عناصر الخطبة
1/توالي مواسم الخيرات 2/من فضائل شهر محرم 3/أحكام تتعلق بشهر محرم 4/التحذير من بدع تنتشر في هذا الشهر 5/مراتب صوم يوم عاشوراءاقتباس
هذا الشهرُ هو أحدُ الأشهرِ الْحُرُمِ، وصيامُه أفضَلُ الصيامِ بعدَ رمَضَانَ، وأفضلُ الصيامِ فيه صومُ العاشرِ منه، قال النوويُّ: "قولُهُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "أفْضَلُ الصِّيامِ بعدَ رمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ"، تَصْرِيحٌ بأنهُ أَفْضَلُ الشُّهُورِ للصَّوْمِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شُرورِ أنفسِنَا ومِنْ سَيّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لَهُ، ومنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المؤمنونَ-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون)[آل عمران:102].
أيُّها المؤمنونَ: مِنْ نِعمِ اللهِ -تعالى- على عبادِه أن يواليَ عليهم مواسمَ الخيراتِ؛ (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 30]، فما إنْ انْقضَى موسمُ الحجِّ المباركِ إلا وتَبِعَه شهرٌ كريمٌ, هو شهرُ اللهِ المحرَّمُ؛ فهو أولُ شهورِ السنّةِ الهجريةِ، وأحدُ الأشهرِ الحُرُمِ التي ذَكَرهَا اللهُ في كتابِه: (إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة:36].
وبيَّن النبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تحريمَ اللهِ -تعالى- لهذِه الأشهُرِ الحُرُمِ، ومِنْ بينِها شهرُ اللهِ المُحَرَّمُ, فيما رواه أَبو بَكْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أنَّه قَالَ: "إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا, مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ"(رواه البخاري ومسلم).
وقد شَرَّف اللهُ -تعالى- هذا الشَّهرَ من بينِ سائرِ الشُّهورِ، فسُمِّي بشهرِ اللهِ المُحَرَّمِ، إضافةً إلى نفسِه تشريفًا له، وإشارةً إلى أنَّه حرَّمه بنفسِه، وليس لأحدٍ من الخلقِ تحليلُه.
عبادَ اللهِ: ولهذا الشهرِ المباركِ بعضُ الأحكامِ المتعلقةِ به، ومن ذلك:
أولاً: هذا الشهرُ هو أحدُ الأشهرِ الْحُرُمِ، وصيامُه أفضَلُ الصيامِ بعدَ رمَضَانَ، وأفضلُ الصيامِ فيه صومُ العاشرِ منه، قال النوويُّ: "قولُهُ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "أفْضَلُ الصِّيامِ بعدَ رمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ"، تَصْرِيحٌ بأنهُ أَفْضَلُ الشُّهُورِ للصَّوْمِ" ا.هـ.
ثانياً: أنَّ صيامُه مُتأكِّدُ الاستحبابِ؛ لما وردَ عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالتْ: "كانَ يوْمُ عاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَصُومُهُ فلَمَّا قَدِمَ المدينةَ صَامَهُ وأَمَرَ بصيَامِهِ، فلَمَّا فُرِضَ رمَضَانُ تَرَكَ يومَ عاشُوراءَ، فَمَنْ شاءَ صَامَهُ، ومَنْ شاءَ تَرَكَهُ"(رواه البخاري ومسلم).
ثانياً: أنَّه يُكفِّرُ صغائرَ ذنوبِ السَّنَةِ التي قبلَهُ؛ لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "صيامُ يومِ عاشُورَاءَ أحتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنةَ التي قبلَهُ"(رواه مسلم).
رابعاً: كانَ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يحرصُ على صومِه، قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَتَحَرَّى صِيامَ يومٍ فضَّلَهُ على غيرِهِ إلاَّ هذا اليومَ، يومَ عاشوراءَ، وهذا الشهرَ، يَعني شهرَ رمضانَ"(رواه البخاري).
خامساً: أنَّ السَّلَفَ كانوا يَحرصونَ على صيامِه، ويصوُّمونَ صبيانَهم يومَ عاشوراءِ.
سادساً: استحبابُ صومِ يومي التاسِعِ والْعَاشِرِ؛ لقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "لَئِنْ بَقِيتُ إلى قابلٍ لأَصُومَنَّ التاسِعَ"(رواه مسلم).
سابعاً: ليسَ في عاشُوراءِ شيءٌ مشرُوعٌ إلاَّ الصِّيامُ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ -رحمهُ اللهُ-: "الأحاديثُ المرويةُ في صلواتِ الأيامِ والليالي، وصلاةِ يومِ عاشوراءَ، ونحوِ ذلكَ، فإنَّ ذلكَ كُلَّهُ كذبٌ موضوعٌ باتفاقِ أهل العِلْمِ، وليسَ في عاشُوراءَ شيءٌ مشروعٌ إلاَّ الصيامُ، وما يُروى في الاكتحالِ والخِضابِ والاغتسالِ والصلاةِ الْمُختصَّةِ بهِ والتوسعةِ على العِيالِ، فأحاديثُ موضوعةٌ على النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عندَ عُلَماءِ أهلِ الحديثِ، وإنْ كانتْ راجتْ على بعضِ الناسِ" ا. هـ.
عبادَ اللهِ: ومَعَ هذهِ الفضائلِ لشهرِ اللهِ الْمُحرَّمِ إلا أنَّ هناكَ بعضَ البدعِ ينبغي التنبُّه لها، ومن ذلك:
أولا: لم يردْ في أولِ يومٍ وأولِ جُمُعَةٍ منهُ نصٌّ شرعيٌ, يُثبتُ تخصيصَهمَا بالذكرِ والدُّعاءِ والعُمْرةِ والصيامِ.
ثانيا: لا يجوزُ اتخاذُ يومِ عاشوراءَ عيدًا؛ لما وَردَ عن أبي مُوسى -رضي الله عنه- قالَ: :"كانَ أهلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يومَ عاشُوراءَ؛ يَتَّخِذُونَهُ عيداً، ويُلْبِسُونَ نساءَهُم فيهِ حُلِيَّهُمْ وشَارَتَهُمْ -أي: اللباسَ الجميلَ-, فقالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "فصُومُوهُ أنتُم"(رواه مسلم).
والأصلُ في منعِ هذِه المحدثاتِ قولُ اللهِ -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3]، وقولُ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "مَن عَمِلَ عَمَلاً ليسَ عليهِ أمْرُنا فهُوَ رَدٌّ"، وقوله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "مَن أحدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فيهِ فَهُوَ رَدٌّ"(رواه البخاري ومسلم).
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ, ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المؤمنون-، واعلموا أنَّ لصومِ يومِ عاشوراءَ صورًا أربعَ، وهي كالتالي:
الأولى: مَنْ أرادَ أن يصومَ ثلاثةَ, أيامٍ وهي أيامُ التاسعِ والعاشرِ والحادي عشرَ من هذا الشهرِ، وهي أكملُها, فليصمْ الأربعاءَ والخميسَ والجمعةَ، حيثُ ثبتَ دخولُ شهرُ اللهِ المحرم هذا العام 1443هـ يوم الثلاثاء.
الثانية: ومَنْ أرادَ صيامَ يومينِ، فليصمْ التاسعَ والعاشرَ مخالفةً لأهلِ الكتاب، وهما يومَا الأربعاءِ والخميسِ.
الثالثةَ: مَنْ أرادَ أن يصومَ العاشرَ والحاديَ عشرَ, فليصمْ الخميسَ والجمعةَ.
الرابعةَ: مَنْ أرادَ صيامَ يومِ عاشوراءَ فقط, فليصمْ يومَ الخميسِ.
أيُّهَا المؤمنونَ: إنَّ اغتنامَ الأزمنةِ الفاضلةِ بالازديادِ فيهَا من الطاعاتِ دليلٌ على كياسةِ المؤمنِ، وحرصِه على الثَّوابِ والأجرِ من ربِّه، ولعلِمه بأنَّ خيرَ غراسٍ وخيرَ كنْزٍ يَدَّخرُه لنفسِه يومَ لقاءِ اللهِ -تعالى- هو العملُ الصالحُ، وصدَقَ اللهُ العظيمُ: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف:46]، فوصيتي لنفسي ولكمْ باستغلالِ ما وَهَبنَا اللهُ -تعالى- مِنْ عظيمِ فضلِه, بالتزوِّدِ من الأعمالِ الصالحة؛ فهي خيرُ زادٍ ليومِ المعادِ.
هذا, وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى, والقدوةِ المجتبى؛ فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ, فقالَ -جلَّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
التعليقات