقول، وتربية النفوس، ولا يجوز أن تقدم له فلذاتُ الأكباد؛ ليُفسد فطرها، ويعبث بعقولها، ويسلخها من عقيدتها.
إن المدارس ودور التعليم في كافة مستوياتها هي محاضن الجيل، وهي الحصنُ الحصينُ تكمنُ فيها حماية الأمة، والحفاظ على أصالتها وبقائها ونقائها.
إن هذه الدور تحوي أثمن ما تملكه الأمة، تحتضنُ الثروة البشرية، رجال الغد وجيل المستقبل، ثروةٌ تتضاءلُ أمامها كنوزُ الأرض جميعها.
وشرُّ ما يطرأُ على هذه المعاقل والحصون أن تؤتى من قبل من وُكِلَ إليهم رعايتُها وصيانتُها، وتكون الخيانةٌ العظمى حين يفتحون الأبواب الخلفية وغير الخلفية؛ ليتسلل المتلصصون ليلاً أو نهاراً في غفلةٍ من الحماة الصادقين؛ فتقع الواقعة وتحل الكارثة.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله يا رجال التربية، واعلموا أنه إذا حُفظتْ العقول والأخلاق، وأحيطتْ التربية بسياج الدين المتين، وربطتْ برباط العقيدة الوثيق؛ فلسوفَ تصحُّ المناهج، وينفع التعليم، وتثبتُ الأصالة، ويتضح السبيل، وترتفع الراية ويحصل التمكينُ. والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنةِ نبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهدانا صراطه المستقيم، وجنبنا طريق أصحاب الجحيم.
وأقولُ قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون، يظن بعضُ الناس أن قوة الأمم تكمنُ فيما لديها من آلات القتال وعدده، أو فيما لديها من القدرةِ على تصنيعه. وحقيقة الأمر إن ذلك لا يكون إلا إذا وجد من وراء ذلك نهجٌ قويمٌ وخلقٌ متينٌ، يجمع أهله، ويشد بعضهم إلى بعض، ويمنع عناصر الفساد وأسباب الفرقة والخلاف من أن تتسرب إلى الصفوف. وخير جامع وأعلى مصدر للخلق هو دين الله الذي يجمع على التواد والتراحم. يكبحُ جماح الشح في النفوس وترتفع به الهمم.
إنه الدين الذي يوحدُ العادات والأمزجة، فيجتمع الناس فيما يحبون وفيما يكرهون وفيما يألفون وفيما يعافون، فيما يستحسنون وفيما ينفرون، على ألوانٍ من غذاء الأبدان والقلوب.
فاتقوا الله أيها الإخوة في الله. وعوا مسئولياتكم؛ فإن فلاح الأمة في صلاح أعمالها. وصلاحَ أعمالها في صحة علومها.
والتربية الصحيحة الجارية على السنن المستقيمة تنتج رجالاً أمناء أوفياء ذوي نصحٍ وإخاء.
التعليقات