د. خالد النجار
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 21].
هذا كان في بني إسرائيل؛ كما في قوله تعالى: ﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾ [البقرة: 93].
إلا أنه تعالى قال لهذه الأمة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون ﴾ [الأنفال: 20 - 23].
إنه التحذير للمؤمنين من الإعراض والتولِّي، وهم يسمعون الآيات تُتلى، والعِظات تتوالَى في كتاب الله، وعلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاهم - عز وجل - أن يَسلكوا مسلك الكافرين المشركين في التصامُم عن سماع الآيات الحاملة للحق والداعية إليه، والتعامي عن رؤية آيات الله الدالة على توحيده، الذين قالوا: إنا عما يقوله محمد في صممٍ، وفيما يذكر ويشير إليه في عمًى، فهم يقولون: سمِعنا بآذاننا، وهم لا يسمعون بقلوبهم؛ لأنهم لا يتدبَّرون ولا يُفكرون؛ فلذا هم في سماعهم كمن لم يسمع؛ إذ العبرة بالسماع: الانتفاع به، لا مجرَّد سماع صوت، فلمَّا لَم يُجْدِ سماعُهم، ولا أثَّر فيهم، نفى عنهم السَّماع؛ لانتفاء ثمرته؛ إذ ثمرة سماع الوحي: تصديقُه والإيمان به.
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ﴾؛ يعني بهم المشركين، وكانوا شرَّ الدوابِّ؛ لأنهم كفروا بربِّهم وأشرَكوا به، فعبدوا غيره، وضلُّوا عن سبيله، ففسَقوا وظلموا وأجرَموا، الأمرُ الذي جعَلهم حقًّا شرَّ الدواب في الأرض، فهذا تنديد بالمشركين، وفي نفس الوقت هو تحذير للمؤمنين من معصية الله ورسوله، والإعراض عن كتابه وهدْي نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ﴾ [الأنفال: 23]؛ أي: لجعَلهم يسمعون آيات الله وما تَحمله من بِشارة ونِذارة، وهذا من باب الفرض؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون ﴾.
هؤلاء طائفة من المشركين توغَّلوا في الشر والفساد والظلم، والكِبر والعِناد، فحُرِموا لذلك هدايةَ الله تعالى، فقد هلَك بعضهم في بدرٍ وبعضهم في أُحد، ولم يُؤمنوا؛ لعلم الله تعالى أنه لا خيرَ فيهم، وكيف لا وهو خالقهم وخالق طباعهم؛ ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14][1]؟!
قال الرازي:
﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾، والمعنى: أن الإنسان لا يمكنه أن يَقبل التكليف وأن يَلتزمه إلا بعد أن يَسمعه، فجعل السماع كناية عن القَبول، ومنه قولهم: "سمِع الله لمن حمِده"، والمعنى: ولا تكونوا كالذين يقولون بألسِنتهم: إنَّا قبِلنا تكاليف الله تعالى، ثم إنهم بقلوبهم لا يَقبلونها، وهو صفة للمنافقين؛ كما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ [البقرة: 14][2].
قال بعضهم:
من سمِع ولم يُرَ عليه فوائدُ السماع وزوائده في أحواله، فهو غير مستمعٍ، ولا سامعٍ، والمستمع على الحقيقة: مَن يرجع من حال السماع بزيادة فائدة أو زيادة حالٍ، ومن حضَر مجلس ذكرٍ ولم يرجع بزيادة، فإنما يرجع بنُقصان.
وقال بعضهم:
حقيقة السماع ما تبدو عليك منه بركات ما تَسمعه من زيادة عملٍ، أو زجرٍ عن ارتكاب معصية، ومن أراد الله به الخير، أسمَعه من الحكمة ما ينفعه.
وقال يحيى بن معاذ:
إن هذا العلم الذي تسمعونه، إنما تسمعون ألفاظه من العلماء ومعانيه من الله بآذان قلوبكم، فاعمَلوا، تَعقِلوا ما تسمعون، فإن لم تعملوا، كان ضرُّه أقرب إليكم من نَفعه.
وقال الجُنيد - رحمه الله - في كتاب "رواء التفريط" في هذه الآية: قرَع أسماعَ همومهم حلاوةُ الدعوة، وتَنسموا رُوح ما أدَّته إليهم الأفهام الظاهرة من الأدناس، فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب الواقفين معها، وهجَموا بالنفوس على معانقة الحذر، وتجرَّعوا مرارة المكابدة، وصدَقوا الله في المعاملة، وأحسنوا الأدب فيما توجَّهوا إليه، وهانت عليهم المصائب، وعرَفوا قدر ما يطلبون؛ فاغتَنموا سلامة الأوقات، وسجَنوا هموهم عن التلفُّت إلى مذكورٍ سوى وَليِّهم، فيَحيون حياة الأبد بالحق الذي لم يزَل ولا يزال، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24][3].
الشريعة منهج حياة:
من أبرز خصائص الشريعة الإسلامية أنها ربَّانية المصدر؛ مما جعل مراسيمها تأْلَهها القلوب حبًّا وتعظيمًا وانقيادًا؛ ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14].
ففِقه المراقبة في حسِّ المسلم الصادق حيٌّ يَنبِض في خطراته وتصرُّفاته، عكس القوانين الوضعية التي تحتاج لمراقبة البشر للبشر.
ولا أنسى أبدًا منظر جاري صاحب مصنع الحلويات الكبير، وهو جالس في غرفة التحكم لا تُغادر عيناه شاشات كاميرات المراقبة؛ كيلا يسطو أيٌّ من عُمال مصنعه على محتوياته الثمينة أكلاً، أو سرقةً، أو نَهبًا، دون أن تراه أعين الرقيب، والشيء مثله في كاميرات السوبر ماركت والبنوك والمتاحف...، وغيرها.
ليس عيبًا أن يَحرُس المرء ماله، ويراقب أعماله وعُمَّاله، لكن أن نعيش بثقافة التلصُّص والخيانة، فهذا خَلل في الإيمان، وثُلمة في القلوب، مردُّها إلى فِقدان فقه المراقبة لمن يَعلم السرَّ وأخفى.
ولا أدلَّ على أهمية هذا الفقه التربوي من معدَّلات الجريمة المُخيفة التي تعشِّش في المجتمعات الغربية رغم تقدُّمها المادي، بل إن أمريكا نفسها التي تدَّعي سيادتها للعالم تتربَّع على رأس هرم الجريمة العالمي، رغم تقنيات التنصُّت والمراقبة فائقة الدِّقة.
يقول الشيخ القرضاوي: إن القوانين لا تَخلق باعثًا، ولا تكفي ضابطًا؛ فإن الإفلات منها ممكن، والاحتيال عليها ميسور؛ ولهذا كان لا بد من بواعث وضوابطَ أخلاقية، تعمل من داخل النفس الإنسانية لا من خارجها... لا بد من هذا الباعث الداخلي ومن هذا الوازع الذاتي، ولا بد من الضمير أو الوجدان أو القلب - سمِّه ما شئت - فهو القوة التي إذا صلَحت صلَح عمل الإنسان كله، وإذا فسَدت فسَد كله.
ولقد عرَف الناس بالمشاهدة والتجربة واستقراء التاريخ، أن العقيدة الدينية لا يُغني غناءها شيءٌ في تربية الضمير وتزكية الأخلاق، وتكوين البواعث التي تُحفِّز على الخير، والضوابط التي تَردَع عن الشر.
حتى قال بعض قضاة العصر في بريطانيا - وقد هاله ما رأى من جرائم مُوبقة رغم تقدُّم العلوم، واتِّساع الثقافة، ودِقة القوانين -: "بدون أخلاق لا يوجد قانون، وبدون إيمان لا توجد أخلاق".
ولا غَرْوَ أن اعترَف بعض الملاحدة أنفسهم بأن الحياة لا تستقيم بدون دينٍ، بدون عقيدة في الله وفي الجزاء في الآخرة؛ حتى قال فولتير: "لو لم يكن الله موجودًا، لوجَب علينا أن نَخلقه"؛ أي: نَخترع للناس إلهًا يَرجون رحمته ويخافون عذابه، ويَلتمسون رضاه، فيعملون الصالحات، ويتجنَّبون السيِّئات.
ويقول مرة أخرى ساخرًا: "لِمَ تشكِّكون في وجود الله، ولولاه لخانتني زوجتي، وسرَقني خادمي؟!".
وقال بلوتارخ: "إن مدينة بلا أرضٍ تحتها أسهلُ من قيام دولة بلا إله"[4].
إن القانون الوضعي يحتاج دومًا إلى قانون وضعي آخر يَحميه، أما قانون السماء، فله ربٌّ يحميه؛ ولذلك لا معنى للإيمان دون انقيادٍ لله ولرسوله؛ لأنه عين الحياة؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].
[1] أيسر التفاسير؛ لأبي بكر الجزائري، (2/ 36).
[2] تفسير الرازي، (7/ 384).
[3] تفسير السلمي، (1/ 263).
[4] الدين في عصر العلم؛ يوسف القرضاوي، ص (38 - 39).
التعليقات