عناصر الخطبة
1/حسن الظن بالله تعالى 2/معنى حسن الظن بالله 3/ثمرات حسن الظن بالله وأهميته 4/حسن الظن بالله في حياة الأنبياء 5/الفرق بين حسن الظن والغرور.اقتباس
الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الله بعباده لطيف خبير، ذلكم الله ربي؛ فما ظنكم برب العالمين؟! ما أروع حسن الظن بالله! حين يُوقن المؤمن أن بعد الكسر جبرًا، وأن بعد العسر يسرًا، وأن بعد التعب راحة، وبعد الدمع بسمة، وبعد المرض شفاء...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رحيم لطيف بعباده وعزيز ذو انتقام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله يا أمة الإسلام، وآمنوا بالله وارضوا به ربًّا حكيمًا.
أتدرون ماذا قال ربكم؟ قال الحق وهو العلي الكبير، لقد قال ومن أصدق من الله قيلاً، قال رب الأرض والسماء: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء". وفي لفظ: "أنا عند ظن عبدي بي، إنْ ظن بي خيراً فله، وإن ظن شراً فله"، والمعنى: "أعاملُه على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني من خير أو شر".
لقد قال ربكم: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". إنه الله الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ورحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه وهو يغفر الذنوب جميعاً. هل وجدتم أرحم من خالقكم وأكرم وأحلم؟!
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله -عز وجل-، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله -عز وجل- الظن إلا أعطاه الله -عز وجل- ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده".
حسن الظن بالله أنْ يوقنَ العبدُ بربّه -عز وجل- خيراً ورحمةً وإحساناً في كل ما يقعُ عليه من أفعالٍ وأقدارٍ في الدنيا والآخرة. ويعني اعتقاد ما يليق بالله -تعالى- من أسماء وصفات وأفعال، واعتقاد ما تقتضيه من آثار جليلة، كاعتقاد أنّ الله -تعالى- يرحم عباده المستحقين، ويعفو عنهم إنْ هم تابوا وأنابوا، ويقبل منهم طاعاتهم وعبادتهم، واعتقاد أنّ له -تعالى- الحِكَم الجليلة فيما قدَّره وقضاه.
ذلكم الله ربي رحيم حليم، عظيم لطيف خبير، قهار خالق بارئ مصور، ملك قدوس سلام، مؤمن مهيمن عزيز، جبار متكبر، ينصر من نصره، ويغفر لمن استغفره، ويعز من قدره، يداول الأيام بين الناس فيبدل من بعد الخوف أمناً، ومن بعد الضعف قوة ويجعل من كل ضيق فرجاً ومن كل هم مخرجاً، ومع كل عسر يسراً، فما ظنكم برب العالمين؟!
لقد قدره حق قدره من عرف عظمته وقدرته وجلاله وقهره، فأحسنوا الظن به وأيقنوا أنه لن يخذلهم وسيجبر كسرهم، ويكشف ضرهم، ويرفع فقرهم ويدفع كربهم..
أحسن به الظن النبي الكليم المحاصر موسى -عليه السلام- فالبحر من أمامه والعدو خلفه، وأصحابه يرفعون راية اليأس (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الصافات:61]، لكن منطق اليقين والثقة بالله وحسن الظن به يرتفع عاليا ليصدح (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الصافات:62] فلا يخلف الله ظن عبده فيأتي الفرج (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ)[السعراء:65-66].
أحسن به الظن النبي المريض المبتلى أيوب -عليه السلام- فناداه (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء:83]؛ فجاء الفرج من القادر البارئ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)[الأنبياء: 84].
أحسن به الظن النبي الهموم المغموم يونس -عليه السلام- فنادى محسنًا الظن بفارج الهم وكاشف الغم قائلاً: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)؛ فجاء الفرج من الرحيم الحليم (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 87-88].
أحسن به الظن المحروم من الذرية نبي الله زكريا -عليه السلام- فنادى (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)[آل عمران:38]، فعلم الله صِدْقه في حُسن ظنه فجاءت الاستجابة (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)[آل عمران:39].
أحسن به الظن المظلوم المحارب نبي الله إبراهيم الخليل -عليه السلام-، فحينما أوقد لإحراقه نار تلظى أوى إلى ركن شديد قائلاً: "حسبي الله ونعم الوكيل"؛ فاستجاب من يعامل بحسن الظن حسن جزاء فقال (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[الأنبياء:69].
أحسن به الظن خير البشرية محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو في الغار، وأقدام المشركين على فم الغار، وصاحبه الصديق يقول: لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيقول بحسن ظن ويقين بأن الله لن يتخلى عن أوليائه في شدتهم وكربتهم "لا تحزن إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، فيأتي التيسير من الخالق القدير (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:40].
يضع إبراهيم -عليه السلام- زوجه هاجر وابنه إسماعيل في أرض بيداء لا ماء فيها ولا غذاء ولا أنيس ولا جليس، وحينما يهم بالانصراف تناديه: إلى مَن تتركنا؟ فلا يجيب، فتقول: آلله أمرك بهذا؟ قال نعم، فيعلو صوت اليقين وحسن الظن بالله قائلاً: "إذن لا يضيعنا"، فيأتي الفرج ممن يعامل العباد بمثل ظنهم.
أحسن به الظن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب وقد جاءهم العدو من فوقهم ومن تحت أرجلهم وقالوا (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)[الأحزاب:22]، فجاء الفرج من القوة التي لا تُقهر والقدرة التي لا تكسر (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)[الأحزاب:25].
ذلكم هو صنع الله بمن أحسن به الظن، وأيقن أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الله بعباده لطيف خبير، ذلكم الله ربي؛ فما ظنكم برب العالمين؟!
ما أروع حسن الظن بالله! حين يُوقن المؤمن أن بعد الكسر جبرًا، وأن بعد العسر يسرًا، وأن بعد التعب راحة، وبعد الدمع بسمة، وبعد المرض شفاء، وبعد الدنيا جنة عرضها السموات والأرض أُعِدّت للمتقين.
قل للذي ملأ التشاؤم قلبه *** ومضى يضيّق حولنا الآفاقا
سر السعادة حسن ظنك بالذي *** خلق الحياة وقسم الأرزاقا
من ظن بالله خيرًا أفاض عليه جزيل خيراته وجميل كراماته، ومن عامل الله باليقين أدهشه الله من عطائه بما يفوق خياله، فالله -جل جلاله- يعامل عباده على حسب ظنونهم به، ويفعل بهم ما يتوقعونه منه وفوقه. إذا دعوت فظن بالله خيرًا أنه سيستجيب دعاءك، وإذا أنفقت في سبيل الله فظن بالله خيرًا أنه سيُخلف عليك، وإذا تركت شيئًا لله فظن بالله خيرًا أنه سيعوضك خيرًا مما تركت، وإذا استغفرت فظن بالله خيرًا أنه سيغفر لك وسيبدل سيئاتك حسنات.
إذا ضاقت فباب الله رحب *** وما خاب الذي لله آبا
متى ما استحكمت قل يا رحيما *** يفرجها ويمنحك الثوابا
وأحسن بالكريم الظنَّ دوما *** تجد من لطفه العجب العجابا
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: فيا عباد الله، أحسنوا الظن بربكم عن الشدائد والأزمات والتضحيات، وكثرة الفتن، وتقلب الأمور، وغلبة الديون، وضيق العيش ومثل ذلك ففي الحديث: "من نزلت به فاقة فأنزلها بالله يوشك الله له برزق عاجل أو آجل".
أحسنوا الظن بربكم عند دعائكم، وادعوا وأنتم موقنون بالإجابة، وتذكروا أن قول الله (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[البقرة:186]، هو حق وصدق لا ريب فيه، والله لا يخلف الميعاد.
أحسنوا الظن بربكم عند توبتكم، واعلموا أن الله يغفر الذنوب جميعًا، وأنه لا يتعاظمه ذنب؛ فتوبوا واستغفروا وأحسنوا الظن بمن وسع كل شيء رحمة وعلمًا.
أحسنوا الظن بربكم عند احتضاركم وقرب لقائكم بمن هو أرحم بكم من أنفسكم وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله -تعالى-".
قال أعرابي لابن عباس: من يحاسب الناس يوم القيامة؟ قال: الله. قال نجوتُ ورب الكعبة؛ لأن الكريم إذا ملك رحم، وإذا قدر عفا.
أحسنوا الظن بربكم بأنه لن يترك دينه ولن يخذل أولياءه وقد حكم بأن العاقبة للمتقين. حينما ترون غربة الإسلام ومحنة المسلمين واشتداد البلاء على الصالحين وارتفاع راية المفسدين، فلا تظنوا بالله إلا خيرًا وثقوا أن وعده لن يتخلف وسنته لن تتبدل ولتعلمن صدقها بعد حين، وستأتي الأنباء في حياتنا، أو في حياة من بعدنا بنصرة الإسلام وأهله، ومن ظن أن الله متخلٍ عن أوليائه، ولن ينصر دينه فقد ظن بالله ظن السوء، كيف وقد حكم (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)[النساء:141]، وما يقع من ابتلاءات ومحن وتضييق وشدائد فهي كما قال الله (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران: 140].
أحسنوا الظن بربكم فوالله "ليتمن الله هذا الأمر وليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ولن يترك بيت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل".
أحسنوا الظن بربكم فما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال، وربنا كل يوم هو في شأن، ففي لحظة وبقول (كن) سيصبح المظلوم منصورًا، والظالم مقصومًا والغني فقيرًا والفقير ميسورًا، وأمة تقوم وقوة تصبح هباء منثورًا فأحسنوا الظن بمن يدبر الأمر.
وختامًا فإن حسن الظن بالله يتطلب الإيمان بحكمة الله وتدبيره وعلمه وقدرته وأنّه لا ينقصه شيءٌ إن هو أعطى، ولن يزيده شيءٌ إن هو منع؛ وإنّما ذلك كلّه لحكمةٍ يعلمها، وقد يكون في بعض المنع نعمةٌ، وفي بعض العطاء نقمةٌ، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].
وإن حسن الظن بالله لا يعني الغرور والتواكل وترك العمل، وقد قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن قومًا ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ومالهم حسنة يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي.. وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور، وأنَّ حسن الظن إن حمَل على العمل وحثّ عليه وساعده وساق إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور، وحُسن الظن هو الرجاء، فمن كان رجاؤه جاذباً له على الطاعة زاجراً له عن المعصية فهو رجاء صحيح، ومن كانت بطالته رجاءً ورجاؤه بطالةً وتفريطاً فهو المغرور".
يا أيها المسلمون: إن دعوتم.. إن عملتم.. إن استسقيتم.. إن ابتليتم.. إن مستكم البأساء والضراء فأحسنوا الظن بأرحم الراحمين، إن ربي لطيف لما يشاء، وسيجعل من بعد العسر يسرًا.
تأمل في الحياة ترى أمورا *** ستعجب إن بدا لك كيف كانت
فكم من كربة أبكت عيونا *** فهوّنها الكريم لنا فهانت!!
وكم من حاجة كانت سرابًا *** أراد الله لقياها فحانت
وكم ذقنا المرارة من ظروف *** برغم قساوة الأيام لانت
هي الدنيا لنا فيها شؤون *** فإن زينتها بالصبر زانت
اللهم ارزقنا حسن الظن بك، وصدق التوكل عليك، ولذة الافتقار لك.
اللهم صلّ وسلّم...
التعليقات