اقتباس
كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات، وإن صادفت كبيرة أو...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فإن يوم عرفة الموافق للتاسع من شهر ذي الحجة يعد من أشرف أيام السنة خصه الله بالفضل والتشريف وعظم الثواب فيه من بين سائر الأيام قال تعالى: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)[البروج:3]. قال قتادة: "يومان عظيمان من أيام الدنيا كنا نحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة".
ويتأكد استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج لما ثبت في السنة من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: سُئِلَ عن صَوْمِ يَومِ عَرَفَةَ، فَقالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضِيَةَ والْباقِيَةَ"(رواه مسلم).
أما المشتغل بالوقوف في عرفة من أهل المناسك فلا يشرع له صومه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك صوم يوم عرفة وهو حاج لانشغاله بنسك الحج حتى لا يضعف عن الدعاء والذكر والعبادة ويتفرغ قلبه لذلك في هذا المشهد العظيم وقد ورد في الصحيحين عن ميمونة رضي الله عنها: أنَّ النَّاسَ شَكُّوا في صِيَامِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- يَومَ عَرَفَةَ، فأرْسَلَتْ إلَيْهِ بحِلَابٍ وهو واقِفٌ في المَوْقِفِ، فَشَرِبَ منه والنَّاسُ يَنْظُرُونَ. وروي النهي عن ذلك ولا يصح فمن صامه وهو متلبس بالحج فقد خالف السنة ودخل في التكلف وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَصُمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ (رواه الترمذي). وهذا مذهب الجمهور.
وصوم يوم عرفة يكفر السيئات ويكثر الحسنات للعام السابق والعام اللاحق والصحيح أن هذا التكفير خاص بالصغائر دون الكبائر لأن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة والتخلص منها لقوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)[النساء:31]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتْ الكَبَائِرَ"(رواه مسلم). وهذا شرف عظيم لا ينبغي للمؤمن أن يزهد به ولا يكاد يسلم أحد من مقارفة الذنوب لكن لا يتكل على هذا العمل ويسرف في اجتراح الكبائر وليشدد على نفسه فيها فإنه لا نجاة منها إلا بالتوبة.
ولا حرج على المسلم أن يتطوع بصوم عرفة وغيره من النوافل قبل قضاء رمضان جريا على الأصل في العبادات ولأنه لم يرد نهي صحيح عن ذلك ولأن الشارع وسع في قضاء رمضان إلى آخر السنة لفعل عائشة رضي الله عنها وإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- لها ولأن المنع يوقع المسلمين في ضيق ويفوت عليهم خيرا عظيما لا سيما النساء فلا وجه للمنع من ذلك ولا حجة مع من منع التطوع بعرفة قبل القضاء ولا يصح استدلاله بما رواه أحمد بحديث أبي هريرة: "مَنْ أَدرَكَ رمضانَ وعليه مِن رمضانَ شيءٌ لم يَقضِه؛ لم يُتَقَبَّلْ منه، ومَن صام تَطوُّعًا وعليه مِن رمضانَ شيءٌ لم يَقْضِه؛ فإنَّه لا يُتقَبَّلُ منه حتى يَصومَه". لأنه حديث ضعيف لا يصح العمل به لأنه من رواية ابن لهيعة قال الترمذي: (ابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث). وأعله ابن أبي حاتم بالاضطراب. وهذا مذهب الجمهور. والأفضل أن يبدأ بالقضاء ثم يتطوع بعرفة لأنه أبرأ لذمته والاشتغال بالواجب أولى من النفل.
ولا يجزئ صوم يوم عرفة بنية القضاء ونية التطوع بعرفة لأن يوم عرفة تطوع خاص وعبادة مستقلة لها فضل خاص تفتقر إلى نية خاصة بها والمشغول لا يشغل ولأن كلا العبادتين مقصود من الشارع فعلها بذاتها فلا يصح الجمع بين النيتين ولا يتداخلان في عبادة واحدة لتغايرهما وإنما لكل عبادة نية مستقلة.
ولا يشترط فيما يظهر لي في تحصيل فضل صوم عرفة النية من الليل وإدراك الصوم من أول النهار لأنه صوم تطوع والتطوع لا يشترط فيه تبييت النية من الليل ولا دليل على اشتراطه والشارع وسع في النوافل وخفف في أحكامه ليرغب العباد به ولأن من أمسك في النهار ولم يفطر قبل ذلك يصدق عليه صوم يوم عرفة ولأن الصوم لا يتبعض وفضل الله واسع فمن استيقظ في نهار عرفة ولم يأكل ثم عزم على صوم عرفه رجي له تحصيل الفضيلة بإذن الله وهذا مذهب الشافعية.
ولا حرج على المسلم أن يصوم يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة لأنه يصومه لتحصيل فضل عرفة وهذا مقصد مشروع ولا يصومه لأجل تخصيص الجمعة والنهي عن صوم يوم الجمعة لكراهة قصد تخصيصه بصوم تعظيما له ولذلك شرع صوم يوم قبله أو بعده ويتعذر هنا صوم يوم بعد عرفة لأنه يوافق العيد وقد انعقد الإجماع على تحريم صوم العيد فلا حرج في إفراد صوم عرفة إذا صادف يوم الجمعة من غير صوم يوم قبله لأنه لم يقصد الجمعة.
وينبغي للمسافر أن لا يفرط في صوم يوم عرفة ولا يزهد في فضله إذا كان صومه لا يشق عليه لأنه فضل عظيم يفوت محله ولا يتكرر في السنة وكثير من أهل السياحة لا يصومون عرفة مع تيسر الأمر عليهم وهذا من الغبن.
وإذا كان صوم يوم عرفة يوقع المؤمن في حرج في معيشته أو يفوت عليه القيام بواجب لوالديه أو حق متأكد أو يسبب له الهلاك وشدة المرض فمن الفقه له ترك صومه تحصيلا للمصالح ودرء للمفاسد طاعة لله.
ومن داوم على ترك صوم عرفة وزهد في فضله واستهان بشرفه مع استطاعته وفراغه وتيسر أموره فهذا دليل على غفلته وتضييعه لمواسم الله مع حاجته لتكفير سيئاته ورفعة درجاته.
ويعظم ثواب الأعمال والطاعات في يوم عرفة من صلاة وذكر وتكبير وتهليل وتلاوة وصلة وصدقة ودعاء لأنه زمن فاضل يباهي الله عباده في مشهد عرفة ويعتقهم من النار كما ورد في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُباهِي بهِمُ المَلائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرادَ هَؤُلاءِ؟".
ولا يشرع التعريف والوقوف نهار عرفة في سائر البلاد والاجتماع في المساجد للعبادة والذكر وإنما يشرع فقط في عرفة لأهل المناسك أما غير الحجاج فلا يشرع لهم ذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم ولأن هذه العبادة خاصة بموقف عرفة والخير والبركة في اتباع السنة وسنة الخلفاء الراشدين ومن فعله من السلف فاجتهاد منه ولم يوفق للصواب لأنه لا دليل على فعله والعبادات لا تشرع بالاستحسان والقياس قال شعبة: "سألت الحكم وحماد عن الاجتماع عشية عرفة فقالا: محدث".
وسئل إبراهيم النخعي عن التعريف فقال: "إنما التعريف بمكة". وسئل مالك عن الجلوس بعد العصر في المساجد بالبلدان يوم عرفة للدعاء فكره ذلك وقرر ابن تيمية بدعية هذا العمل وينبغي على المؤمن أن يغلق أبواب البدع ووسائلها على نفسه ويسلك الطريق الواضحة ليصون دينه وتسلم له السنة ويلقى ربه ثابت على هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير مبدل.
التعليقات