عناصر الخطبة
1/ الصادقون والأدعياء يولون فلسطين أهمية 2/ حقيقة الشرعية الدولية واللجنة الرباعية 3/ الأقصى يختصر معالم الصراع 4/ ثوابت إسلامية في قضية فلسطين 5/ الواقع ليس حُكمًا على الشريعة 6/ الفرق بين الوضع في فلسطين والعراق وأفغانستان 7/ حقيقة الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية 8/ حاجتنا لتحرير الولاء للهاهداف الخطبة
اقتباس
إن الحديث عن قضية فلسطين يمارسه كل الناس: أنصار الشعب الفلسطيني وأعداؤه، الصادقون في النصح وأدعياؤه، الراغبون في الحل والراغبون عنه والزاهدون فيه، كل هذا قد يكون طبيعيًّا باعتبار اختلاف وجهات النظر ومكونات الفكر والمصالح، أما ما ليس طبيعيًا فهو أن يُراد سَوْق الجميع سَوْقًا، طوعًا أو كرهًا إلى السير وفق منهج من الثوابت الإسرائيلية، المسنود بمصالح ورؤى غربية ..
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: ما تزال الأحداث تتجدد يومًا بعد يوم، منذ عشرات السنين والعالم الإسلامي يمر بمشكلات ومصائب لم يسلم منه بلد إسلامي تقريبًا، من سلم من الأزمات والعداء الخارجي لم يسلم من الأزمات الداخلية، ومع كل هذا تبقى قضية فلسطين هي القضية الأم، وهي القضية الأولى مع عدم التهوين والتقليل من القضايا الأخرى.
أيها المسلمون: إن الحديث عن قضية فلسطين يمارسه كل الناس: أنصار الشعب الفلسطيني وأعداؤه، الصادقون في النصح وأدعياؤه، الراغبون في الحل والراغبون عنه والزاهدون فيه، كل هذا قد يكون طبيعيًّا باعتبار اختلاف وجهات النظر ومكونات الفكر والمصالح، أما ما ليس طبيعيًا فهو أن يُراد سَوْق الجميع سَوْقًا، طوعًا أو كرهًا إلى السير وفق منهج من الثوابت الإسرائيلية، المسنود بمصالح ورؤى غربية يُطلق على مجموعها "الشرعية الدولية"!
والأعجب من ذلك أن يُنتدب إلى الدفع في هذا الاتجاه أقوام من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا في داخل الأرض المقدسة وخارجها؛ لتكون السيادة في النهاية لتلك الشرعية الدولية الغربية الصهيونية على الشرعية الإسلامية التي هي أساس الأسس ومنطلق الحلول الحقة العادلة في هذه القضية، ولا ننسى الأطماع والمخططات العالمية المنظمة لحصار الشام بعد حصار العراق، والتهديدات المبطنة والمعلنة لإغراق مصر وخنق السودان وحرق إيران ولبنان، وإطلاق الفوضى الخلاَّقة في غيرها من البلدان.
أيها المسلمون: هل تعلمون ماذا قرّر أعداؤنا قبل فترة تحت مسمى "الشرعية الدولية"؟! كُونت في السنوات الأخيرة لجنة منبثقة عن الجهات المتحكمة في تلك الشرعية، هي التي أُطلق عليها "اللجنة الرباعية" والتي تضم طواغيت العالم اليوم وهم: الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي! وكل هذه الأطراف المتحدة قد توافقت على ثوابت فيما يخص القضية الفلسطينية في ظل الفُرقة التي تجمعنا، هذه الثوابت التي يطلق عليها في الإعلام "مطالب الرباعية" تتمثل في: ضرورة أن يلتزم الفلسطينيون والعرب والمسلمون من ورائهم بالاعتراف بحق دولة اليهود في الوجود على أرض فلسطين، أي بمعنى أحقيتها في كل ما اغتصبته ولا تزال تغتصبه من أراضٍ ومقدرات ومقدسات هناك، هذا أولاً.
أما ثانيًا: أن يلتزم الفلسطينيون والعرب والمسلمون معهم بنبذ العنف، أي عدم تحريك ساكن ضد جرائم اليهود القائمة كلها من أولها لآخرها على مسلسل من العنف الدموي الإجرامي من خلال الحروب والمعارك المتتابعة التي وصلت الآن لِسِتة حروب في ستة عقود، أما الأمر الثالث من مطالب الرباعية أو ثوابتها، فهو التزام كل الاتفاقات السابقة بين العلمانيين العرب والعقائديين اليهود، ابتداءً من اتفاقات "كامب ديفيد" ومرورًا باتفاقية "أوسلو" ووصولاً إلى "خارطة الطريق"، وهي كلها تركز على ثابتين: الاعتراف بدولة اليهود، وتجريم أي مقاومة ضدها.
لا شك في أن ما جرى مؤخرًا من فصول جديدة من التآمر ضد القدس والأقصى، يمثل مرحلة متقدمة من المشروع الهادف إلى إحكام سيطرة اليهود عليهما بشكل نهائي؛ حيث إن الأقصى يتوجب هدمه جذريًّا، والقدس يتوجب ضمها نهائيًّا حتى تكتمل معالم الدولة اليهودية التي أشار بوش إلى ضرورة توافق الجميع على استكمالها، في حضور العديد من الزعماء العرب ومنهم محمود عباس في مؤتمر خليج العقبة عام 2003م!
أيها المسلمون: إن الأقصى سيظل يختصر معالم الصراع الديني في قضية فلسطين، إسلاميًّا ويهوديًّا ونصرانيًّا، حيث يتوافق الجميع بغير اتفاق على أنه يبقى بؤرة صراع الأديان في المستقبل القريب والمستقبل البعيد، بعد أن كان محورًا لهذا الصراع منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، عندما بنى داود عليه السلام مدينة القدس وأعاد ابنه سليمان بناء المسجد الأقصى فيها.
الأقصى هو المركز في قصة صراع الحق والباطل بين أتباع الديانات الثلاث، ولذلك فمنه ابتدأ سرد ثوابتنا الإسلامية، التي يُراد التصدي لها أو القفز من فوقها إلى حيث ثوابت المغضوب عليهم والضالين، ومن دار في فلكهم من المنافقين. وثوابتنا الإسلامية في قضية فلسطين تتلخص فيما يلي:
أولاً: المسجد الأقصى ليس مجرد مسجد يمكن استبداله أو التفريط فيه، فهو يرمز إلى المعتقد الحق الذي جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ناسخًا الشرائع السابقة، ولذا فإن التفريط فيه تفريط في العقيدة والشريعة معًا.
ثانيًا: الأرض المباركة حول المسجد الأقصى قُدّست لارتباطها بقدسية الرسالات السماوية التي خُتمت برسالة خاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- كما دلت حادثة الإسراء، والاعتراف بحق اليهود في الوجود فيها كدولة، هو خيانة لله وللرسول وللمسلمين.
ثالثًا: هذه الأرض فتحها المسلمون الأوائل من الصحابة ومن تبعهم، فلكل المسلمين فيها حقوق وعليهم واجبات؛ لأنها وَقْفٌ عليهم جميعًا، ولهذا لا يحق لكائن من كان أن ينفرد بتقرير مصيرها لغير صالح الإسلام والمسلمين؛ لأن نُصرتها أمانة في أعناقهم جميعًا بأرضها وشعبها ومقدساتها ومجاهديها ومرابطيها وأسراها وجرحاها.
رابعًا: قضايا المسلمين الكبرى كقضية فلسطين لا بد أن يُرَدَّ الفصل فيها لأهل الحل والعقد من المسلمين، الذين يمثلهم في الأساس أهل العلم والفقه على مستوى العالم الإسلامي، أما الساسة والمتنفذون فما عليهم إلا التنفيذ في حال القدرة والاستطاعة إذا كانوا حقًّا مخلصين للأمة، وغير المخلصين للمسلمين، من المعادين للدين أو المهادنين لأعدائه، ليس لهم من الأمر شيء، ولا ولاية لهم على قضايا المسلمين انفرادًا أو شراكة، بل ولا مشورة ولا بطانة، وتقريبُ هؤلاء أو التقرب منهم، فيه إزراء بالدين وتغرير بالمسلمين.
خامسًا: كل اتفاق أو معاهدة أو مبادرة تُبرَم أو تُطلَق من غير الاستناد الواضح لمرجعية الإسلام التي يقول بها العدول من أهل العلم، فهي مجرد حبر باهت على ورقٍ مهترئ، لا قيمة لها ولا اعتبار؛ ولهذا لا يجوز أن يكون الموقف حيالها هو الاحترام أو الالتزام.
سادسًا: اليهود كانوا وسيظلون للأبد أشد الناس عداوة للذين آمنوا، ويدخل في حكمهم من شايعهم من النصارى وغيرهم، ولهذا فإن دعوى السلام الدائم والعادل معهم افتراء على الحق، وتضييع للحقيقة؛ لأن عداوتهم زادت وتضاعفت باغتصابهم لحقوق المسلمين وأراضيهم، وجهاد هـؤلاء لا يمكن القول بإبطاله أو تأجيله عن وقته، فضلاً عن القول بنبذه والتبرؤ منه؛ لأنه شرعة واجبة إما عينيًا أو كِفائيًا، وبخاصة في أرض فلسطين.
سابعًا: الشريعة الإسلامية لا النظم العلمانية ستظل مرجع الحاكمية الواجبة في فلسطين وغيرها، فالتحاكم إليها واجب حتى عند عدم القدرة على تنفيذها، والعجز عن الحكم بها لا يسوِّغ التحاكم أو الرضا بغيرها، فضلاً عن السعي لتمكين غيرها للحكم في رقاب المسلمين ودمائهم وأعراضهم وسائر شؤونهم.
ثامنًا: أرض فلسطين وسائر بلاد الشام، فتَحها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين الذي أحلوا فيها نهج الحق والسنَّة، فيجب تعظيم قدرهم فيها، وتعظيم المنهج الذي أحلُّوه فيها، دون فتح المجال لإجلال وتمكين البدعة وأهلها فيها من أعداء الصحابة وأعداء منهجهم الحق، كما حدث ذلك فيما جاور فلسطين من بلاد الشام.
تاسعًا: كما ظلت القومية والوطنية العلمانية، وكذلك الثورية والليبرالية، تمثل خطرًا على مسار القضية الفلسطينية من الخارج، فإن التقيد بالحزبية أو القطرية أو المجاملات الرسمية، يمكن أن يؤخر مسار التقدم باتجاه هذه القضية المركزية عند كل المسلمين.
أيها المسلمون: قد يقول قائل: أين نحن مما تتحدثون عنه في زمن هوان المسلمين، وظروف تمكن الأعداء، ومناخ المعادلات الدولية والنظرات الواقعية لموازين القوى المؤثرة في طبائع الأحداث؟! الجواب: الواقع ليس حُكمًا على الشريعة والعقيدة، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية: فإن هذا الواقع يتغير بسرعة لصالحنا كلما غيَّرنا ما بأنفسنا، كما تشهد بذلك ساحات الانتصارات الأخرى. ومن ناحية ثالثة: فإن في مقابل تلك الثوابت الإسلامية، هناك ثوابت دينية صهيونية نصرانية تقابل كل بند فيها. ومن جهة رابعة: فإن الأجيال الإسلامية، لا بد أن تنشأ على المفاهيم والثوابت الإسلامية في قضاياها، حتى إذا عجزنا نحن، لم نورِّثهم ذلك العجز، أو نسلِّمهم لمسلَّمات وثوابت المبطلين، من العلمانيين وأشياعهم.
إن العلمانية العربية هي أكثر الأطراف حديثًا عن الثوابت، ولكنها ثوابت تختلف عن ثوابتنا الإسلامية، ومع هذا فإنها كانت ولا تزال الأكثر تفريطًا فيها وتجاوزًا لها، فمن الذي لا يذكر ممنوعات عبد الناصر، ولاءات السادات، ومحرمات عرفات، واحتجاجات وتحفظات جبهات الصمود والتصدي والبعث العربي والجامعة العربية بمؤتمراتها ومقرراتها التي تذهب تباعًا أدراج الرياح؟! إن تلك الثوابت لم يبقَ منها الآن إلا بعض أشكال الممانعة التي تتشبث بها فصائل المقاومة، مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما، ومع هذا يراودها الأكثرون عليها ويحاولون إبعادها عنها! ما الذي أوصل إلى كل هذا التراجع من طرفنا مع ازدياد العناد والمزايدة من أطراف أعدائنا؟!
أيها المسلمون: في النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن الهجري، أي ما يوازي منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الفائت، كان هناك سؤال يثور في الأذهان ويدور على الألسنة، مؤدّاه: لماذا أفغانستان وليس فلسطين؟! حيث كان الجهاد لتحرير أفغانستان من الغزو الروسي يكتسب وقتها زخمًا إسلاميًّا عالميًّا، بعد أن أخذت القضية الأفغانية بُعدًا عقديًا، جمع حولها قلوب المسلمين أفرادًا وجماعات ومجتمعات، بينما كانت قضية فلسطين الأكبر والأخطر والأقدم تعاني إهمالاً واضحًا، وضمورًا لافتًا في الضمائر، انعكس على ما تترجمه السرائر والظواهر! لم يكن على الساحة الفلسطينية حتى ذلك الوقت بروز يُذكر لأي تجمع إسلامي شعبي يجاهد لأجل تحرير فلسطين، على الرغم من مضي زمان يزيد على زمن التيه من احتلالها، بينما وُجد في أفغانستان في غضون سنوات قلائل، جمع من المنظمات الجهادية، ظلت تنازل أكبر جيش في العالم في ذلك الوقت حتى أخضعته وأخرجته صاغرًا من الأرض الأفغانية!
لقد كان الجزء الأكبر من الإجابة على ذلك السؤال: لماذا أفغانستان وليس فلسطين؟! يكمن في وصف الحال هنا ووصفه هناك، حيث كان الفرق الكبير هو أن القضية الأفغانية أخذت بُعدها الإسلامي الاعتقادي إعلاميًّا وسياسيًّا بشكلٍ كافٍٍ، بينما كان أَسر الإسرائيليين لفلسطين يكتسب الضمانات والحصانات من العلمانية العربية والفلسطينية التي ميَّعت القضية بخطاب بارد جافٍ، منزوع العقيدة، فاقد التأثير في قلوب المسلمين وعقولهم.
إن هذه الأمة -مهما اعتورها من دَخَن أو دَخَل خارجي- هي في جوهرها الداخلي إسلامية القلب، إيمانية الوجهة، ولا يستطيع أن يؤثر فيها أو يأسر قلبها إلا من خاطبها بلسان الإسلام والإيمان، حتى ولو كان ذلك بالمظاهر والشعارات، فهي قد تُخدَع لمن خدعها بالإسلام، ولكنها تَصدُق مع من صَدَقها في خطاب الإيمان، وقد فهم أعداء الأمة هذا جيدًا، فكانوا حريصين كل الحرص على أن لاَّ يخاطبها أحد بذلك الخطاب الإسلامي إلا فيما يتقاطع مع مصالحهم، في حين لا يزعجهم كثيرًا خطاب الشعارات المائعة، قومية أو وطنية، ثورية أو ليبرالية، فهي وإن -علا صوتها وتزاحم ضجيجها- فإنها لا تعدو أن تكون قعقعة في بطن جوعان، أو زوبعة في قعر فنجان!!
وهذا ما حدث عندما خاض العرب تحت تلك الرايات والشعارات حروب الهزائم الكبرى، مستبعدين الإسلام، متجاهلين المسلمين غير العرب، لتظل هذه القضية، قضية قومية عربية علمانية، لم تلبث أن تحولت إلى قضية وطنية فلسطينية علمانية أيضًا. لكن لمّا ظهرت التوجهات الإسلامية في فلسطين على يد حماس والجهاد الإسلامي، كان واضحًا أن هناك تغيرًا طرأ على الساحة الفلسطينية، وهو قابل للتطور باتجاه أسلمة القضية، وهنا قال العلمانيون وقال الإسرائيليون والأمريكيون قبلهم: لا! ولهذا كانت مدريد وكانت أوسلو وكانت خارطة الطريق.
لقد أطاحت أوسلو وأخواتها بأهم الثوابت المتعلقة بالصراع مع اليهود المغتصبين بعد أن أغلقت فتح ملف الثوابت الفلسطينية، ولم تُبْقِ منها إلا مسألة الدولة الفلسطينية بزعامة علمانية صديقة لليهود، ومع ذلك ظل أصحابها يتحدثون أكثر من غيرهم عن الثوابت الفلسطينية التي لا تختلف الآن كثيرًا عن الثوابت الإسرائيلية التي تنافح عنها اللجنة الرباعية، وكان آخر ذلك تصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مع حركة حماس؛ حيث قال: كل الوزراء في الحكومة سيلتزمون بثوابت الرباعية، ولن يلتزموا بإملاءات الجهة التي جاؤوا منها، يقصد حماس بالطبع.
إننا أمام معادلة تقول: كلما انخفض سقف الخطاب العربي والإسلامي في القضية الفلسطينية، ارتفع سقف الطمع في التنازلات والتراجعات على الجانب المعادي، إسرائيليًا كان أو أمريكيًا أو أوروبيًا، وهذا هو التحدي الكبير الذي يواجه الإسلاميين الفلسطينيين في حماس وغيرها.
أيها المسلمون: بعد عام تقريبًا من الآن، يكون الاحتلال اليهودي لفلسطين عام 1948م قد مضى عليه ستون عامًا، وإذا أرَّخنا لضياع فلسطين باحتلال الإنجليز لها عام 1918م، والذي تواصَل حتى الاحتلال الإسرائيلي، يكون قد مضى في العام القادم على القضية الفلسطينية تسعون عامًا!
خلال الستين عامًا أو التسعين عامًا، أضاع العرب والمسلمون الكثير والكثير من الفرص لتحرير فلسطين، وما ذلك إلا بسبب التخبط والتردد والتخليط في اختيار الرايات التي ستُحرَّر تحت ألويتها الأرض المقدسة المغصوبة، حيث أكثرَ ساستنا التنقل بين الليبرالية والاشتراكية والقومية والوطنية، مستعينين تارة بالشرق، ومرتمين تارة في أحضان الغرب، وهو ما جعل ثوابت القضية الفلسطينية لا تكاد تثبت على حال.
نسأل الله -جل وتعالى- أن يعجل بفرج أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
نفعني الله وإياكم بهدي...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
أيها المسلمون: وبعقد مقارنة بين أوضاع قضية احتلال فلسطين التي مضى عليها ما يقرب من ستين عامًا أو تسعين عامًا، وبين قضية احتلال العراق التي مضى عليها نحو أربع سنوات فقط!! تبرز تساؤلات كثيرة من الفروق والمفارقات: هل فلسطين أكثر قدسية أم العراق؟! هل اليهود أكثر عداوة للذين آمنوا أم الأمريكان؟! هل الجيش الأمريكي أقوى أم الجيش الإسرائيلي؟! هل الاحتلال الصهيوني لفلسطين أقدم وأخطر وأطول، أم الاحتلال الأمريكي المؤقت للعراق؟! هل الدعم الحكومي الرسمي والدعم الشعبي العربي والإسلامي لحركات التحرير الفلسطينية كان أكثر على مدى الستين عامًا الماضية، أم الدعم المقدم لحركات المقاومة العراقية على مدى أربع سنوات؟! هل المشاركة والتسهيل والدعم لاحتلال أراضي فلسطين عامي 48 و67 كان أخطر، أم أن ذلك الذي كان في حالة العراق، إلى الدرجة التي أوصلت إلى وجود احتلال إيراني موازٍ للاحتلال الأمريكي في أرض الرافدين؟!
سنجد بعد الإجابة الموضوعية عن تلك الأسئلة أن الفارق كبير جدًّا بين مؤهلات الانتصار الأسهل في فلسطين افتراضًا ومسببات الانتصار الأصعب في العراق واقعًا! وهنا نعيد السؤال القديم بصيغة جديدة: لماذا العراق وليس فلسطين؟! لا تقليلاً من قدر العراق أو تهوينًا من خطر الأمريكان، ولكن، لنطرح ذلك التساؤل الأصعب: كيف حققت المقاومة العراقية تلك الانتصارات المذهلة في ذلك الوقت القياسي القليل جدًّا، مع تلك الإمكانات المحدودة جدًّا وفي تلك الظروف الأصعب جدًّا؟! في حين أنها تقاتل في وقت واحد عدوين كبيرين: علوج الأمريكان الهائجة وجُعلان إيران الهمجية، إضافة إلى قوات التحالف المجموعة من حثالات الأمم!
إن المقاومة في العراق لم تحرز انتصارات كبيرة على أمريكا وحلفائها فحسب، في ظروف استضعاف وتنكُّر وخذلان وإعراض من الأكثرين، بل إن أداءها الأسطوري المرعب لأعداء الله، كان سببًا -بفضل الله- في حماية بقية دول الجوار من بقية مسلسل الجور الأمريكي الذي كان مخططًا لما بعد نجاح الغزو في العراق.
أيها المسلمون: ونعود إلى فلسطين حيث السؤال الذي لا يزال يفرض نفسه: متى نرى في اليهود هناك، مثل ما نرى في الأمريكيين وحلفائهم في العراق؟! إن الجواب يمكن التفصيل فيه، ولكنه يكمن في كلمات محدودة: تنقية الراية، وتصفية وتقوية الثوابت الفلسطينية إسلاميًّا لتكون خالصة من شوائب الثوابت العلمانية، ومصادرها الرئيسة المستمدة من مبادئ الظلم الكامنة في الشرعية الدولية ذات الوجهة الصهيونية.
إن الشعب الفلسطيني -من حيث هو شعب أبيٌّ صابر ومجاهد ومرابط- لا يمكن المزايدة على تضحياته بتضحيات أخرى، ولكن تسلط بعض زعاماته بفرض قناعات بعيدة عن المنهج السوي، هو ما قلل من قطف ثمرات تلك التضحيات، وإن ما نشهده من تضييق الحصار المنهجي على حركة حماس لتتخلى عن الثوابت الإسلامية، لهو أخطر من الحصار الاقتصادي المفروض على بقية الشعب؛ لأن حصار البطون سيهون وينتـهي، ولكن حصار العقول والقلوب لو نجح -عياذًا بالله- فسوف يباعد أكثر من النصر، ويمكِّن أكثر للعدو، ويفتح المجال لسنن الاستبدال.
إن فلسطين في حاجة إلى مزيد من التشبث بتحرير الولاء لله؛ لتحرير المقدسات والأراضي والمقدرات من أعداء الله، وهذا ما سوف يحدث قطعًا، عندما تكون الرايةُ الإسلامَ، والغاية العبودية، فبهذين الوصفين سيلتفت العرب وسيتضامن المسلمون، بل سينطق الحجر والشجر لنصرة المظلومين ضد اليهود الظالمين، مصداقًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله: هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله!". فالنداء هنا بوصف الإسلام ووصف العبودية، وليس بالقومية أو الوطنية أو العلمانية التي أضاعت الأرض والعرض في فلسطين لنحو تسعين عامًا.
التعليقات