عناصر الخطبة
1/قناعة العلماء الربانيين وزهدهم في الحياة الدنيا 2/حرص العلماء الربانيين على تعلُّم العلم وتعليمه 3/إدراك العلماء لقيمة الوقت 4/ضرورة الإخلاص في طلب العلم 5/وجوب العمل مع العلم 6/التحذير من قرناء السوء.اقتباس
لقد كان تحصيل العلم في حياتهم أمرًا صعبًا وشاقًّا، تنحسر أمامه عزمات الرجال، ولا يصبر على اجتيازه إلا الأفذاذ الأبطال، فمن كان مغرمًا بالعلم، ذائقًا لذته، عازمًا على تحصيله، ولو لقي في سبيله الألاقي، غير مستسلِم للكسل والتواني...
من اختيارات الشيخ رحمه الله
الخطبة الأولى:
الحمد لله عالِم الخفيَّات، وغافِر الخطيَّات، المطَّلِع على الضمائر والنيَّات، أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمةً وحلمًا، وقهَر كلَّ مخلوق عزةً وحُكمًا (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)[طه: 110]، أتقَن ما صنَع وأحكَمَه، وأحصى كلَّ شيء وعَلِمَه، وخلَق الإنسانَ وعلَّمَه، ورفَع قَدْرَ العِلْم وعظَّمَه، وخصَّ به مِنْ خلقِه مَنْ كرَّمَه، وحضَّ عبادَه المؤمنين على النفير في التفقه في الدين، فقال تعالى وهو أصدق القائلين: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة: 67].
ندَبَهم إلى إنذار بريَّتِه كما ندَب إلى ذلك أهلَ رسالته، ومنَحَهم ميراثَ أهل نبوته، ورَضِيَهم للقيام بحجته، واختصَّهم مِنْ بين سائر عباده بخشيته، ثم أمَر سائر الناس بسؤالهم، والرجوع إلى أقوالهم، وجعَل علامة زيغهم وضلالهم ذهابَ علمائهم.
أحمده -سبحانه- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة في الله: إن الناظر في حياة علمائنا السابقين وسِيَر آبائنا المتقدِّمين لَيرى كيف كان عيشُ الكثيرينَ منهم، يتدثَّرون الفقر، ويلتحفون الطِّوى، ويأكلون الخشن من الطعام، مع إظهار التجمُّل والغنى.
لقد ملأ طِيبُ ذِكرهم المشارقَ والمغاربَ، وأتوا مواهب ذاتية فذَّة، وطاقات علمية نادرة، وعبقرية عجيبة مدهِشة، ثم نمت فيهم هذه الفضائل، وتزايدت هذه المزايا حينما شعروا أنهم يبذلونها في خدمة الشريعة وأتباعها، ونصرة الإسلام ونشره، ورأوا أن ما هم عليه من الفقر والجوع والنَّصَب والتقشُّف في الملبس والمسكن جزء من النعيم العاجل؛ فطابَت بذلك نفوسُهم، ورأوا أن الفناء في هذا السبيل هو الطريق الأمثل لرضوان الله -تعالى-.
إن الناظر في حياتهم يجد بطولات وتضحيات وعزائم نافذات، وقعَت من أناس متباعِدي الديار، مختلِفي البيئات والأقطار، فيهم الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، فنَيْلُ المقاماتِ الرفيعةِ لا يقتصر على جنس دون جنس، ولا على لون دون لون، ولا على قوم دون قوم، بل كل مَنْ جَدَّ واجتهد ودأب واصطبر وتفرَّغ وأقبَل؛ نال وارتفع بقدر جِدِّه ومواهبه وفضل الله عليه.
لقد كان تحصيل العلم في حياتهم أمرًا صعبًا وشاقًّا، تنحسر أمامه عزمات الرجال، ولا يصبر على اجتيازه إلا الأفذاذ الأبطال، فمن كان مغرمًا بالعلم، ذائقًا لذته، عازمًا على تحصيله، ولو لقي في سبيله الألاقي، غير مستسلِم للكسل والتواني.
لقد انتابهم في تحصيلهم الفقر والإملاق، والعري والجوع والعطش، والعقبات والنوائب، فما وهنت هممُهم، ولا استكانت عزائمُهم، ولا اختلفت موازين الحق عندهم، بل كانوا أحرص الناس على دينهم، وأرعى الناس لأماناتهم، فما تأثَّروا بتلك الشدائد والأزمات في آرائهم واستنباطاتهم وأحكامهم، وما خضعتهم الضائقة الخانقة إلى قبول الذل والهوان.
لقد أدرَك أولئك العلماء والأئمة النبلاء غلاء الوقت وقيمة الزمن، فقاموا بتقسيم أوقاتهم تقسيمًا دقيقًا؛ للطعام والمنام، والتهجد والقيام، والتحصيل والتعليم، والمطالعة والتأليف، ومع ذلك فقد تركوا المتع المباحة والملذَّات المحبَّبة، وانهمَكوا في العلم تحصيلًا وتعليمًا، وتدوينًا وتلقينًا، نفوسُهم لا تشبع من العلم ولا تكلُّ من البحث والمطالَعة.
لقد بلَغ أولئك الأعلام الذروة في العلم دون تشجيع يُصنَع إليهم، أو مكافأة مادية تدرُّ عليهم، أو منزلة حكومية يرتقبونها، أو وظيفة دنيوية يتشبَّثون بها، إنما كان همهم وقصارى مرادهم خدمة دينهم، وإرضاء ربهم، ونصر كتابهم، ونشر سُنَّة نبيهم وعلوم إسلامهم؛ فنالوا ما أمَّلوه في الدنيا، ولهم عند الله في الدار الآخرة من الأجر والمقام المحمود، ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطَر على قلب بشر.
أيها الإخوة في الله: تأمَّلوا حياة أولئك السابقين من العلماء، والنابهين من الفضلاء، والمتقدِّمين من الآباء، وتأمَّلوا حياةَ الدارسين اليوم من الأبناء؛ لقد هُيئت اليوم للدارس سُبُلُ الراحة، فهو يدرس في أمكنة مريحة ذات أجواء مكيَّفة؛ هواء بارد صيفًا، ودافئ مريح شتاءً، أنوار وضاءة، وكتب مطبوعة مخدومة، سهلة ممتعة، تقدَّم له مجانًا.
ومع هذا اليسر كله وهنت العزائم، وفترت الهمم، وضَعْف الإنتاج، ولعل ذلك راجع إلى ما ذكرتُه أولًا من حاجة العلم إلى نية خالصة، وخشية دائمة مع الجد والاجتهاد، والتفرغ والإقبال، والدأب والاصطبار، ثم التوفيق بيد الله، يمنُّ به على من يشاء من عباده.
قال أحد العلماء: "تعلموا العلمَ؛ فإن تعليمه لله خشية، وطلبُه عبادة، ومذاكرتُه تسبيح، والبحثُ عنه جهادٌ، وتعليمُه لمن لا يعلم صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالِم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزَّين عند الأخلاء، يرفع الله به أقوامًا، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة، ويقتدي بأفعالهم، وينتهي إلى رأيهم، ترغب الملائكةُ في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر، وسِباع البَرِّ؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظُّلَم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة، به تُوصَل الأرحام، وبه يُعرَف الحلال والحرام، يلهمه السعداء، ويُحرمه الأشقياء".
ما الفخرُ إلا لأهل العلم إنهمُ *** على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدر كلِّ امرئٍ ما كان يُحسنُه *** والجاهلون لأهل العلم أعداء
فَفُزْ بعلمٍ تَعِشْ حيًّا به أبدًا *** الناس موتى وأهل العلم أحياء
يقول مسروق -رحمه الله-: "بحسب امرئ من العلم أن يخشى الله، وبحسب امرئ من الجهل أن يُعجَب بعلمه"، وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "منهومان لا يشبعان، ولا يستويان؛ صاحب العلم، وصاحب الدنيا، أما صاحب العلم فيزداد رضًا بالله، وأمَّا صاحب الدنيا فيزداد في الطغيان"، ثم قرأ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)[فاطر: 28]، وقرأ للثانية: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)[العلق: 6: 7].
ثم اعلم -أيها الأخ الكريم- أن من واجب المتعلم أن يعمل بما عَلِمَ؛ ليكون علمُه نافعًا له، فإن العمل ثمرة العلم، ومَنْ عَمِلَ بما يعلم أورَثه اللهُ علمَ ما لم يعلم.
صح عن رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تزول قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع؛ عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه".
نعم، لن يكون هناك تحرُّك إلا بعد هذا السؤال الذي قلَّما التفَتْنا إليه، فيا لَعِظَمِ الموقفِ، ويا لَهول السؤال.
اعمَلْ بعلمِكَ تَغْنَمْ أيها الرجلُ *** لا ينفع العلمُ إن لم يَحسُنِ العملُ
والعلمُ زينٌ، وتقوى الله زينتُه *** والمتَّقون لهم في عِلْمهم شُغلُ
وحجةُ اللهِ يا ذا العلم بالغةٌ *** لا المكرُ يَنفع فيها لا ولا الحِيَلُ
تعلَّمِ العلمَ، واعمَلْ ما استطعتَ به *** لا يُلهِيَنَّكَ عنه اللهوُ والجدلُ
قال سفيان الثوري -رحمه الله-: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل"؛ فالإنسان لا يكون تقيًّا حتى يكون عالِمًا، ولا يكون بالعلم جميلًا حتى يكون به عاملًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة في الله: إن من واجب المتعلم أن يحرص على تحصيل العلم، وأن يجد ويجتهد، وأن يبذل غايةَ وسعِه وجهدِه؛ ليرسخ العلم في قلبه، ولا يتوانى ولا يتكاسل؛ فإن طريق العلم طويل، وإن الحصول عليه لشاقّ.
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "تأملتُ عجبًا، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقُه، ويكثر التعبُ في تحصيله؛ فإن العلم لَمَّا كان أشرفَ الأشياء، لم يحصَّل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة".
واحذر قرين السوء، فكما أن العرق دساس، فإن أدب السوء دساس، فالناس مجبولون على تشبيه بعضهم ببعض، وتخير من القرناء من يعينك على مطلبك، ويقربك إلى ربك، ويوافقك على شريف غرضك ومقصدك.
أيها الإخوة في الله: ومن أهم واجبات المتعلم أن يلجأ إلى الله -تعالى- في الطلب والتحصيل، فلا يفرغ إذا لم يفتح له في علم من العلوم، بل عليه أن يهرع إلى ربه، ويلجأ إليه، وينكسر بين يديه، فهذا شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله- وهو مَنْ هو في العلم، كان كثيرًا ما يقول في دعائه، إذا استعصى عليه تفسيرُ آية: "اللهم يا معلمَ آدمَ وإبراهيم علِّمْني، اللهم يا مُفَهِّمَ سليمانَ فَهِّمْنِي"؛ فيجد الفتحَ في ذلك.
وأخيرًا، حافِظْ على رأس مالك، وساعات عمرك، فاحفظ وقتك بالجد والاجتهاد، ومُلازَمة الطلب والاشتغال بالقراءة والمطالَعة والتدبُّر والحفظ والبحث، لا سيما في أوقات الشباب ومقبِل العمر، ومعدن العافية، فاغتنِمْ هذه الفرصةَ الغاليةَ؛ لتنال رُتَبَ العلمِ العاليةَ، فإنها وقت جمع القلب، واجتماع الفكر، لقلة الشواغل والصوارف، ولخفة الظَّهر والعيال.
وإياك وتأميرَ التسويف على نفسك، فلا تسوف بعد الفراغ من كذا، وبعد انتهاء هذا العمل، بل البدارَ البدارَ؛ فإن كل ساعة تمضي من العمر لا بديلَ لها، ولا عوضَ عنها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير)[المجادلة: 11].
وصلُّوا وسلِّمُوا على نبيِّكم.
التعليقات