عناصر الخطبة
1/القرآن محفوظ في الصدور والمصاحف 2/تيسير حفظ القرآن 3/ من وجوه إعجاز القرآن العظيم وخصائصه 4/فضائل حفظ القرآن العظيم 5/إكرام الله تعالى لحَمَلة كتابه.اقتباس
كان يُفاضِل بين أصحابه الكرام في حفظ القرآن، فيعقد الرَّاية لأكثرهم حفظاً، وإذا بعث بعثاً جعل أميرَهم أحفَظَهم للقرآن، وإمامَهم في الصلاة أكثَرَهم قراءةً للقرآن، ويُقدِّم لِلَّحْد في القبر أكثرَهم أخذاً للقرآن، ورُبَّما زَوَّج الرجلَ على ما يحفظه في صدره من القرآن..
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حِفْظُ القرآن العظيم هو الأصل في تلقِّيه، قال -تعالى-: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)[العنكبوت: 49]. فقد أكرم الله -تعالى- هذه الأمة بأن جعل قلوبَ صالحيها أوعيةً لكلامه، وصدورَهم مصاحف لحفظ آياته. وقال الله -عز وجل- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث القدسي: "إنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وأَبْتَلِيَ بِكَ، وأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتاباً لا يَغْسِلُهُ المَاءُ"؛ ومعنى ذلك: أن القرآن العظيم محفوظ في الصُّدور، وسيبقى على مَرِّ الزمان.
ومن أعظم نعم الله -تعالى- على عباده أنْ يَسَّرَ لهم حِفْظَ القرآن الكريم. قال -تعالى-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر: 17، 22، 32، 40]. "أي: سَهَّلناه للحفظ وأَعَنَّا عليه مَنْ أراد حِفْظَه، فهل مِنْ طالبٍ لحفظه فَيُعَانُ عليه؟".
والواقع المشاهَد يُصَدِّقُ هذا التَّيسير، فقد حَفِظَ القرآنَ حُفَّاظٌ لا يُحصَون عدداً في كل جيل ومن كل قَبيل، لا يُخطئُ أحدُهم في كلمة ولا حرف، سواء كانوا عرباً أم عجماً، وأكثَرُ الحفاظ العجم لا يعرفون من العربية شيئاً، وربما قرأ الواحد منهم القراءات السَّبع والعشر عن ظهر قلب.
وقد عَدَّ الإمام أبو الحسن الماوردي -رحمه الله- هذا الأمر وَجْهاً من وجوه إعجاز القرآن العظيم وخصائصه التي تَميَّز بها عن سائر كتب الله -تعالى-، فقال: "مِنْ إِعجازِه تيسيره على جميع الألسنة، حتى حَفِظَه الأعجميُّ الأبكم، ولا يُحفظ غيره من الكتب كحفظه،.. وما ذاك إلاَّ بخصائص إلهية فَضَّله بها على سائر كتبه".
أيها الإخوة الكرام: إنَّ حِفْظَ القرآن العظيم فيه تأسٍّ بالسَّلف الصالح، فهو أصل الأصول، والمعَوَّل عليه في جميع الأمور، وهو مرجعٌ أساس لسائر المناهج والعلوم، فكانوا لا يبدؤون إلاَّ به، وما أن نقرأ في ترجمة أحدٍ من أهل العلم إِلاَّ ونرى في سيرته: حَفِظَ القرآنَ الكريم، ثم ابتدأ بطلب العلم.
وكان كثير من السَّلف -رحمهم الله- يرفضون تدريس الحديث وغيره من العلوم للحَدَثِ؛ حتى يحفظ القرآن أولاً؛ قال النَّووي -رحمه الله-: "كان السلف لا يُعَلِّمُون الحديث والفقه إلاَّ لمن يحفظ القرآن".
وعَدَّ ابنُ جماعة -رحمه الله- الأدبَ الأوَّلَ من آداب طالب العلم: "أن يبتدئ بكتاب الله العزيز ، فيتقنه حفظاً، ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه، فإنه أصلُ العلم وأُمُّها وأهَمُّها".
ولم يترك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمراً فيه تشجيع على حِفْظِ القرآن العظيم إلاَّ سلكه، فكان يُفاضِل بين أصحابه الكرام في حفظ القرآن، فيعقد الرَّاية لأكثرهم حفظاً، وإذا بعث بعثاً جعل أميرَهم أحفَظَهم للقرآن، وإمامَهم في الصلاة أكثَرَهم قراءةً للقرآن، ويُقدِّم لِلَّحْد في القبر أكثرَهم أخذاً للقرآن، ورُبَّما زَوَّج الرجلَ على ما يحفظه في صدره من القرآن.
معشر الفضلاء: وحين يدخل المؤمنون الجنة، فإنَّ لحافظ القرآن شأناً آخر؛ حيث يعلو غيرَه في درجات الجنة لتعلو منزلته، وترتفع درجته في الآخرة، كما ارتفعت في الدنيا. عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرآنِ: اقْرَأ وارْتَقِ، ورَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا". فأفاد الحديثُ الشريفُ الترغيبَ في حفظ القرآن.
قال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله-: "الخبر المذكور خاص بمن يحفظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف؛ لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلَّةً وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه هو الحفظ عن ظهر قلب، فلهذا تفاوتت منازلهم في الجنة بحسب تفاوت حفظهم".
والفوز بهذه المنزلة العالية له شروط، ومن أهمها: "أن يكون حِفْظُه لوجه الله -تبارك وتعالى-، وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلاَّ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "أكْثَرُ مُنافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا". فيا لها من سعادة للحافظ المُخْلِص والحافظة المخلصة إذا قيل لأحدهم: "اقرأْ وارقَ ورتِّلْ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". تُرى إلى أين يرقى؟ قال الطِّيبي -رحمه الله-: "هذه القراءة لهم كالتَّسبيح للملائكة لا تشغلهم من مستلذاتهم بل هي أعظم مستلذاتهم".
عباد الله: وممن رفعهم الله -تعالى- بالقرآن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي -رضي الله عنه- وهو من أواخر صغار الصحابة، كان مولى لنافع بن الحارث. عَنْ عَامِرِ بْنِ واثِلَةَ؛ أنَّ نافِعَ بْنَ الحارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفانَ. وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلى مَكَّةَ. فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أهْلِ الوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ الله -عز وجل-، وإِنَّهُ عَالِمٌ بِالفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَالَ: "إنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذا الكِتَابِ أقْواماً ويَضَعُ بِهِ آخَرِينَ".
فهذا مولى مِنَ الموالي لا جاه له، ولا مال، ولا حسب، ولا مكانة عُليا في المجتمع، وربما كان في السُّلَّم الاجتماعي دون غيره بمقاييس أهل الدنيا، ولكنه بمقياس القرآن شيء آخر، وله مقام آخر. فقد رَفَعَه القرآن مِنْ مقام المولى إلى مقام الولاية، وعِلْمُهُ بالقرآن أَهَّلَهُ لأن يحكم ويقضي بين الناس، وتكون له الكلمةُ النافذة، والرأي المسموع في المجتمع.
والحافظ أولى الناس بالإمامة: عن أبي مسعود الأنصاريِّ -رضي الله عنه؛ أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتابِ اللهِ..."، وهذا مقام آخر من مقامات الأفضلية للحافظ، بأن قُدِّمَ على كُلِّ مَنْ حضر في المسجد للصلاة.
والحافظ مُقَدَّمٌ في المشورة: عن ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: "كَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ ومُشَاوَرَتِهِ، كُهُولاً كانوا أو شُبَّاناً".
والحافظ مُقَدَّمٌ في قبره: فكما أعلى اللهُ -تعالى- شأنَ حافظِ القرآن في الدنيا، فقد أعلى شأنه في الآخرة، فهو أولى الناس بالتقديم حتى بعد موته: عَنْ جابِرِ بنِ عبدِ الله -رضي الله عنهما- قال: كان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أخْذاً لِلْقُرآنِ". فإذا أُشيرَ لهُ إلى أَحَدِهِما قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ، فقال: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ".
وإذا كان التَّفاضل بالقرآن بين الشهداء، فالتَّفاضل به بين الأحياء ولا شَكَّ أكبر وأعظم: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين: 26]. فليتأمل المسلم هذا الأمر جيداً، ويقف عنده طويلاً، ومِنْ ثَمَّ يقوده للعناية بالحفظ والإكثار منه والصبر عليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
ومن تمام إكرام الله -تعالى- لحملة كتابه أنْ جعلهم من أهله وخاصَّته، وهو شرف عظيم، وتكريم لحفَّاظِ القرآن لا يُدانيه أيُّ شرف يسعى إليه الناس في الدنيا. عن أَنَس بنِ مالكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاس"، قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمْ أَهْلُ القُرآنِ، أهْلُ اللهِ وخَاصَّتُهُ"(صحيح الجامع ٢٥٢٨).
وإذا اخْتَصَّ المخلوقُ أحداً من المخلوقين قَرَّبَهُ منه وأفاضَ عليه مِنْ إكرامه وعطائه ومحبَّته الشيءَ الكثير، فما الظَّنُّ بالله الكريم -وله المثل الأعلى في السماوات والأرض- مالِكِ المُلك ذي الجلال والإكرام. فَلْينتسب كلُّ إنسان لما يتمنَّى ويرغبُ مِنْ أهل المال أو الجاه أو المناصب أو الشُّهرة، ولْتَجُدْ القواميس بكلِّ وصفٍ وثناءٍ، فهل تأتي بأكملَ مِمَّا وُصِفَ به حملة كتاب الله: "أَهْلُ اللهِ وخَاصَّتُهُ"؟
عباد الله: وإنَّ أعظم ما يسعى إليه المسلم أن يُزحزحه الله -تعالى- عن النار ويدخله الجنة، وقد أكرم الله -تعالى- حُفَّاظَ كتابه بنجاتهم من النار وعدم إحراق أجسادهم فيها؛ لعظمة ما في صدورهم مِنْ كلامِ الله -تعالى-؛ فعن عُقْبَةَ بنِ عَامرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كَانَ القُرآنُ في إِهابٍ مَا أَكَلَتْهُ النَّارُ"(صحيح الجامع ٥٢٨٢). والمعنى: لو قُدِّرَ أنْ يكون في إهاب ما مسَّته النار ببركة مجاورته للقرآن، فكيف بمؤمنٍ تولَّى حِفْظَه والمواظَبةَ عليه، والمرادُ نار الله الموقدة.
فهنيئاً لمن حَفِظَ كتابَ الله فجمعه في صدره، وعَمِلَ بما فيه، هنيئاً له بهذه البشارة في النجاة من النار، وهذا من أعظم فضائل حفظ القرآن الكريم، فهل من مُشَمِّرٍ لذلك؟!
التعليقات