عناصر الخطبة
1/ ذم الدنيا لغيرها لا لذاتها 2/ خطورة المال على العبداهداف الخطبة
اقتباس
حلال هذه الدنيا حساب. وحرامها عقاب. ومصيرها إلى الخراب. ولا يركن إليها من فقد الرشد والصواب. فكم من ذهاب بلا إياب. وكم من حبيب قد فارق الأحباب. وترك الأهل والأصحاب. وصار إلى ثواب أو عقاب. إنها رحلات متتابعة إلى الدار الآخرة لا تفتر. يذهب فيها أفراد وجماعات. وآباء وأمهات. وملوك ومماليك. وأغنياء وصعاليك. ومؤمنون وكفار. وأبرار وفجار كلهم يذهبون إلى الآخرة ويُودعون في القبور. ينتظرون البعث والنشور. والنفخ في الصور.
الحمد لله الذي حذر عباده من الاغترار بهذه الدار. ورغبهم في الاستعداد لدار القرار. أحمده على نعمه الغزار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. يجود على عباده بكرمه المدرار. فيده سَحّاء الليل والنهار. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأبرار. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار. المهاجرين منهم والأنصار وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله واسمعوا نداء ربكم عز وجل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) يناديكم ربكم ويؤكد لكم أنه لا بد من وقوع ما وعدكم به من البعث والنشور. والجزاء على أعمالكم بالثواب أو العقاب. ويحذركم من فتنتين تصدان العبد عن الاستعداد للقاء هذا الوعد الحق، ويحذركم من فتنتين تصدان العبد عن الاستعداد للقاء هذا الوعد الحق، هما فتنة الدنيا وفتنة الشيطان. وكم في كتاب الله من التحذير من الاغترار بهذه الدنيا وذمها. وبيان سرعة زوالها. وضرب الأمثال لها. ما يكفي بعضه زاجراً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وإن الدنيا في الحقيقة لا تذم لذاتها فهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو النار.وإنما يذم فعل العبد فيها. من اشتغاله بالشهوات والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة. وإلا فالدنيا مبنى الآخرة ومزرعتها ومنها يؤخذ زاد الجنة. وخير عيش ناله أهل الجنة إنما كان بما زرعوه في الدنيا.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الدنيا دار صدق لمن صدقها. ودار عافية لمن فهم عنها. ومطلب نجح لمن سالم. فيها مساجد أنبياء الله. ومهبط وحيه. ومصلى ملائكته. ومتجر أوليائه. فيها اكتسبوا الرحمة. وربحوا فيها العافية فمن ذا يذمها وقد آذنت بنيها ونعت نفسها وأهلها. فتمثلت ببلائها. وشوقت بسرورها إلى السرور تخويفاً وتحذيراً وترغيباً. فذمها قوم غداة الندامة. وحمدها آخرون ذكرتهم فتذكروا. وحمدها آخرون ذكرتهم فتذكروا. ووعظتهم فاتعظوا. فيا أيها الذام للدنيا المغتر بتغريرها: متى استذمت إليك بل متى غرتك. أبمنازل آبائك في الثرى. أم بمضاجع أمهاتك في البلا. كم رأيت موروثاً كم عللت بكفيك عليلاً. كم مرضت مريضاً بيديك تبتغي له الشفاء وتستوصف له الأطباء. ثم لم تنفعه شفاعتك. ولم تسعفه طلبتك. مثلت لك الدنيا غداة مصرعه مصرعك ومضجعه مضجعك. ثم التفت رضي الله عنه إلى المقابر فقال: يا أهل الغربة. ويا أهل التربة. أما الدور فسكنت. وأما الأموال فقسمت. وأما الأزواج فنكحت. فهذا خبر ما عندنا فهاتوا خبر ما عندكم. ثم التفت إلينا فقال أما لو أذن لهم لأخبروكم: " إن خير الزاد التقوى ".
قال ابن القيم رحمه الله: والمقصود أن الله سبحانه وتعالى خلق الغني والفقر مطيتين للابتلاء والامتحان، ولم ينزل المال لمجرد الاستمتاع به. كما في المسند عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله تعالى: إنا نزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانياً. ولو كان له ثان لابتغى له ثالثاً. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" فأخبر سبحانه أنه أنزل المال ليستعان به على إقامة حقه بالصلاة. وإقامة حق عباده بالزكاة. لا للاستمتاع والتلذذ كما تأكل الأنعام.
عباد الله: كيف آثرتم الحياة الدنيا على ما عند الله. كيف شغلتكم أموالكم وأولادكم عن ذكر الله. مهما عشت أيها الإنسان وجمعت من المال فإنك راحل. وما في يدك زائل. ولا يبقى لك إلا عملك -إنك خرجت إلى الدنيا ليس معك شيء. وستخرج منها ليس معك منها إلا العمل- قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ). إنك مررت بالدنيا في طريقك إلى الآخرة، وأتيحت لك الفرصة لتأخذ منها زاداً لسفرك، فأنت بمنزلة المسافر الذي هبط إلى السوق ليأخذ منه زاداً يبلغه في مسيره. فليس لك من هذه الدنيا إلا ما تزودت به للآخرة.
عباد الله: حلال هذه الدنيا حساب. وحرامها عقاب. ومصيرها إلى الخراب. ولا يركن إليها من فقد الرشد والصواب. فكم من ذهاب بلا إياب. وكم من حبيب قد فارق الأحباب. وترك الأهل والأصحاب. وصار إلى ثواب أو عقاب. إنها رحلات متتابعة إلى الدار الآخرة لا تفتر. يذهب فيها أفراد وجماعات. وآباء وأمهات. وملوك ومماليك. وأغنياء وصعاليك. ومؤمنون وكفار. وأبرار وفجار كلهم يذهبون إلى الآخرة ويُودعون في القبور. ينتظرون البعث والنشور. والنفخ في الصور. (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ).
عباد الله: إن الله سبحانه ذم الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة في كثير من الآيات قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) وقال تعالى: (إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) وقال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) وقال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) إن إيثار الدنيا على الآخرة يظهر جلياً على تصرفات الناس. والناس يزدحمون على أبواب المتاجر. ولا يزدحمون على أبواب المساجد. والناس يزدحمون على طلب الدنيا، ولا يزدحمون على طلب العلم النافع. الناس يصبرون على تحمل المشاق الصعبة في طلب الدنيا ولا يصبرون على أدنى مشقة في طاعة الله. الناس يغضبون إذ انتقض شيء من دنياهم. ولا يغضبون إذا انتقض شيء من دينهم. كثير من الناس -لشدة حبه للدنيا- لا يقنع بما أباح الله له من المكاسب، فيذهب يتعامل بالمعاملات المحرمة والمكاسب الخبيثة من الربا والرشوة والغش في البيع والشراء. بل يفجر في خصومته فيحلف بالله كاذباً أو يقيم شهادة زور ليستولي على مال غيره بغير حق. وهو يسمع قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ). وقول الله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) كثير من الناس استولى عليه حب الدنيا وإيثارها على الآخرة حتى شغل كل أوقاته بجمعها ولم يبق وقتاً لآخرته.
فالصلوات المفروضة يؤخرها عن أوقاتها أو لا يحضرها مع الجماعة. وحتى في أثناء صلاته يكون قلبه منصرفاً إلى الدنيا يفكر فيها ويعدد ماله. ويتفقد حسابه ويتذكر ما نسي من معاملاته في صلاته. كثير من الناس حمله إيثار الدنيا على الآخرة على البخل والشح بالنفقات الواجبة والمستحبة حتى بخل بالزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام -واسمعوا إلى هذا القصة في هذا الجنس من الناس.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم: أن ثعلبة ابن حاطب الأنصاري قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ادع الله أن يرزقني مالاً. قال فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. قال: ثم قال مرة أخرى فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله. فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت. قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اللهم ارزق ثعلبة مالاً. قال فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة. وهي تنمى كما ينمي الدود حتى ترك الجمعة. فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة، فأخبروه بأمره فقال: ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة! وأنزل الله جل ثناؤه:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) الآية ونزلت فرائض الصدقة فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين على الصدقة من المسلمين. رجلاً من جهينة ورجلاً من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين وقال لهما: مرا بثعلبة وبفلان -رجل من بني سليم- فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال: ما هذه إلا جزية. ما هذه إلا أخت الجزية. ما أدري ما هذه انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي. فانطلقا وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها. فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا. وما نريد أن نأخذ هذا منك. فقال بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي لله. فأخذاها منه. ومرا على الناس فأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما، فقرأه فقال ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة. قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي، فأنزل الله عز وجل: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) الآية. قال: وعند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة، قد أنزل الله فيك كذا وكذا. فخرج ثعلبة حتى أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثو التراب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني. فقبض النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يقبل منه شيئاً، وامتنع الخلفاء الراشدون من قبول صدقته وهلك في خلافة عثمان على هذه الحال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) إلى آخر السورة.
التعليقات