د. أمين بن عبدالله الشقاوي
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالقضاء والقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، ففي حديث جبريل المخرج في صحيح مسلم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"[1]. قَالَ تَعَالَى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور ﴾ [الحديد: 22-23].
روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو ابنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ"[2].
يخبر تعالى في هذه الآيات الكريمات أن جميع ما يقع من المقادير والمصائب وغيرها في الأنفس والآفاق، كل ذلك قد كتب الله وقوعه قبل وجوده بمدد طويلة، وذلك لسعة علمه المحيط بكل شيء، ما كان وما يكون، ثم يبين تعالى أن في إخباره لنا بذلك حكمتين عظيمتين وفائدتين جليلتين:
الأولى: ألا نحزن حين فوات شيء من الدنيا ومصالحها، إذ إن ما لم يقدر ينقطع الطمع فيه، والحزن والأسى عليه من الحمق، والله لا يريد لنا أن نقع في ذلك لما ينتج عن الحزن من الآثار السيئة على فكر المرء وتصرفاته.
الثانية: أن الناس عند حدوث النعم ينقسمون إلى قسمين، فضعيف الإيمان بالقضاء والقدر يطير فرحًا، ويمتلىء فخرًا وكبرًا وكأنه والعياذ بالله لم يصدق بما حصل له، أما قوي الإيمان الذي يعلم أن تقدير الله عزَّ وجلَّ سبق وجود هذه النعم فإنه لا يتغير عنده شيء لعلمه وإيمانه أن ما وقع كائن لا محالة فكما أن كتابته سبقت وجوده فكذلك إيمانه سبق وقوعه.
وقوله تعالى في آخر الآية: ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير ﴾ أي: إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عزَّ وجلَّ، لأنه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون؟[3].
ومن فوائد الإيمان بالقضاء والقدر:
أولًا: الرضا واليقين بالعوض، قَالَ تَعَالَى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ﴾ [التغابن: 11]. قال ابن كثير في تفسيرها: "أي: ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله، وقدره فصبر، واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدًى في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يخلف عليه ما كان أُخذ منه، أو خيرًا منه، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: يَهْدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ: هُوَ الرَّجُلُ تُصِيبُهُ المُصِيبَةُ فَيَعلَمُ أَنَّهَا مِن عِندِ اللهِ فَيَرضَى وَيُسَلِّمُ، وفي الحديث المخرج في صحيح مسلم مِن حَدِيثِ صُهَيْبٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ"[4]، قَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ: ﴿ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ - يَعنِي يَسْتَرْجِعُ - يَقُولُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ"[5].
روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم"[6].
ثانيًا: انشراح الصدر، وسعادة القلب، وطمأنينة النفس، وراحة البال، قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وَمَا لِيَ سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر، قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون ﴾ [التوبة: 51].
ثالثًا: الحصول على الأجر الكبير، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون ﴾ [البقرة: 155-157]، قال أمير المؤمنين: نعم العدلان، ونعمت العلاوة؛ ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ فهذان العدلان، ﴿ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون ﴾ هذه العلاوة، وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في الحمل، فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضًا.
رابعًا: غنى النفس، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ"[7].
خامسًا: عدم الخوف من ضرر البشر، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"[8].
سادسًا: الشجاعة والإقدام، فالذي يؤمن بالقضاء والقدر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأجل مقدر لا يزيد فيه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، لا يهاب الموت، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً ﴾ [آل عمران: 145]. وقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون ﴾ [الأعراف: 34]. قال الشافعي:
وَمَنْ نَزَلَتَ بِسَاحَتِهِ المنَايَا
فَلا أَرضُ تَقِيهِ وَلا سَماءُ
سابعًا: عدم الندم على ما فات، والتحسر على الماضي، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"[9].
ثامنًا: أن الخيرة فيما اختاره الله، فقد يقدر على المؤمن مصيبة فيحزن ولا يدري كم من المصالح العظيمة التي تحصل له بسببها وكم صُرف عنه من شرور، والعكس كذلك، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ [البقرة: 216].
قَالَ ابنُ عَونٍ: ارْضَ بِقَضَاءِ اللهِ مِن عُسْرٍ وَيُسْرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ لِهَمِّكَ، وَأَبلَغُ فِيمَا تَطلُبُ مِن أَمرِ آخِرَتِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ العَبدَ لَن يُصِيبَ حَقِيقَةَ الرِّضَا، حَتَّى يَكُونَ رِضَاهُ عِندَ الفَقرِ وَالبَلَاءِ، كَرِضَاهُ عِندَ الغِنَى وَالرَّخَاءِ؛ كَيفَ تَستَقضِي اللهَ فِي أَمرِكَ، ثُمَّ تَسخَطُ إِنْ رَأَيتَ قَضَاءً مُخَالِفًا لِهَوَاكَ؟! وَلَعَلَّ مَا هَوَيْتَ مِن ذَلِكَ، لَو وُفِّقَ لَكَ لَكَانَ فِيهِ هَلَاكُكَ، وَتَرضَى قَضَاءَهُ إِذَا وَافَقَ هَوَاكَ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِلْمِكَ بِالغَيبِ؟! إِذَا كُنتَ كَذَلِكَ، مَا أَنْصَفْتَ مِن نَفسِكَ، وَلَا أَصَبْتَ بَابَ الرِّضَا. قَالَ ابنُ رَجَبٍ: وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ[10].
تاسعًا: النجاة من النار، روى أبو داود في سننه مِن حَدِيثِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ رضي اللهُ عنه: رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ"[11].
عاشرًا: ذهاب الهم والغم والحزن.
الحادي عشر: من الإيمان بالقدر الإيمان بكتابة المقادير قبل إيجادها، فإذا وُجِدت تبين مدى الإيمان بذلك، فَقَوِيُّ الإيمان لا يفرح بما أُوتي، ولا يحزن على ما فات، وعكسه بعكسه بهذا المعنى، وردت الآية الكريمة: ﴿ لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾ [الحديد: 23].
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ
[1] "صحيح مسلم" (برقم 8).
[2] "صحيح مسلم" (برقم 2653).
[3] "تفسير ابن كثير" (13 /431).
[4] "صحيح مسلم" (برقم 2999).
[5] "تفسير ابن كثير" (14 /20).
[6] "صحيح مسلم" (برقم 918).
[7] قطعة من حديث في "سنن الترمذي" (برقم 2305)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (برقم 930).
[8] "سنن الترمذي" (برقم 2516)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[9] "صحيح مسلم" (برقم 2664).
[10] "تيسير العزيز الحميد" (ص522 - 523).
[11] "سنن أبي داود" (برقم 4699)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (3 /890) (برقم 3932).
التعليقات