عناصر الخطبة
1/ الله يخلق ما يشاء ويختار 2/ فضل شهر الله المحرم 3/ الأشهر الحرم 4/ تحريم الظلم ووعيد الظالمين 5/ دواوين الظلم الثلاثة 6/ التنبيه على معاصٍ منتشرة بين الناساهداف الخطبة
اقتباس
ولما نوّه الله بعِظَم هذه الشهور ونبّه على فضلها عقَّب ذلك بتحريم الظلم فيها، فالظلم ذنب عظيم وإثم مرتعه وخيم، وهو سبب كل شر وفساد وكل بلاء وإلحاد، فهو منبع الرذائل والموبقات ومصدر الشرور والآفات، متى فشا في أمة آذن الله بأفولها، ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها، فبه تفسد الديار وتخرب الأمصار، وبه ينزل غضب الواحد الجبار، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله: يقول ربنا -جل في علاه-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص: 68]، فسبحان من له الخلق والأمر تبارك ربّ العالمين، فالخلق خلقه، والأمر أمره، (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23].
عباد الله: إنّ اللهَ خلق الزمان واختار منه ما يشاء، فاختار من الشهور بعضها وفضلها على بعض، واختار من الليالي والأيام ما يشاء، كل ذلك بحكمته ورحمته، عليم حكيم، رؤوف رحيم، لا رادّ لقضائه، ولا معقب لأمره: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 18].
ومما اختار الله من الشهور شهر الله المحرم، فأضافه إلى نفسه سبحانه تشريفًا وتكريمًا، وهو هذا الشهر الذي نعيش الآن أيامه، خصه الله بمزيد تشريف وتكريم، وزاده بفضل إجلال وتعظيم.
ومما جاء في فضلة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل". ومن فضائل يوم عاشوراء أنه اليوم الذي تيبَ فيه على آدم ويونس عليهما وعلى نبينا -أفضل الصلاة وأزكى السلام-.
عباد الله: إنكم في شهر حرام وفي بلد حرام، عظّم الله هذا الشهر وعظم هذا البلد، فمِن تعظيم الله سبحانه أننا نعظم ما عظّم وأن نحرّم ما حرّم.
عظم الله هذا الشهر فقال سبحانه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36]، فهذه الأشهر هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: ولما نوّه الله بعِظَم هذه الشهور ونبّه على فضلها عقَّب ذلك بتحريم الظلم فيها، فالظلم ذنب عظيم وإثم مرتعه وخيم، وهو سبب كل شر وفساد وكل بلاء وإلحاد، فهو منبع الرذائل والموبقات ومصدر الشرور والآفات، متى فشا في أمة آذن الله بأفولها، ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها، فبه تفسد الديار وتخرب الأمصار، وبه ينزل غضب الواحد الجبار، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) [الكهف: 59]، وقال: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).
أيها المؤمنون: إن الله تعالى نفى عن نفسه الظلم، فقال -عز وجل-: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46]، وقال: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا). وقد حرمه تعالى على نفسه فقال في الحديث القدسي: "يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا". رواه مسلم. فحرّم الظلم على نفسه قبل أن يجعله محرمًا بين عباده. وقد أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف، فقال في خطبته يوم عرفة: "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، وفي الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"، وقال فيما يرويه مسلم وغيره: "المسلم أخو المسلم؛ لا يظلِمه، ولا يخذله، ولا يحقره".
وقد تهدد الله تعالى أرباب الظلم وأهله، فقال -جل ذكره-: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم:42]، فالله تعالى للظالمين بالمرصاد، إذا أخذ الظالم لم يفلته، بل يأخذه أخذ عزيز مقتدر، (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]، وقد لعن الله الظالمين فقال: (ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]، وأخبر سبحانه أنه يبغضهم فقال: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين)َ [آل عمران: 57].
والظلم –يا عباد الله- من أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82]، فبقدر ما يكون في الفرد والمجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء، فالجزاء من جنس العمل، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
أيها المؤمنون: إن الظلم الذي وردت النصوص في تحريمه وبيان سوءِ عاقبته والتحذير منه دواوين ثلاثة:
أولها: ديوان لا يغفره الله أبدًا، وهو الإشراك بالله تعالى، بصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله، كدعاء غيره، والسجود لغيره، والذبح والنذر لغيره، ونبذ شرعه والتحاكم إلى سواه، قال الله تعالى حاكيًا عن لقمان وصيته لابنه: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، فهذا الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء) [النساء: 48]. فأخلصوا -أيها المؤمنون- عبادتكم لله تعالى، فإنه من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه دخل الجنة، وحاربوا الشرك وأهله بالدعوة إلى التوحيد.
وأما ثاني الدواوين: فذاك الظلم الذي لا يتركه الله تعالى، وهو ظلم العبد غيرَه من الخلق، فهذا لا بد فيه من أخذ الحقّ للمظلوم من الظالم، كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي: "وعزّتي، لأنصرنّك ولو بعد حين".
أيها المؤمنون: اتقوا الظلم؛ فإنّ نبيكم الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن الدنيا تملأ في آخر الزمان ظلمًا وجورًا، وها نحن نشهد صدق ما أخبر به، فإن الظلم قد فشا وشاع بين الناس، في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض، ومن أعظم الظلم وأشنعه ظلم الأقربين والتعدي عليهم بأي نوع من أنواع الظلم كما قيل:
وظلم ذوي القربى أشد مضـاضة *** على الحُرِّ من وقع الحسام المهند
فمن الناس من يظلم والديه وأقرب الناس إليه، ومن الناس من يظلم زوجه وأبناءه وبناته ومن له حق الولاية عليهم، ومن ظلم الزوجات أن لا يقوم بما يجب لها من حقوق شرعية، سواء في النفقة أو التعامل الحسن والكلمة الطيبة والاحترام والتقدير المطلوب بين الزوجين والوفاء لها وتقدير ضعفها وعاطفتها وحاجتها، ويظهر الظلم بصورة أوضح عند بعض الذين لديهم أكثر من زوجة، فيميل إلى واحدة على حساب الأخرى.
ومن ظلم الأولاد أنّ بعض الناس لا يحسن العدل بين أولاده، فيظلم بعضهم، ويَشْعُر أحد الأولاد -ابنًا أو بنتًا- بميل الأب إلى غيره وعدم العدل بينه وبين إخوانه، وتلك مشكلة يغفل عنها الكثير من الآباء؛ ما يسبب الحقد والبغضاء بينهم، وكم سمعنا من هذا الشيء الكثير حتى تبلغ العداوة بين الإخوان شيئًا لا يكاد يصدقه عقل، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يسحر أخاه أو يعتدي عليه بالضرب أو القتل، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم".
ومن ظلم العبد لغيره ظلم الخدم والعمال، فكم نرى من أصحاب الأعمال الذين ظلموا عمالهم؛ بتحميلهم ما لا يطيقون، أو بتأخير رواتبهم ومستحقاتهم، أو جحد حقوقهم، أو فرض الإتاوات عليهم.
وكم هم الولاة الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وحكّموا القوانين الوضعية، فلم يعدلوا في الرعية ولم يقسموا بالسوية!! وكم هم الذين أطلقوا لأنفسهم العنان في أعراض الناس ودمائهم، فتفكهوا بأعراض الغافلين وسفكوا دماء المؤمنين.
فلِلَّه ما أكثر المفلسين الذين يعملون لغيرهم ويتحمّلون عنهم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس؟!"، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار". رواه مسلم.
فيا لها من تجارة بائرة وصفقة خاسرة أن تأتي يوم القيامة وأنت أحوجُ ما تكون إلى حسنة تثقل بها ميزانك، فإذا بخصمائك قد أحاطوا بك، فهذا آخذ بيدك، وهذا قابض على ناصيتك، وهذا متعلق بتلابيبك، هذا يقول: ظلمتني، وهذا يقول: شتمتني، وهذا يقول: اغتبتني أو استهزأت بي، وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري، وهذا يقول: غششتني، وهذا يقول: أخذت حقي.
فيا عباد الله: تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فما هي والله إلا ساعة ثم تبعثر القبور، ويحصّل ما في الصدور، وعند الله تجتمع الخصوم، فيقتص من الظالم للمظلوم، فتحللوا -أيها الإخوان- من المظالم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه". رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيّها المؤمنون: أما ثالث دواوين الظلم فهو ظلم العبد نفسَه بالمعاصي والسيئات، فكل ذنب وخطيئة تقارفها -يا عبد الله- فإن ذلك ظلم منك لنفسك وبغي عليها، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 229].
والناس في ذلك مستقل ومستكثر، فمن الناس من لا يردعه رادع ولا يزجره وازع، يخوض في غمار المعاصي والذنوب، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، فأصبح جمعُ المال والنتافسُ عليه مستنقعًا آسنًا، عبّ منه كثير من العالمين، وارتوى منه كثير من الغافلين، فالربا قد انتشر وفشا، واستهان الناس بأخذ الرشا، مع ما ورد فيهما من الوعيد الشديد والنهي الأكيد، ضيّعت بسبب ذلك الأمانة وفشت الخيانة، وانتشر الكذب والتدليس، كل ذلك بسبب التنافس على حطام الدنيا الزائلة والاستكثار منها، مع أن نبينا المشفقَ على أمته قد حذرها من ذلك فقال: "فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم". متفق عليه.
وإن من أعظم ما فشا بين الناس من المحرمات واستمرؤوها واعتادوا عليها وألفوها حتى أصبحوا لا ينكرون على أصحابها ولا يعاتبون أربابها حلقَ اللحى وإسبالَ الثياب وسماعَ الأغاني.
فأصبح حلق اللحية أمرًا مألوفًا لدى كثير من الناس، بل ربما أصبحت ترى من يتصدّر لتوجيه الناس وتعليمهم بل والفتيا والقضاء قد حلق لحيته كلّها أو كثيرًا منها وتشبه بأعداء الله، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خالفوا اليهود؛ أعفوا اللحى".
وإسبال الثياب مع أنه من كبائر الذنوب أصبح أمرًا شائعًا ومنكرًا ذائعًا، ولا تكاد تجد من ينكره على من فعله مع أن فاروق هذه الأمة وهو يكابد غصصَ الموت وسكراته لما دخل عليه شابّ قد أسبل ثيابه ناداه وأنكر عليه.
أما الغناء وما أدراك ما الغناء!! فهذا المنكر الذي لا يكاد يسلم منه مكان ولا يخلو منه زمان، بل زاحم الناس حتى في أماكن العبادة وفي أشرف البقاع وأطهرها، فقد غزانا أعداء الإسلام بهذا السلاح الذي أفسد القلوب وأنبت فيها النفاق، فغرسوه في ألعاب الأطفال حتى يتربى عليه الطفل من الصغر، فقبل أن يلقن الأطفال القرآن والشهادتين يكون قد سمع من الغناء والموسيقى ما جعله يألف ذلك ويتربى عليه، وأصبحت تسمع هذا الصوت المنكر في كلّ مكان حيثما توجهت في الأماكن العامة والخاصة، في الأسواق والبيوت والسيارات والمتنزهات، بل حتى في المساجد والصلوات، فألفه الناس واعتادوه، فأصبح صاحب هذا المنكر يصول ويجول بين الناس وكأنه لم يفعل شيئًا، في حين أنه ينبغي أن ينكر عليه ويناصح ويعاتب، فالمنكرات تزول بإنكارها، وتبقى وتنتشر بالسكوت عليها.
بل وأصبحنا من ضعف الناس وتقاعسهم عن إنكار هذا المنكر نسمع من يأتي بمسائل مغلوطة وحجج واهية، ويقول: إن المستمع غير السامع، وتجده بهذه الحجة الواهية يبرر لنفسه سماع الغناء وعدم إنكاره على صاحبه، في حين أن ابن عمر -رضي الله عنه- لما سمع صوت ناي راعٍ وضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع: أتسمع؟! فأقول: نعم، فيمضي حتى قلت: لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع ناي راعٍ فصنع مثل هذا. رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني -رحمه الله-.
بل والأدهى من ذلك والأمرّ أن هذه الآلات القبيحة اقتحمت علينا أماكن العبادة في أطهر البقاع وأشرفها، في الأماكن التي لا تكاد تجد فيها منكرًا، فأصبحت الموسيقى تنبعث في المساجد وفي أثناء الصلوات بصفات شنيعة وأحوال مزرية، فهناك منها موسيقى راقصة، بل وهناك مقاطع لبعض الأغنيات الماجنة، متى ما سمعت أجزم يقينًا أنه لا يبقى في قلب مُصَلٍّ خشوع مهما بلغ من إقباله على صلاته.
فأي إساءة للأدب مع الله ومع عباده ما يصنعه هؤلاء المستهترون؟! أين غاب عنهم مراقبتهم لله والحياء منه؟! والله، إنه لمن المتناقضات التي أصبحنا نعيشها في هذا الزمان أن يكون رجل فيه من الخير والصلاح ما جعله يأتي للصلاة ويبكّر إليها ثم بعد ذلك يسمح لنفسه بهذا الفعل القبيح والعمل المشين. والأدهى من ذلك والأمرّ أن لا تتحرك غيرة المصلين على صلاتهم فيقوموا بالإنكار عليه وكأن الأمر يسير، هل هانت علينا صلاتنا وإقبالنا على ربنا إلى درجة أن لا نتأثر إذا سمعنا مثل هذه الأصوات؟! لو كان الواحد منهم يشاهد مباراة في التلفاز أو منهَمِكًا في حديث مع من يحبّ ثم جاءه إزعاج يسير من أحد أبنائه لبادر بزجره وتوبيخه، بل ربما طرده وضربه، فيكف بحالنا مع صلاتنا؟! يجب أن يكون الأمر أشدَّ وأعظم؛ ولذلك أصبحنا نسمع هذه الأصوات المنكرة في كل صلاة إلا ما رحم ربي.
ولتعلم -يا من قمت بهذا العمل- أنك جمعت بين إساءات كلها عظيمة:
أولها: أنك تسببت في إذهاب خشوع كل من في المسجد مهما بلغ عددهم، فكل واحد منهم له في عنقك ذنب عظيم، وليس ذنبًا في أمر هين ويسير، بل في أعظم شيء يؤدّيه الإنسان وهو صلاته، وفي أعزّ شيء فيها وهو خشوعها الذي هو لبها.
الثانية: أنك جلبت هذا المنكر المفسد للقلوب المغضب لله علام الغيوب إلى بيته، والمكان الذي يَتَقَرَّبُ فيه إليه عبادُه الصالحون، فأسأت بذلك الأدب، وهتكت حجاب الحياء الذي بينك وبينه، فهل استشعرت هذه الجناية؟! وهل قدرت الأمر قدره؟! والله، لو عظّمنا هذه الشعيرة حقَّ التعظيم، وأقبلنا عليها حق الإقبال، لجل علينا الخطب ولعظم عندنا الكرب، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فعلى أهل الغيرة أن يعقدوا الندوات وينظموا اللقاءات لبحث القضية وفرض الحلول العملية؛ حتى تتطهر المساجد من هذا المنكر، ويقبل الناس على عبادتهم بخشوع وإقبال وتعظيم وإجلال، فقد سئمنا هذا الداء العضال ومللنا رداءة الحال، فلا تكاد تخلو صلاة من نعيبه، ولا فريضة من تعذيبه، فأصبحت أيدينا على قلوبنا في كل صلاة ولسان حالنا يقول: اللهم سلم سلم.
فتخففوا -عباد الله- من ظلم أنفسكم بامتثال ما أمركم الله به، وترك ما نهاكم عنه، والتوبة مما فرط من الذنوب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله...
التعليقات