عناصر الخطبة
1/أهمية تزكية النفس وتهذيبها 2/أركان تزكية النفس 3/خطوات نحو تزكية النفس 4/من أسباب الفوز والفلاح 5/أهم وسائل تزكية النفوساقتباس
ومن أنفع وسائل تزكية النفس وتهذيبها: تدبر القرآن، وجمع الفكر على معانيه وأحكامه وآدابه وعلومه، فآيات الله القرآنية تُطْلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وتبين له طرقهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتضع في...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: النفس الإنسانية لها أحوال عجيبة؛ فتارة تكون مقبلة على الطاعة نشيطة في عمل الخير والبر، وأحيانًا أخرى تكلّ وتملّ، ولذا أقسم الله في سورة الشمس عدة أقسام كثيرة على أن أفضل الناس من يعمل على تزكية نفسه وتخليصها مما يبعدها عن ربها، فقال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس:9-10]، وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)[الأعلى:14-15]، فعلق -سبحانه- الفلاح على من زكّى نفسه وطهّر قلبه من كل خلق سافل، وذكر اسم ربه فصلى وتحلى بالفضائل، وجعل الخيبة والخسارة على من دسَّى نفسه فغمسها بالرذائل.
وما جعل -سبحانه- الفلاح لمن زكى نفسه إلا لأنه عظيم، وبحصوله للعبد يتم كل خير عميم؛ فرحم الله عبدًا اعتز بصلاح قلبه فنقَّاه من مرآة الخلق، وزكاّه بالصدق والإخلاص للحق. نقَّاه من العجب والتعاظم والتكبر على الناس، وحلاه بحلية التواضع التي هي خير لباس. نقَّاه من الغش والغل والحقد، وجمَّله بإرادة الخير والنصح لكل أحد. نقَّاه من الميل إلى المعاصي؛ وهو مرض الشهوات، ومن الشكوك والريب وهو مرض الشبهات، وجمَّله بالعقل الراجح لفعل الخيرات، والإقلاع المصمم الصادق عن المحرمات، وسعى في العلوم النافعة الجالبة لليقين، وفي تحصيل الأدلة الصحيحة والبراهين.
وإذا لزم العبد هذه الطريق شفاه الله من الأهواء والأدواء، وبذلك يحصل فلاحه ويستقيم على الهدى، ولا يحصل له ذلك إلا بتوفيق وإعانة من المولى، قال -تعالى-: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور:21]، وكان -صلى الله عليه وسلم- يتضرع إلى ربه في طلب التقوى وتزكية النفس، من كل رديء فيقول: "اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها"(أخرجه مسلم 2722).
وتزكية النفس -أيها المسلمون- لها ركنان أساسيان لا تكون إلا بهما:
الأول: تخليتها وتخليصها عما لا يعنيها. والثاني: تحليتها وشغلها بما يعنيها وبما فيه نجاتها.
أيها المسلمون: إن المرء ينبغي له أن يهتم بما فيه نجاته وخلاصه، وأن يَقْصر اشتغاله على ما فيه سعادته وفلاحه، وذلك منحصرٌ فيما يجلب له مصالح دنياه وآخرته، وفيما يدفع عنه مفاسدهما؛ فحقيق بك -أيها العبد- الجد في تزكية نفسك لتنال الفلاح، وتستعين الله على إصلاح قلبك فإنه الجواد الفتاح؛ فإن الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر برحمته إلى القلوب الطاهرة وصادق الأعمال.
عباد الله: إن من أراد تزكية نفسه وتكميلها فإن عليه أن يخطو في تربية نفسه خطوتين:
الخطوة الأولى: أن يُلزم نفسه -وإن كانت كارهة- بالقيام بالفرائض والواجبات الشرعية، ويلزمها -فوراً- بترك كل ما نهى الله ورسوله عنه، ويأخذها في الفعل والترك بالقوة والحزم، ثم على التحلي بمكارم الأخلاق، وجميل الآداب.
وهذا هو المنهج النبوي في إصلاح النفس وتزكيتها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ". (أخرجه البخاري:6137).
والخطوة الثانية: أن يبحث عن عبد صالح عالم بالكتاب والسنة وسيرة سلف الأمة، بصير بعيوب النفس خبير بأحوالها، ويطلب منه التعاون معه على البر والتقوى، وبذل النصيحة، وإعانته على تربية نفسه، وحملها على طاعة الله، ويتعهد له بالطاعة الكاملة فيما يأمره وينهاه مما ورد في شرع الله ويصبر على ذلك.
وجدير بالأمة في سبيل تزكية نفوس أبنائها وتزكيتهم أن تلزم خطوات مهمة:
منها: اختيار أهل الإيمان والتقوى من العلماء والدعاة والخطباء والوعاظ؛ ليتم تعليم وتوجيه الأمة وتربيتها بواسطتهم.
ومنها: أن يتم توجيه وتعليم وتربية الأمة من مصدرين كاملين لا ثالث لهما، وهما كتاب الله وسنة رسوله، ويُطرح ما سواهما من كتب البدع والأباطيل، لتنشأ الأمة على معرفة الحق والعمل به وترك ما سواه.
ومنها: أن يحرص المسلمون على التخلص من الهوى والشبهات والشهوات، فإذا صُفِّيَ المسلم ونُظِّف من الأهواء والشبهات سهل عليه معرفة ربه ومعبوده وخالقه ورازقه، وعندها يستقبل الأحكام والأوامر الشرعية عن حب ومعرفة وإيمان، وتلذذ بأدائها، وسُرَّ بفعلها.
عباد الله: ولا شك أن تزكية النفوس سببٌ للفوز برحمة الله -تعالى-، وإن الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة بيد الله وحده لا شريك له، والله عنده خزائن كل شيء، ويفعل ما يشاء بقدرته، ولا يحتاج إلى أحد، وهو -سبحانه- الذي جعل الفوز والفلاح لكل إنسان بامتثال أوامر الله على طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فكل من أطاع الله ورسوله وفعل الأوامر واجتنب المحرمات، واستقام على ذلك حتى يلقى ربه فقد فاز بالجنة ونجا من النار؛ كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[النساء:13]. وفي المقابل فإن كل من كفر بالله وعصى الله ورسوله أدخله الله النار كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء:14]، فالله -سبحانه- رتَّب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله، ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله.
وما هلاك الأمم إلا بسبب انتشار المعاصي والسيئات والمنكرات، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَوْعِدًا)[الكهف:59]، أي: أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم، ولذلك قال الله -عز وجل-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[الإسراء:16]، فإذا تآمر المترفون من أهل الفساد فأشاعوا المنكرات والسيئات بين المسلمين، وسكت الناس عن تغييرها ولم يقوموا بواجبهم في تغيير المنكرات والأمر بالمعروف عمَّهم الله -سبحانه وتعالى- بعقاب من عنده، ثم يدعون فلا يُستجاب لهم. نسأل الله السلامة والعافية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها الإخوة: من أهم ما يطمح إليه العبد المؤمن أن تزكو نفسه تصفو، وتميل إلى عمل الخير والبر، وتكفّ عن الوساوس السيئة، ومن أنفع وسائل تزكية النفس وتهذيبها: تدبر القرآن، وجمع الفكر على معانيه وأحكامه وآدابه وعلومه؛ فآيات الله القرآنية تُطْلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وتبين له طرقهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة في الدنيا والآخرة، وتزكي عقله بالعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا الفانية والآخرة الباقية، وتريه صورة الجنة والنار، وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم، وتعرفه بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعدله وإحسانه، وتبين له ما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه من الأقوال والأعمال.
وتدبر القرآن يُعرِّف العبد بالطريق الموصل إلى ربه، وما له بعد القدوم عليه من الكرامة. ويعرفه كذلك بالشيطان وما يدعو إليه، والطريق الموصلة إليه، وما لمن أطاعه من الإهانة والعذاب يوم القيامة. فما أحسن تدبر القرآن، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، والعمل بسننه وأحكامه، والتفكر في معاني آياته؛ (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص:29].
ومن وسائل تربية النفس وتزكيتها: دراسة سُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنها المكملة للقرآن والموضحة له، وهي أحد الوحيين، وهي التي فصّلت لنا كتاب الله، وما جاء -صلى الله عليه وسلم- بشيء منها من عنده، وإنما هو من عند الله: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم:4].
ومن وسائل تزكية النفوس وتهذيبها: الحرص على الرفقة الصالحة والزملاء الصالحين، الذين يعينونك على طاعة الله، ويذكرونك إذا غفلت، فهؤلاء من أسباب علاج نفسك وتزكيتها.
ومن وسائل تزكية النفوس وتهذيبها: سلامة الصدر للمسلمين وعدم الحقد عليهم، وأن ينشغل العبد بنفسه عن غيره، فإنَّ القلوبَ السليمةَ والنفوسَ الزكيّة هي التي امتلأت بالتقوَى والإيمان، ففاضَت بالخير والإحسَان، وانطبع صاحِبها بكلِّ خلُق جميلٍ، وانطوَت سريرته على الصفاء والنقاءِ وحبِّ الخيرِ للآخرين، فهو من نفسِه في راحةٍ، والناس منه في سَلامة.
أمّا صاحب القلبِ الخبيث والخلُق الذميم فالنّاس منه في بلاء، وهو من نفسه في عَناء. وإنَّ المسلم لا يحمل في قلبِه على إخوانه سوءًا ولا ضغينة، ولا تطيبُ السيرةُ إلا بصفاءِ السريرةِ، وأصحابُ الأخلاق الحميدةِ هم أقرب الناس مجلسًا من رسول الله ، وأخلاقهم الصادقة وصفاءُ قلوبهم توصِلهم إلى مراتب عليا من الجنّة، لم يكونوا ليبلغوها بِنَوافل العباداتِ الأخرى.
ومن وسائل تزكية النفس وتهذيبها: الاستقامة على منهج الله -سبحانه-، والاستقامة كلمة جامعة لشرائع الدين من قيام بين يدي الله والصدق معه والوفاء بعهده، والاستقامة أمرها عظيم، وقد أمر بها الأنبياء والرسل، وهي شاقة على النفس، فتحتاج إلى المراقبة والملاحظة والتسديد والمقاربة، ومدار تحقيق الاستقامة على حفظ القلب واللسان، فمن صلح قلبه صلح حاله، وهي أعلى مقامات الدين.
أيها الإخوة: عودوا إلى ربكم، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واستقيموا على شرعه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..
التعليقات