عناصر الخطبة
1/أمة محمد عذابها في الدنيا لا في الآخرة 2/المصائب قدر محتوم 3/حال المؤمن مع الكوارث والمصائب 4/قلب حكمة الكوارث الإيمانية إلى الطبيعة 5/أسباب الكوارث والحكمة منها 6/الناس فقراء إلى الله ومحتاجون إليهاقتباس
إن البشر الذين يعيشون على ظهر هذه الدابة الذلول ويحلبونها فينالون من رزق الله فيها نصيبهم المعلوم، يعرفون كيف تتحول إلى دابة غير ذلول ولا حلوب...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الكريم بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله يا أمة خير الأنام واشكروا نعمة ربكم.
“لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل”.
أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل.
هكذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كان الحال على مرور الأيام والأزمان فما بين فترة وأخرى تزلزل أمة مؤمنة وأخرى كافرة، وترتج الأرض رجاً، وترى الأرض قد أخذت زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، فيأتي أمر الله ليلاً أو نهاراً فتكون خراباً يباباً كأن لم تغن بالأمس، وما ربك بظلام للعبيد، وكذلك يصرف الآيات لقوم يتفكرون.
قال ابن الجوزي في حوادث سنة مائتين وثلاث وثلاثين: “رجفت دمشق رجفة شديدة من ارتفاع الضحى، فانتفضت منها البيوت وزالت الحجارة العظيمة، وسقطت عدة طاقات من الأسواق على من فيها، فقتلت خلقاً كثيراً، واشتدت الزلازل على انطاكية والموصل، ووقع أكثر من ألفي دار على أهلها فقتلتهم ومات من أهلها عشرون ألفاً”.
وقال: “في سنة مائتين وثمانين زلزلت ديبل في الليل فأصبحوا فلم يبق من المدينة إلا اليسير فأخرج من تحت الهدم خمسون ومائة ألف ميت”.
وقال السيوطي: “في ذي الحجة من عام سبعمائة واثنين كانت الزلزلة العظيمة بمصر وكان تأثيرها بالإسكندرية أعظم من غيرها وطلع البحر إلى نصف البلد وأخذ الحُمال والرجال وغرقت المراكب وسقطت بمصر دور لا تحصى وهلك تحت الردم خلق كثير”.
هذه المشاهد المدمرة والصور المرعبة تتكرر كل حين وآن، وهذه الأيام تشهد بلاد من العالم الإسلامي وغيره صورة من هذه الآية الكونية والقدرة الإلهية.
إن كل كارثة تقع على الأرض، وكل مصيبة تنزل من السماء على أهل الأرض هي قدر محتوم من أقدار الله -عز وجل- المكتوبة على الخلق قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وإن الحديث عن الزلازل لا بد أن يقودنا إلى الحديث عن إحساس المسلم تجاه هذه الظواهر الكونية التي يخوف الله بها عباده، أو عقوبات لما تعج به الأرض من المحادة الله ولرسوله ومن الموبقات المهلكات.
لقد تبلد شعور كثير من الناس تجاه هذه الظواهر فلا يرتدعون ولا يتراجعون حتى يروا العذاب الأليم.
الأصل في المؤمن أن يكون مرهف الإحساس لمثل هذه الأمور المخيفة؛ فقد جاء في الحديث: "كانت الريح الشديدة إذا هبت عرف ذلك في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-" وكان يخشى أن تكون مقدمات يوم الفزع الأكبر.
إن كل ما يصيب الإنسان على الأرض من بلايا ومصائب من وخزة الشوكة واختلاج العرق إلى الزلازل المدمرة والبراكين الغاضبة هو بسبب ما نجترحه من سيئات، إذ تأتي كسنة من سنن الله في خلقه إلى يوم القيامة، وهي عقاب فوري على ما نعامل به ربنا الذي أمدّنا وأوجدنا وأعدّ لنا هذه الأرض بكل ما فيها من خيرات ونعم، وبسبب ما زرعته أيدينا من آثام وما جنته من شرور.
إن هذه الكوارث المتنوعة جنود الله المبثوثة التي يعاقب بها من يشاء من عباده (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[المدثر: 31] وهي عذاب الله الأصغر؛ فلماذا؟ ظلماً للعباد؟ لهواً ولعباً، حاشاك ربي حاشاك بل (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون)[الرُّومِ: 41].
مؤلم أن تجد في المسلمين من يقلب للحقائق الإيمانية ظهر المجن عداوة ويصدق أقوال أبواق الغرب وأجراس البقر وأخبار القنوات الدركية بقولهم عند كل كارثة: (إنها ظاهرة طبيعية).
ويسخرون سخر الله منهم من أهل الدين حين يبصرونهم بالحقيقة الغائبة عن بصائرهم وهي أن ذنوب العباد سبب خراب الأموال والبلاد (ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ) فلماذا؟ (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) فلماذا (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) فلماذا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الرُّومِ:41].
إن الله -عز وجل- بهذه الآية الكونية العظيمة أراد أن يلقننا درساً بأن الحياة قائمة على الابتلاء (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الأنبياء: 35].
هذه الآية الكونية تنبهنا إلى عظم القدرة الإلهية ونفوذ المشيئة الربانية فإن الله سبحانه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
هذه الآية الكونية تنبه الإنسان على أن يعرف حجمه ومقداره، فمن أنت أيها الإنسان، وما غرك بربك الكريم أيها الثاني لعطفك والمصعر لخدك ويا أيها المتمطي برأسك.
هذه الآية الكونية تذكرنا بحقارة هذه الدنيا التي يتشبث الناس بها ويحرصون عليها ويلهثون وراءها، هذه الدنيا لا تساوي شيئا، بينما الإنسان آمن في بيته غارق في نومه إذ تزلزلت الأرض من حوله وفي بضع ثوان إذ البنيان الشاهق ينهار، وإذا العمار دمار، وإذ الناس هلكى وغرقى فسبحان الواحد القهار.
هذه الآية الكونية تنبه على شيء عظيم وتذكر بموعد لا ريب فيه إنها تذكرة بزلزلة الساعة (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ)[الحج:1-2].
زلزلة الدنيا ثواني، وتحدث ما قد علمتم وسمعتم، فما بالكم بزلزلة الساعة (إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ)[الواقعة:1-2].
هذه زلزلة يوم القيامة حيث (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)[عبس: 34-37].
هذه الآية الكونية العظيمة تنبيه للعصاة ليتوبوا وللضالين ليهتدوا وللمنحرفين ليستقيموا، تنبيه للناس ليرجعوا إلى الله ليقرعوا بابه ويقولوا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
فيا أيها الناس إن رحمة الله وحلمه وعفوه هي التي حالت بيننا وبين عقوباته (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30].
فتخيل -أخي- لو أن الله -عز وجل- عاملنا بذنوبنا ومعاصينا ماذا سيكون، وإني لأكفيك ونفسي مؤونة التخيلات وأذكرك بقول الله جل جلاله: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا)[فَاطِرٍ: 45].
أفيقوا -أيها الناس-، وأيقنوا أن ما سمعتم به عن هذه الكوارث المدمرة إنما هي نذير لكم وبشير.
نذير للعصاة والمجرمين، وبشير للصالحين بجند من جند الله يسلطه على الكفرة والمعاندين؛ فيا ربنا احفظنا بحفظك التام واحرسنا بعينك التي لا تنام وأدم علينا نعمة الإيمان والإسلام وثبتنا عليه حتى نلقاك.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد: حينما يشمخ الإنسان بحوله وطوله ويأنس بما أعد، ويذهل عن الله الذي إليه تصير الأمور فإن النتائج تفاجئه بما لا يتوقع. ويوم حنين ناطق بهذه الحقيقة.
ومن هنا تتأكد الحقيقة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ)[فاطر:15].
إن الناس بحاجة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله، وأن الله غني عنهم كل الغنى، وأنهم حين يُدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم وهو المحمود بذاته، وأنهم لا يُعجزون الله ولا يعزون عليه؛ فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد. الناس بحاجة إلى تذكيرهم بضعفهم أمام قوة الله، وبفقرهم إلى فضل الله.
إن البشر الذين يعيشون على ظهر هذه الدابة الذلول ويحلبونها فينالون من رزق الله فيها نصيبهم المعلوم، يعرفون كيف تتحول إلى دابة غير ذلول ولا حلوب أحيانا عندما يأذن الله بأن تضطرب قليلا فيرتج كل شيء فوق ظهرها أو يتحطم ويمور كل ما عليها ويضطرب فلا تمسكه قوة ولا حيلة، ذلك عند الزلازل والبراكين (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)[الملك: 16].
إن الأمان الذي ينكره الله على الناس هو الأمان الذي يوحي بالغفلة عن الله وقدرته وقهره وليس هو الاطمئنان إلى الله ورعايته ورحمته.
المؤمن يطمئن إلى ربه ويرجو رحمته وفضله، ولكن هذا لا يقوده إلى الغفلة والنسيان والانغمار في غمرة الأرض ومتاعها إنما يدعوه إلى التطلع الدائم والحياء من الله والحذر من غضبه مع الإخبات والاطمئنان.
نعم إن الأرض تزلزل حينما تضعف قشرتها، ولكن لا يضعف قشرتها إلا دراهم ربا وأصوات غناء، ومشاهد الفجور والخنا وحالات اللواط والزنا ولا يضعفها إلا الظلم والجور والغش والخداع فاعتبروا يا أولى الأبصار. قال كعب: “إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فرقاً من الرب جل جلاله أن يطلع عليها”.
وبعد هذا: ما غرك -أيها الإنسان- بربك الكريم. يا من تستهين بجلال الله ما الذي جرأك وأنت الفقير الضعيف على معصية الغني القوي، ويا أيها الظالم ويا أيها المتكبر، كيف أنت أمام قوة الواحد القهار لقد رأيت أو سمعت آية من آيات ربك تعلن لكل الناس (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)[البروج: 12].
دول ليست منا ببعيد نام أهلها وهم آمنون، وشملهم مجتمع؛ الأب مع أبنائه، والأم تحتضن أولادها، والزوجة مع زوجها ناموا وهم آمنون ناعمون فجاءهم بأس الله بياتاً وهم نائمون. فأحالهم جثثاً هامدة وصير بلدتهم خامدة. أصبحوا من بعد الجمع شتاتاً، وصارت البلاد خراباً يباباً، آلاف من القتلى وأمثالهم من الجرحى، في ثوان معدودة، وبقول: كن رجت الأرض رجاً فيا سبحان الله، ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره
كم بات في تلك الليلة ممن لا كافي له ولا مؤوي وقد كانوا في ستر وصحة وكفاية فلا تغفلوا عن شكر الله ورددوا “الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي”.
أن رؤية المباني الكبار وهي تتهاوى في لحظات ينبغي أن يذكرنا بقدرة الله وقدرته وغضبه وشديد بأسه.
إنها عبرة لمن يعتبر وفرصة لمن يبارز الله بالمعاصي بأن ينيبوا إلى ربهم ويسلموا له من قبل أن يأتي العذاب ثم لا ينصرون.
آية من آيات الله هي رسالة للمذنبين تقول: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا)[الإسراء:68].
وهي رسالة للطغاة المتجبرين بأنهم لن يعجزوا الله شيئاً وما لهم من دون الله من ولي ولا نصير.
إنها رسالة لنا جميعاً نقول: (يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ)[غافر: 29].
فهل يا ترى تحرك فينا هذه الآية والموعظة مكامن الخوف من الله والافتقار إليه واللجوء إلى كنفه الرحيم.
وهل ترانا ممن إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً أم ممن قال الله فيهم: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا)[الإسراء: 60] (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام: 43].
إن موقف المسلم الحق مع المصائب والجوائح ليس بالشماتة والتنظير، وتقريع المفجوع ولومه وإنما بمواساته وهونه، وبدلا من الانشغال بالتنظير وربط الحدث بأسبابه فلترتفع الأصوات بالتضرع والدعاء، ولتمتد الأيدي بالبذل والعطاء، ولنستجب لدعوة قيادتنا بالمساهمة عبر (إسهام) في نصرة أهل الإسلام وغوثهم وجبر كسرهم، واستدفعوا البلاء بالصدقة فهي تطفئ غضب الرب، وإنما المؤمنون إخوة وبعضهم أولياء بعض، وسلوا الله العفو والعافية، وكونوا على وجل من أن يصيبكم ما أصابهم وما هي من الظالمين ببعيد.
وإذا كان قد تضرر مسلمون وصالحون فتلك حكمة الله؛ ليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منهم شهداء، وليستخرج منهم عبودية الصبر على البلاء والرضا بالقدر والقضاء وعبودية التضرع والدعاء.
إنها رسالة تقول لنا جميعا (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الحشر: 2].
اللهم ارفع الضر عن المضطرين، واكشف كرب المحزونين، وارحم ضعف المستضعفين.
التعليقات