عناصر الخطبة
1/أولى الحقوق بالوفاء والرعاية حقوق أولي القربى 2/فضائل وبركات صلة الرحم 3/المعنى الحقيقي لصلة الرحم 4/الثواب العظيم لواصل رحمه الذين يقطعونه 5/التحذير من قطيعة الرحماقتباس
صلةُ الرحمِ تكون بالبذل والمودة والعطاء، بالإحسان والألفة والوفاء، بالمواساة والزيارة التي تُوَطِّدُ أواصرَ القرابة، وتُوثِّق وشائجَ المحبة، وتزيد في التوادّ والتراحم، تكون بالتناصح والعون والإيثار والإنصاف، تكون بالكلمة الطيبة، والوجه الطَّلْق، والابتسامة الودود...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نِسَبًا وصهرًا، وأوجب صلة الأرحام وأعظم في ذلك أجرًا، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه أعظم الناس قدرًا وأرفعهم ذكرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعدُ: فإنَّ اللهَ خلَق الإنسانَ لطاعته الموجِبة لمرضاته، ونهاه عن معصيته الموجِبة لسخطه؛ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزَّلْزَلَةِ: 7-8]، فاتقوا الله -تعالى-، وبادِروا أعمارَكم بأعمالكم، وحقِّقوا أقوالكم بأفعالكم، فإن حقيقة عمر الإنسان ما أمضاه في طاعة الله، والكيِّس مَنْ دانَ نفسَه وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجز مَنْ أتبَع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانيَّ؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1].
معاشرَ المسلمينَ: إنَّ مِنْ أعظمِ الواجباتِ، وأجَلِّ الطاعاتِ، وأزكى القرباتِ أداءَ الحقوقِ والواجباتِ، وأعظمُ تلك الحقوقِ -عباد الله- وأَوْلَاها بالأداء والوفاء عندَ الله، حقوقُ ذوي الأرحام والأقرباء، الذين أوجَب اللهُ لهم حقَّ الصلة والمودة والوفاء، قال الله -تعالى-: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الرُّومِ: 38]؛ فأثبت الله للأقرباء حقًّا وأمر بأدائه، وقرن حقهم بتوحيده فقال: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)[النِّسَاءِ: 36]، فصلة الرحم من أعظم الحقوق والواجبات، ومن أفضل الأعمال والقربات.
عبادَ اللهِ: إنَّ صلةَ الرحمِ سبب للأخوة والوفاء، والمحبة والصفاء، وبها يموت الحقد والجفاء؛ لهذا شرَعها اللهُ -تعالى- وأوجبها، وحث عليها، وأخَذ بذلك الميثاقَ على مَنْ كان قبلكم، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)[الْبَقَرَةِ: 83].
أيها الناسُ: صلةُ الرحمِ من مقتضيات ولوازم الإيمان بالله واليوم الآخِر، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"(رواه البخاري).
صلة الرحم -عباد الله- من أسباب بسط الرزق والبركة في المال، وطول العمر، وزيادة الآجال، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: مَنْ سرَّه أَنْ يُبسَطَ له في رزقه، وأن يُنسَأَ له في أثره فليصل رحمه"(مُتَّفَق عليه).
معاشرَ المسلمينَ: صلةُ الرحمِ حقٌّ أوجبَه اللهُ، وعبادةٌ يُتقرَّب بها إليه، وإنكم ستُسألون عنها بين يديه؛ فاللهَ اللهَ في رحمكم وأقاربكم، صِلُوا مَنْ قطَعَكم، وأَعطُوا مَنْ منعكم، واعفوا عمن ظلمكم، وأحسِنوا إن الله يحب المحسنين، ثم اعلموا أن صلة الرحم ليست بالمجازاة والمكافأة، بل بالاحتساب والمبادرة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلًا قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَنِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ. فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُم الْمَلَّ -وهو الرَّماد الحارّ-، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِن اللهِ ظَهِيرٌ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ"(رواه مسلم)، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا"(رواه البخاري).
وأفضل الأعمال -عبادَ اللهِ- مجاهدة النفس في مودة وصلة القاطع من الأقرباء؛ فإنَّها غير مشوبة بحظوظ النفس، فعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أن رجلًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الصدقات أيها أفضل؟ قال: "على ذي الرحم الكاشح"(رواه أحمد)، والكاشح: القاطع المضمر للضغينة.
بَنِي قومنا إنَّ الضغينةَ شرُّها *** ضغائنُ تبقى في نفوس الأقارب
مِنَ الناسِ مَنْ يَغشَى الأباعدَ نَفعُه *** ويشقى به حتى الممات أقارِبُه
وما خيرُ مَنْ لا ينفع الأهلَ عَيشُه *** وإن مات لم تجزع عليه أقاربُه
عبادَ اللهِ: صلةُ الرحمِ تكون بالبذل والمودة والعطاء، بالإحسان والألفة والوفاء، بالمواساة والزيارة التي تُوَطِّدُ أواصرَ القرابة، وتُوثِّق وشائجَ المحبة، وتزيد في التوادّ والتراحم، تكون بالتناصح والعون والإيثار والإنصاف، تكون بالكلمة الطيبة، والوجه الطَّلْق، والابتسامة الودود، وبغير ذلك من أعمال الخير، وهي غير محصورة بعمل، بل المعول على العرف، وهو يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمنة، والواجب منها ما يعد به في العرف واصلًا؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشانه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيها الناسُ: لقد حرَّم اللهُ -تعالى- قطيعةَ الرحم وحذَّر منها، قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 22-23]؛ فقطيعةُ الرحمِ ذنبٌ وكبيرةٌ تُوجِب اللعنةَ والعقابَ، وظلمٌ يُؤدِّي إلى إيحاشِ القلوبِ ونُفرَتِها وتأذِّيها، وأيُّ ظلمٍ أشدُّ مِنْ قَطْعِ ما أمَر اللهُ به أن يُوصَل، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[الرَّعْدِ: 25].
أيها الناسُ: الرحمُ أثرٌ من آثارِ رحمةِ اللهِ -تعالى-، مشتبكةٌ بها، فمَنْ قطعَها كان منقطِعًا من رحمة الله، ومَنْ وصَلَها وَصَلَتْه رحمةُ اللهِ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يا ربِّ، قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ"(مُتَّفَق عليه)، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ"(رواه مسلم).
ولقد أعلى الله من شأن الرحم؛ إذ اشتق منها من اسمه، فعن عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -عز وجل-: أنا الرحمن، وهي الرحم، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"(رواه الحاكم).
أيها الناسُ: صلة الرحم بقاء، والقطيعة فناء، صلة الرحم أجر وثواب، والقطيعة إثم وعقاب، عن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة قاطع رحم"(مُتَّفَق عليه)، وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله العقوبة لصاحبه في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم"(رواه أحمد).
وبعدُ عبادَ اللهِ: فاتقوا الله -تعالى-، وحاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، وأبرئوا ذممكم قبل الموت، وصِلُوا أرحامَكم، واحتسِبُوا الأجرَ عند الله، صِلُوا مَنْ قطَعَكم، وأَعطُوا مَنْ منَعَكم، واعفوا عمَّن ظلَمَكم، فإنَّه أبقى لكم في الدنيا، وخير لكم في الآخرة، (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[الْبَقَرَةِ: 195].
ثُمَّ صلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على مَنْ أمرَكم اللهُ بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ انصُرْ دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهمَّ آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وَقِنَا عذابَ النار، اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ بتوفيقِكَ، وأيِّده بتأييدِكَ، اللهمَّ وفِّقه ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضى، يا سميعَ الدعاءِ، اللهمَّ اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ احفظ حدودَنا، وانصر جنودَنا المرابطينَ، يا قويُّ يا عزيزُ، اللهمَّ آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها. عبادَ اللهِ: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم؛ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
التعليقات